كه يلان محمد يرافع عن القارئ أمام محكمة القراءة والنقد

الكاتب العراقي يرى ان القارئ ينتشل النص من السبات ليخرجه إلى حالة الوجود.
فريدة حسين
الجزائر

ينشر كه يلان محمد في منابر ومنصات عربية عديدة، صدر له مؤخرا كتاب بعنوان "كهف القارئ"، يتناول فيه خصوصية فن الرواية واتجاهات الكتابة في هذا الجنس الأدبي، كما يلفت إلى دور الناقد وموقعه مقابل حضور القارئ بقوة في الوسائط الالكترونية، وسيصدر له كتاب عن دار "قناديل" في بغداد بعنوان "مأدبة السرد".

1- نبدأ بإصدارك الجديد "كهف القارئ"، هل يمكنك تقديمه للقراء؟

كهف القارئ كتاب عن الرواية يرصدُ علاقة هذا الجنس الأدبي بغيره من الفنون والأشكال الأدبية الأخرى، وهو بمثابة دليل لعالم الرواية وما شهدتهُ آليات الكتابة الروائية من التطور وتطويع الأدوات الجديدة في تصميم النص الإبداعي، كما تتناولُ محتويات الكتاب أيضاً مواصفات الرواية ومرونتها في التواصل مع المعطيات الحياتية، هذا إضافة إلى تحديد البنية السجالية في تشكيلة العمل الروائي، فمن المعلوم أنَّ الرواية تتقاطعُ مع الحقول المعرفية والمشاريع الفلسفية بقدر ما هي تتصادمُ مع المتواضع عليه اجتماعياً وسباسياً ودينياً، لذلك ترى الروائي شخصاً مثيراً للريبة بالنسبة للسلطة. ويُفردُ قسم آخر من الكتاب لتقديم قراءات حول مختارات من الرواية العالمية.

 

2- ما الفرق بين النقد الأدبي والنقد الثقافي؟ وكيف تغيّرت الساحة النقدية في خضم الزخم المصطلحي والمفاهيمي؟

النقدُ الأدبي يشتغلُ على ما يجعلُ الملفوظ اللساني أدبياً ويسألُ بشأن مقومات الخطاب الأدبي في معطيات نصية. وبذلك يتم تأسيس النماذج المعيارية المُلهمة للتذوق والتعاطي مع الأعمال الإبداعية، لكن النقد الثقافي لا يتقيدُ بالمكون اللغوي في تحليل الخطاب بل يتعاطى مع الكيانات اللفظية على اعتبار أنها تجليات لأنماط الحياة والسلوكيات والأنساق المهيمنة. في النقد الثقافي يكونُ السؤال عن النسق بديلاً عن سؤال النص، كذلك يحلُ السؤالُ عن المضمر مكان السؤال عن الدال ويصرفُ النظر نحو آلية الاستهلاك الجماهيري. هذه مباديء للنقد الثقافي حسب ما حدده عبدالله غذامي. وتمتدُ حفريات النقد الثقافي نحو الهامش والمُهمل والمنسي والمضمر،  وذلك يعني الانزياح عن المدار النخبوي. لاشك أن النقد مُتشابك مع الحقول المعرفية المتنوعة وبإمكان الناقد تطويع الأدوات المُستعارة من مجالات متعددة لصياغة آلياته الكاشفة لهوية النص الأدبي بيد أنَّ ضخَ البيئة بالمُصطلحات والسيولة النظرية والانسياق وراء الصيحات الوافدة، كل ذلك ليس مؤشراً لنقلة نوعية في المختبر النقدي.

 

3- تؤكد على أن المؤلف يراهن على القارئ لخروج منجزه الأدبي من العتمة، ماذا تقصد؟

يدورُ الكلامُ غالباً عن المؤلف وُتسبغُ  على منجزه الإبداعي صفات فخمة لكن ما يقومُ به القارئ ليس أقلَّ قيمةً لأنَّ الأخير ينتشلُ النص من السبات ويجدُ له مساحةً للتداول وبذلك يخرجُ إلى حالة الوجود بالفعل. وما يقولهُ بعض المبدعين بشأن عدم اهتمامهم برأي القاريء كلامُ يوحي بغرور فارغ. وربما ما ينطقون به يخالفُ تماما حقيقة ما يعيشونه من حالة الترقب لردود فعل القراء.

