محمد حسن خطاب في حالة من السعي الدائم

الفنان التشكيلي تتلمذ على يد كبار الفنانين المعاصرين وأهمهم لا على مستوى سوريا فحسب، بل على مستوى العالم العربي.

تحتار من أين تبدأ وأنت تقبل على عالم فنان تشكيلي له كل هذه الخصوصية، نعم تحتار أي باب تدق فعالمه أشبه بالمدن القديمة لها أكثر من باب وإن كانت جميعها تؤدي إلى حيث الانعتاق، حيث تظهر الوقائع على نحو مختلف ومغاير، لكن يجب أن تدق إحداها لتفتح لك وتلج ذلك العالم وتبدأ بعملية الكشف والنقب اللذين لا ينتهيان مهما امتدت مدة مكوثك فيه.

أتحدث هنا عن عالم محمد حسن خطاب أو غريب حسن كما يحب أن يسمى به ابن مدينة نوى الواقعة في حضن حوران جنوب البلاد، عالم مختلف ومهم، تتكون فيه الذات بمستويات غير معينة، وفي إطارات غير مقيدة وإن كانت الطبيعة تسوده، فهو يمضي إلى أبعد من مظاهر الأشياء، بل إلى أبعد من الوقائع بحد ذاتها، فهو الذي كان وما يزال الفن شغله الشاغل، عاشقا له منذ بداية رحلته معه والتي كانت مبكرة جدا، يتعامل مع المشهد كما لو أن جماله ينبع من بين أضلعه، له قدرة فائقة على النظر إلى ذاته، تلك الذات الهائمة في الحياة بفضائها الرحب، وبتنوع حقولها.

نعم له قدرة فائقة على ارتيادها ومواجهتها بالحقائق القاسية مهما كانت علاقتها بتاريخها وهويتها وخصوصيتها وبتلك الأسئلة الشائكة، والتي تحيله إلى أخذ وجهة نظر لها استراتيجيتها إن كانت في محاولاته لتجسيدها في تجربة لها مدارها، أو في إدراجها كفعل حقيقي يحمل زمنيته الخاصة، وكذلك يحمل رموزه الخاصة والموظفة توظيفًا دلاليًا والتي تقوم بالكشف عن دورها المنوط بها في سياقها السردي، والذي يفترض به أن يقرب قارئها على نحو جلي، فهو يبتكر مفردات لها وقعها المناسب تماما على معظم افتراضاته الخاصة، علاوة على أنها تمنح أشكاله دلالات تبدو كما لو أنها من وقائع الحياة المتخيلة لديه مع أنها في حقيقة الأمر ثمرات لتلك الأشكال بوصفها تحولات لا ثوابت.

ما أريده لهذه القراءة إضافة إلى أنها محاولة للغوص في بحار غريب حسن علنا نفوز ببعض مرجانه ولآلئه، ونظهرها للآخر، ونبين قيمتها المعرفية والجمالية معا، هي أن تساعد هذا الآخر وأقصد متلقيه على فهمه وعلى فهم بعض مفاهيمه الأساسية التي استخدمها في بناء سجالاته الواسعة،فينبغي علينا الإشارة أيضا إلى تلك الآليات التي بها يدعو متلقيه وهو معه إلى تخصيب أفكاره بعيدا عن قولبتها، فهو في جميع الأحوال يدعو إلى الميكانيكية في التفكير.

لوحة

وهذا سيكون العون الأكبر لنا كمتلقين على فهمه وفهم تعريفاته الفاعلة فينا ونحن نركن بتأمل أمام أعماله التي تحاط بهالة من الأهمية، فهو يعزز بها رؤيته للعالم، الرؤيا التي تحمل من التحدي الكثير، التحدي الذي جعله يثبت بأن الفن الرفيع له من القدسية ما يضعه ضمن أولوياته كإنسان، قدسية لا تقيد نفسها إلى الوقائع ولا إلى مظاهر الحياة وثقافتها وقشورها، ولا يقارب الفن المتاح للعموم بل يبحث دائما عما هو أشد فاعلية وأكثر دفعا نحو التحريض والتفكير، فكما هو على استعداد على خوض هذه المخاطرة إذا جاز لنا تسميتها بذلك، على متلقيه أن يبدي استعداده لها أيضا.

والأمر هنا يدعو العمل معا هو ومتلقيه على كسر العوائق كلها التي قد تظهر هنا أو تلد هناك، وهو لا يكتفي بذلك بل يبررها، وبأن حقيقة ما يجري بالفعل هو ما يطلقه عبر أعماله ضمن سيرورة ديالكتيكية تتيح له نظرات ثاقبة تعينه على نحو واف بمصادقة تلك السيرورة وحل عقباتها، وكأنه بذلك يقول لنا بأن الواقع مهما كان محاطا بهالات كثيرة فليس من الصعوبة كشف مكنوناتها، وتجاوز تلك العوائق التي تصنعها تلك الهالات، فهو بالفعل يعارض الفعل التواصلي بين تلك المكنونات إن كانت سطحية، ويوافق عليها إن كانت مصوبة نحو الداخل وهنا تبدأ عمليات التنبؤ بالحضور والولادة والتي تقوم على أساس من المعايير التوافقية إلى حد ما.

وحري بي القول وعلى ما يبدو لي على الأقل بأن غريب حسن في حالة من السعي الدائم، السعي الذي لا ينحصر في حلقة مغلقة، بل بكل ما يؤججه من مراتعه البعيدة أو القريبة حتى يتسامى مع المسافات وكأنه يرغب في التهامها. 

