مصطفى شيرزاد يمتطي أحصنته ويمضي باحثاً عن سماء تليق به

أحد أبرز الأسماء التشكيلية في كردستان ايران يغادر الحياة وعن عمر ناهز الثانية والثمانين مخلفا بصمة لا تمحى على ميدان اشتغاله، ومعهداً لتعليم الرسم وفنونه يشكل مركزاً مضيئاً لأجيال لاحقة.

قبل أيام قليلة وتحديداً السبت وعن عمر ناهز الثانية والثمانين، في إحدى مستشفيات مدينة بوكان بكردستان ايران يغادرنا الفنان التشكيلي الكردي مصطفى شيرزاد أحد أبرز الأسماء التشكيلية في كردستان ايران على نحو خاص وفي ايران على نحو عام، وكان قد ولد شيرزاد في مدينة مهاباد عام 1941، وأكمل تعليمه في مدينة تبريز ويتخرج من كليتها للفنون الجميلة عام 1966، ليعمل بعدها مدرساً لمادة الرسم في مدارس مهاباد قبل أن ينتقل إلى بوكان ويستقر فيها، ويؤسس مدرسة أو ما يسمى معهداً لتعليم الرسم وفنونه تكون مركزاً مضيئاً لأجيال لاحقة، مركزاً إليه كان يلجأ كل من يبحث عن الجمال وتعلمه، فكان بيتاً لجيل من الشباب منه ينهلون حضورهم.

وينبغي القول إن مصطفى شيرزاد بقي لفترة طويلة تمتد لنصف قرن بل وأكثر وهو يصوغ الجمال من وفي واقع الحال، يصوغ هذا التواصل العذب كأحد متطلبات الحياة وأهمها، بنبرة أداتية يتصف بها ويتخذها كلمة عمل في استخداماته، فهو الذي بأشياء ويفعلها، أقصد يلتقطها ويدونها لا بشكلية مجردة، بل بالشكل الذي يريد، والمستقل عن اوضاع محددة، فالأمر لديه أن يحقق حلول تقنية، أن يقدم كل ما هو ممكن أن يبزغ من سيرته المتبقية، من حكاياه التي يرويها لنا في أعماله التي تكاد تلخص المجتمع الذي عاش فيه، فهي الحامل لعاداته وتقاليده وتراثه وأفراحه وأتراحه، الحامل لطموحه وآماله، على نحو ما نلتقط منها كل ما تكشف تلك التزوعات المتأصلة في تاريخ المكان، أشدها تماسكاً وتلاحماً، بقصد الوصف حيناً وحيناً بقصد التوثيق، وحيناً بقصد التقاط تلك اللحظات الزمكانية بكل تعالقات ظواهرها وما تؤسر فيها من ذواته .

يسعى شيرزاد جاهداً إلى تبيان وتقديم العلاقة بين الفنان والمكان، ومؤثرات المكان في ذاتيته وبالتالي في تجربته، حاله كحال معظم الفنانين الكورد وعلى نحو أخص في كل من كردستان ايران وكردستان العراق، متأثرين بمفردات معينة ويسعون إلى تحقيق غايات معينة تخصهم، إلى جانب غاية الفن في الحياة، أو بمعنى آخر فشيرزاد إبن بيئته، ينتمي إليها بكل مفاصله، يرسم الطبيعة، الطبيعة التي يعرف بها كردستان والتي التي خلقها الرب في جمال خاص، لا لتوثيقها، بل لإظهار مفاتنها التي تغذي الروح وتظهر كل مافيها من عشق مبدأه إستحسان شمائل المعشوق وو جودة تركيبه، وتناسب حركاته وأفعاله، أردت أن أقول هنا بأن العلاقة بين شيرزاد والمكان، بينه وبين طبيعة كردستان علاقة حب وعشق وغرام، علاقة كل ما فيها تذكي الذهن وتنور القلب، وتنبه النفس على إدراك كل ما تلطفه، فالفنان العاشق لا بد أن يكون مغرماً ومتيماً بمعشوقته، وهذا العشق الذي يعيشه الفنان لا بد أن يظهر في أعماله، ويكفي أن نمر سريعاً على أعمال شيرزاد عن الطبيعة حتى نتيقن ذلك، فكان من الطبيعي أن يلجأ المبدعون الكورد على نحو عام، والعشاق منهم على نحو خاص في نتاجاتهم، لا التشكيلية فحسب بل الموسيقية منها والأدبية أيضاً، والسماع إلى موسيقا وأغاني الفنانين الكورد على نحو عام يثبت ذلك، وكذلك قصائد وأشعار شعرائها التي تحولت بعضها إلى حالة هيام بين المبدع والطبيعة التي يتغزل بها ويصفها بما تليق بها، نعم استطاع شيرزاد العاشق أن يعبر عن عشقه هذا ويطويه إلى عالم حقيقي أقرب إلى الخيال فما خلقه الله في دواخله من محبة نفسية تتجلى في ترجمة شمائل المحبوبة "طبيعة كردستان" بقلب لطيف ونفس رقيقة وحكم جليلة جعلت من أعماله معزوفات لونية من طبيعة كردستان الخلابة، معزوفات تؤرخ وتحكي حكايا هذه الطبيعة وناسها وهي إشارات فيها تتجلى تلك العلاقة المتينة المبنية على المحبة بدرجاتها العالية بين شيرزاد والطبيعة التي يرسمها ويعيشها وينبض بها، فهو مثل أي فنان آخر ترعرع بين أحضان هذه الطبيعة المثلى في رونقها وألوانها وسكونها، تأثر بها أيما تأثير، واعتبر وقائعها ذلك الخيط التأملي الذي سيوصله إلى الانحياز التام لها وارتياد صداها من تلقاء ذاته وذاتها، فيده على الزناد أقصد على الفرشاة يكفي أن يضغط عليها حتى تقدح بالشكل الذي يريد.