 

4- قلت إن الاشتغال النقدي لم يعد عاملاً لاكتشاف النصوص، كيف ذلك؟ وهل للقارئ دور ما في هذه المعادلة؟

النقد هو اكتشاف لهوية النص الإبداعي، وما يجبُ إدراكه ونحن نتحدث عن مهمة الناقد أنَّ المادة الأدبية تقدمُ الوصفة التي تمكنُ المتلقي من فك رموزها واكتشاف طبقاتها المرئية واللامرئية، وليس المرادُ بهذا الكلام تهميش دور الأدوات النقدية في تعميق الوعي بالنص الأدبي واستنطاق المضمر في بنيانه، لكن الجوهر في مقاربة النص هو التذوق واكتساب الدراية من خلال القراءة، وليس مداهمته أو محاكمته وفقاً للمحددات التي تضيقُ المجال على إمكانيات المناورة مع المعطي الإبداعي . أيا يكن الأمر لا يصحُ إطلاق العنان لحملة  النهايات، ونضيف مقولة نهاية النقد إلى موجة النهايات التي تصاعدت في الوسط الثقافي، غير أنَّ الناقدَ لم يَعُد الطرف الذي يقدمُ إليه المؤلفُ أوراق اعتماده. ويبدو أن الناقد الأدبي أقل فاعلية من القارئ العادي.

 

5- كيف يمكن للقارئ أن يتحكم بإيقاع حركة الكتابات الإبداعية؟

لا يوجدُ بين المؤلف والقارئ سوى جدار أزرق، ومن المفارقات الغريبة أن هذا الجدار ليس فاصلاً بين الطرفين كما هو معروف عن وظيفة الجدار بل أصبح الجدار الرقمي مساحة مشتركة تنفتحُ على قولٍ وما يستبعه من أقوال وبالطبع أن هذه الحاضنة الافتراضية يتفاعلُ في أثيرها المبدع مع الآراء المنشورة ويتأثرُ بما يقولهُ القراءُ عن فحوى مؤلفاته، لذلك يهتمُ  بثيماتٍ تستقطبُ عدداً أكبر من المتابعين، هنا يمكن أن نضربَ مثالاً بثيمة الهروب من المجتمعات المُغلقة إلى الفضاءات المنفتحة وما يعقبُ ذلك من التحول في الشخصية الرئيسة، وغالباً ما تكون الأماكن متشابهة والمواقف متقاربة ولكن الأسماء تتغير وتتبدلُ أو ربما يكون البطل رجلاً في رواية ما ويسندُ هذا الدور البطولي للمرأة في رواية أخرى. كيف نفسر تضخم الإصدارات الروائية التي مُستلهمةُ مادتها من أجواء الحرب دون وجود الفرق في التشكيلة؟ يَصعبُ على الكاتب أن تمرَ عليه سنة ولا يصدرُ له عمل جديد فقد أصبح مُطالباً بتسجيل الحضور في وسائطه الرقمية.

 

7- كيف يمكن تأسيس رؤية نقدية جديدة "تفاعلية" تتماشى مع التطورات التقنية؟

لا تتوقف مهمة النقد في عصر الثورة الرقمية عند حدود النصوص وتحليل مكوناتها الخطابية بناءً على عملية التجنيس بل يجبُ رصد دور الوسائط الجديدة في تشكيلة التذوق ومستويات التلقي خصوصاً نحن نعيشُ في زمن أفول الأيقونات الأدبية ما أنْ يتم تتويجُ مجموعة من الأسماء على منصة النجومية حتى تعقبُ ذلك موجة جديدة من العناوين المؤثرة على المناخ الأدبي، وهذا ما يفرضُ على الناقد تحديث أدوات علبته وإلا سيكون "كومبارسا" في المشهد.

8- هناك من الكتاب من يرفضون وجود "قارئ أذكى من الكاتب"، ما يمكنك قوله بوجهة نظر النقاد؟

إن التفاضل بين مستويات الذكاء غيرُ مفهوم ولا مبرر لهُ كون المرءِ كاتباً أو مبدعاً لا يعطيه العصمة من الخطأ في خياراته ولا يجعلهُ متفوقاً على القاريء في الذكاء والبصيرة. كما لا يعني بأنَّه يحظى بعقل خارقٍ .الكتابة لا تختلفُ عن أي مهنة أخرى إذا أتقنتها فهذا ما يكسبُ المادة قيمة أما بخلاف ذلك فإنَّ مجرد الانضواء إلى معشر الكتاب من خلال النشر والتأليف لا يوفرُ حظوة التميُز للنص ولا لصاحبه. ويحدثُ أن يتفوق خيال القارئ على مكر المبدع في أثير النص وبذلك تتفرغُ اللعبة من طاقة التشويق. أما القول بأنَّ المؤلف هو أكثر ذكاءً من القاريء ليس إلا من ترسبات مفهوم السيادة التي لم يتحرر المثقف أو المبدع من موجهات أنساقها .