أرسم الواقع كما أراه، لا كما هو، قالها غريب حسن مرارا، وقد قالها غيره أيضا، وسيقولها الكثيرون، فهذه وجهة نظر الغارق في التشكيل إلى حد الشغف، وتكاد توجز ماهية الأسلوب، وماهية الفنان، بل تكاد تكون الرد على السجالات الخلبية التي نعيشها حول الواقعية.

نعم نظرة غريب حسن ثاقبة تشجع الفنان الفرد على أن يكون معنيا بنفسه، ويبدي استعدادا على نحو دائم أن يكون نفسه، نفسه فقط، ولا أحد غيره، استعدادا لفعل تواصلي يعزز عالمه، ويميز خصائصه لا ضمن معايير متفق عليها، بل ضمن معاييره هو، ليستكشف الصلات بين تكويناته على أمل إيجاد حالات خاصة به، حالات تجمعه بها، لا يتعالى عليها، بل يوسعها بسجالات يسمو بها، وبها يزداد حلمه المتجه إلى أمكنة تسكنها وقائعه وملاحظاته، أمكنة تلبي حاجاته باختباراتها القابلة للرصد، فهو يُدخل مفهوم تحليل الأشكال، أقصد أشكال إنتاجه، إلى أسلوبه الذي بدأ يتطور حتى بات يحمل نظرته على طبق جمالي، وبأن ذات الفنان ولاوعيه قادران أن يلعبا دورا مهما في تفعيل فعلهما في بناء أشياء ترى لا بوصفها موضوعات يمكن التلاعب بها فحسب، بل بوصفها محرك لتلك الذات وإدراكاتها، فغريب هنا يمضي دون خوف ودون قلق، بل كأنه في نزهة يرى كل ما فيها من جمال طبيعي عليها تترتب فعله وما تحكمه من قواعد تقنية، وفي ضوء ذلك فهو يختزل الأشياء كلها لا بوصفها موضوعات قادر أن يلتمس السيطرة عليها والتحكم بها فحسب، بل بوصفها ألق ضوئية تدفعه صوب ضروب غير محددة هي الأكثر دقة والأكثر اختزالاً والأرهف ظلالاً، وهذا يكاد يشكل الأساس في إنتاجه على هيئة غايات غير معينة بأميز طريقة ممكنة بالنسبة إليه، فإلى جانب تنامي بزوغه دون ارتياب يدعو إلى تناول الأشياء من جوهرها بأسلوبه الرشيق وبمقدرته الواضحة، فخلاصة الفكرة هنا أن يكون في أماكن متعددة في الوقت ذاته وبطريقته هو، وبهذا يرسم لنفسه نمطا من الأشكال ينزع بها نحو تحولات من أولوياتها أن يكون له لونه الخاص به. 

بدأت علاقة غريب حسن مع الريشة من الخط، كان له اهتماماته وإنجازاته في الخط العربي، وكان معروفا بذلك في مدينته، قد تكون هذه البوابة هي التي منحته شرف الدخول إلى عالم الحياة، أقصد عالم اللون والريشة، منحته الانتماء إلى هذا المكون العذب، المكون الذي يجعلك تستعيد صوتك الحقيقي، الأصيل، الصوت الذي إليه تعزو الكثير من مفرداتك، ويساهم في إفهامك بأن الوعي الصائب يقارع هنا، رغم النفور المتعاظم من النظرة الأداتية التي باتت تسيطر على الحياة الحديثة على نحو متزايد، ويلح عليك بأنه يجب ألا تقصر اهتمامك على ما هو مفيد تكتيكيا في تحقيق الغاية الجمالية، بل لا بد من استراتيجية تتكئ عليها، وعلى هذه تترتب جوانب من الممارسة التي تصورها أنت على نحو أداتي، وأنت أهل لها، وكذلك في تبيان الكيفية التي تجري عليها، إن كانت في عمليات التحرر من العثرات وتجسيد نظرية صائبة، أو في سعيك إلى تعزيز تكوين الذات لذاتها فتبدأ حينها عملية تثبيت تلك الذات متمثلة بعلاقة النظرية بالممارسة، وهذا يساعد على نحو كبير على الانعتاق الإنساني الذي تصبو إليه كل الأزاميل والريش.

بحصوله على الثانوية العامة التحق بداية بكلية الهندسة المعمارية، ولكن سرعان ما غير اتجاه بوصلته نحو كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق المكان الذي يليق به رغم أن العمارة ليست غريبة ولا بعيدة عن هذا المضمار الذي يحب أن يخوض فيه، ليتخرج منها وتحديدا من قسم التصوير الزيتي.

تتلمذ على يد كبار الفنانين المعاصرين وأهمهم لا على مستوى سوريا فحسب، بل على مستوى العالم العربي نذكر منهم: فاتح المدرس، وميلاد الشايب، ومحمود حماد، وخزيمة علواني، ونذير نبعة، وإلياس الزيات، وعبدالمناف شما وآخرين، لينهل من ينابيعهم ما تيسر له من ماء زلال، وخمر معتق، وجمال صاف، دون أن يقلدهم أو يقع تحت سطوتهم، ولم يبال بالمدارس ولم يقيد نفسه بإحداها بل بقي طليقا بينها، بل بقي محلقا بينها جميعا، مدركا أن عفويته، وارتجالاته بقيت هي جناحاه اللذان يخططان له وجهته وشخصيته وأسلوبه، ناهلاً من مخزونه القديم الجديد والضاج بأحاسيسه ومشاعره وإنسانيته كل ما يجعله يعترف بأن هذه الحياة فيها ما تستحق الحياة على قول محمود درويش، وبقي أن نشير بأنه يعيش في قبرص منذ أكثر من عشرين عاما واستطاع أن يثبت ذاته بينهم، فله اسمه ورصيده الجميلين فيها.