من الجوانب الأخرى التي اشتغل عليها شيرزاد ليثبت حقاً أنه ابن بيئته وبأنه خير من يستحق هذه الصفة هي تصويره بشيء من التفصيل لعادات قومه وتقاليدهم، فهو يغطي هذا التراث المديد المتنوع ويسهب في تناوله، فرغبته في إلقاء الضوء عليها مبنية لا على التشخيص، أقصد لا كضروب تشخيصية، بل كضروب من التحولات عن طريق إعادة بنائها، فهو يحترس جداً أن ما يلي في الزمن يكون متفوقاً بصورة آلية على ما يسبق فيه، فأعماله تستكشف بمزيد من التفصيل تلك المساهمات الجمعية مدركاً أن ذلك قد يعني استبعاد بعض الأشياء وتسجيل بعضها الآخر وفقاً لرغبته في التوسع، فهو حين يصور عرساً كردياً بأيد متشابكة وبأكتاف متراصة، وبألوان مختلفة دون أن يحل بينه وبين النظر إلى الحالة غير الاستغراق فيها وهذا ما يدفعه إلى ايجاد أفكار رفيعة ذات قيمة بمزيد من الإدهاش والتأمل، فهو في حقيقة الأمر يعتمد على الواقعة بوصفها فاعلة بارتكاز، ولهذا يعطي الأولوية لكيانات جمعية، ولكن ما يلفت انتباهنا أنه لا يزال يحمل فردانيته والتي يعلنها بصوت عال، فهو يعلم من حينه، بل وينبغي أن يتوقع الكثير من المفاجآت متسماً بأسلوب وشخصية متمايزة، قادرة على تغطية مجال من الموضوعات الواسعة بصورة استثنائية والكشف عن تفاعل أبعاد الحياة الشخصية، وهو أمر لافت بالفعل، فبنظرة خاطفة على أعماله حتى ينكشف لنا المدى الذي تطولها أفكاره، فهو يلم شتات الأطراف السائبة كيما يجعل الأمر كله أشد تماسكاً بالنسبة للمتلقي، وهذا ما يجعله يبقي دائماً خيوط مشتركة نمتد من الوضع السائد إلى الوضع المتخيل، وهي التي تعكس القدرة الانسانية الكامنة على الانعتاق أو على إمكانية الانعتاق لديه على نحو أصح وأدق.

من الثيمات الأساسية الأخرى التي اشتغل عليها شيرزاد هي الأحصنة، أو الحصان، فليس غريباً عليه ولا على فناني كردستان عموماً، بوصفها أحد أهم مفردات المكان، فالجبل والحصان يقترنان على نحو كبير، لا افتراضياً بل واقعاً، وعلى أي حال فإن قضيتنا هنا ليست أن نقرر بنظرة استرجاعية باردة مالذي كان ينبغي القيام به وما الذي لم يكن، فباعتقادي أن الأهم بكثير هو أن ننظر إلى أعماله من حيث التبصرات التي أتت في سياق تشكلها، مع أننا لا ينبغي أن نعتبر الأفكار مجرد نتاجات للسياق شأنها شأن معظم الحالات التي يجسدها، فهو بصيغة ما يوقد هذه الثيمة المعروفة مسبقاً بوصفها تعبيراً عن الحياة ولهذا اغتصت الملاحم الكردية بها والتي أتى بها فناننا في أكثر من عمل، وهي نظرة تثبت انتمائه إلى المكان باحثاً فيها عن المعنى الأساسي للحياة في الحياة ذاتها.