 

9-- يعتبر الشاعر الجزائري عمر أزراج أن هويات القصيدة الشعرية والنص الروائي والقصصي والمسرحي تتعدد بتعدد هويات قرائه، ما تعليقك؟

خلفية القارئ الثقافية تلعبُ دوراً لافتاً في الوصول إلى مداخل النص وامتلاك مفاتيحه، وذلك يكونُ عاملاً لتحديد هوية النص وخصوصيته تنسحبُ هذه المعادلة على المنجزات الإبداعية بأشكالها كافة. نعم القاريءُ هو المبادرُ بكشف أبعاد النص المغمورة وما يستمدُ منه ركائز تميزه وفرادته. ولا يضيفُ التلقي الآلي شيئاً إلى بنية النص الأدبي كما لا يجدي نفعاً بالنسبة للقاريء هو أقرب إلى الاستهلاك العابر.

 

10- يواكب النقد الأدبي اللحظات المهمة في تاريخ المجتمعات الإنسانية، هل أدى النقد العربي مهامه؟

الحديثُ عن التجديد والانطلاقة نحو الأفق العقلاني في التفكير ليس إلا عبثاً دون تدشين مشروع النقد، طبعا هناك محاولات على الصعيد العربي لنقد التراث ونقد الفكر الديني ونقد مشروع الحداثة الشعرية، كما لا يغيب نقد النقد في هذا السياق، لكن ما يجب أن نتساءل بشأنه هو محصلة هذه المشاريع النقدية وما تمخض عنها على مستوى جودة التفكير والتمكن الإبداعي والإدراك الوعي بالأزمات وتناسل حلقاتها، التي تأخذ بتلابيب الحاضر وترتدُ بنا نحو الماضي الغارق في لجة توهُماتنا.

 

11- يعتبر الكاتب التونسي الطاهر أمين أن المقاربة النقدية تستوجب أن نعيد التساؤل وأن نعيد تحديد مفاهيمنا وأدوات التحليل. برأيك كيف يتم ذلك؟

السؤال يذكرني برأي هيغل عن الحضارة الشرقية وفشلها في صياغة المفاهيم، ربما يوجدُ من يحمل على صاحب ظاهريات الروح ويعتبرُ ما قاله ثمرة لعقلية استعلائية لكن هذا القول الهيغلي  لا يخلو من الصواب، صحيح قد شهدت الحضارة الإسلامية حراكاً فلسفياً وفكريا واحتضنت التيارات والمذاهب  المتعددة وأسفر النقاش الحامي بين أقطابها عن نشوء المقولات اللاهوتية والفلسفية، لكن كل ذلك لم يتم التأسيس عليه وما هيمنَ على واقعنا في نهاية المطاف هو العقلية الإقصائية التي تؤمن بفروض عقائدية بدلاً من الحوار، لذلك فمن الأجدر بنا السؤال عن إمكانية تعدين المفاهيم قبل التحول إلى عملية تجديد الآليات والمفاهيم الفكرية. أما بالنسبة لصياغة الأسئلة التي تُمثل واقعنا الحضاري المتأزم فإلى الآن لم نتجاوز ماطرحه الكاتب اللباني شكيب أرسلان "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ؟"

12- هل يتجرأ العقل النقدي العربي المعاصر على كسر أصنام الموروث؟

نحن أقوام مغرمة بصناعة الأصنام وحتى  الأديان لم تتمكنْ من استئصال شأفة هذه الرغبة الضاربة بجذورها في تاريخنا، إذ وفقنا في إعادة نحت الأصنام بأشكال جديدة داخل منظومة العقيدة التوحيدية، وما نعاني منه ويفتك بالعقل هو زحمة المقدس وتمظهراته في مجال السياسية والأدب والثقافة. لذلك أقول لك لا تحلمي بعالم بدون أصنام  لا يُحطم صنمُ إلا ويصنع له بديلُ من جديد.