مليونية المشاهدات على يوتيوب لعبة رقمية لا إنصاف فيها

صاحب الاستغناء عن وسائل الإعلام التقليدية، تراجع في حساسية ما يقدمه الفنانون، بذريعة أن الجمهور وحده من يحكم على النتاج الإبداعي عبر مؤشر ارتفاع أو انخفاض عدد المشاهدات.
تكتسب فيديوهات أبطالها من الحيوانات الملايين من علامات الإعجاب، بينما يترقب فنانون جادون جمهورا متواضعا يرضى أو ينتقد إبداعهم!

تحولت الجملة التي كتبتها الأسبوع الماضي عن الملايين الذين تابعوا أغنية “ممكن” للفنانة اليمنية بلقيس على يوتيوب بوصفها عملية عددية لا أهمية إبداعية لها، إلى مثار جدل ينم عن السطحية مثلما يعبر عن الأجواء السامة وغياب الأفكار في النقاش الذي يحدث اليوم على مواقع التواصل.

رفض التفهم جاء لمجرد اعتباري إياها لعبة عددية على يوتيوب، لا أهمية لها عندما يتعلق الأمر بالقيمة الإبداعية.

المقال تعرض لتنكيل حشد من التعليقات واتهامات تتذرع بأن عشرة ملايين تابعوا أغنية “ممكن” رقم قادر على كسر أي فكرة نقدية مهما كانت درجة أهميتها، عن كون الأغنية تعبر بامتياز عن الصراخ.

أرى أن ذلك مثال جيد للحديث عن الملايين التي تحصدها الفيديوهات والأعمال على يوتيوب ومواقع التواصل الأخرى، وإن كانت لا تشكل، وفق التقويم المفرط بالتفاؤل، جزءا من قيمة إبداعية يمكن التعويل عليها في تقييم الأعمال.

صحيح أن ذلك العدد الهائل مثال معبر عن الشهرة في الثقافة السائدة وجني الأموال، ويمكن عن طريقه قياس توجهات الرأي العام من قبل الباحثين، لكن لا يمكن اعتبار ضخامة عدد المتابعين مقياسا نقديا أساسيا للقيمة الفنية لأي نتاج.

سنجد فيديوهات على، سبيل المثال، عن قطط وكلاب تحظى بمتابعة مليونية لأنها تبعث على التسلية، بينما لا تلقى أعمال موسيقية عميقة ولو نسبة ضئيلة جدا مقارنة بمتابعي فيديو القط الشهير!

هناك علاقة يمكن أن توصف بالمريرة في عالم التكنولوجيا الإعلامية اليوم، عندما تكتسب فيديوهات أبطالها من الحيوانات، الملايين من علامات الإعجاب بينما يترقب فنانون جادون جمهورا متواضعا يرضى أو ينتقد إبداعهم!

كذلك تغيرت موازين قوى التأثير، إثر إعادة توزيع النفوذ بين الشخصيات العامة والمشاهير والفنانين بعد أن وفرت لهم المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي خطا مباشرا إلى جمهورهم واستغنوا بذلك عن وسائل الإعلام وما توفره من مسؤولية نقدية بحساسية عالية.

صاحب ذلك الاستغناء عن وسائل الإعلام التقليدية، تراجع في حساسية ما يقدمه الفنانون، بذريعة أن الجمهور وحده من يحكم على النتاج الإبداعي عبر مؤشر ارتفاع أو انخفاض عدد المشاهدات.

كانت أهمية أغنية “ممكن” موضوع الجدل السطحي الذي رافق مقالي الأسبوع الماضي، تكمن في الملايين الذين تابعوا الأغنية على يوتيوب، وكل قراءة نقدية أخرى لا أهمية لها بنظرهم، وتلك لعمري نكبة فنية تشبه نكبتنا السياسية عندما ننظر لها وفق “سيكولوجية الجماهير” التي يرى فيها غوستاف لوبون أن الجماهير لا تعقل، فهي ترفض الأفكار أو تقبلها كلا واحدا، من دون أن تتحمل مناقشتها، وما يقوله لها الزعماء يغزو عقلها سريعا.

يمكن أن نستبدل هنا مفردة “الزعماء” بـ”المطربين” لنصل بسهولة إلى دلالة أن تحصد “أغنية” بنص ركيك ومبنية لحنيا على الصراخ، عشرة ملايين مشاهدة على يوتيوب!

وبطبيعة الحال يجلب العدد الهائل من الإعجاب والمتابعة على المنصات التكنولوجية الأموال للفنانين أيضا، لذلك يعولون عليها أو على الطريقة التي تجلب المستخدمين إليهم أكثر من أي شيء آخر.

عندما أثير قضية الأموال التي تجنى من تلك اللعبة العددية في المنصات الإلكترونية، فإن آخر شيء يمكن التفكير به هو قيمة ما يبث ويحمّل.

ذلك ما يفكر به غالبية المطربين والنشطاء والعارضين والطهاة… في الفيديوهات المحملة على يوتيوب والمنصات الأخرى.

لقد انضمت شركات الإنترنت الكبرى إلى فكرة الإنفاق والتبرع، بعد أن نجحت “اللعبة المالية” عند يوتيوب عندما وسعت الشركة ميزة الإعجاب والتصفيق والمتابعة بمقابل مالي، فإذا كانت يوتيوب تدفع في بعض البلدان 15 دولارا لكل ألف مشاهدة فإن نفس عدد المشاهدات يكافأ بخمسة دولارات في الإمارات بلد إقامة بلقيس. كذلك سعت منصة سبوتيفاي التي تعد الأشهر في تقديم الخدمات الموسيقية، إلى فتح نافذة التبرع من قبل المستخدمين، بدلا من أن تكون مصدرا ماليا للموسيقيين من إيراداتها السنوية التي تصل إلى عشرة مليار دولار تقريبا.

شركة تويتر أطلقت نافذة “تب جار” بهدف توجيه التبرعات إلى “المبدعين”! وقدم التطبيق الصوتي الجديد كلوب هاوس الذي تقدر قيمته بمليار دولار، أداة “لمساعدة منشئي المحتوى في بناء مجتمع وجمهور وقوة تأثير”.

بالنسبة إلى بعض الناس، قد يبدو كل الذي يحصل من جني الأموال عبر المنصات الرقمية، أمرا يعمم الفائدة، لكن الشركات التكنولوجية الكبرى تتجنب في هذه “اللعبة المالية” المغرية المتصاعدة والمستمرة الأسئلة المؤثرة بشأن المحتوى المتميز. في وقت يتضاءل الاهتمام بالمبدعين الحقيقيين، وفق تعبير جون هاريس الكاتب في صحيفة الغارديان البريطانية الذي وصف الأمر وكأن الملايين من المتابعين يغدقون بالضوء على كل الذي يبث باعتباره مصدرا إبداعيا. فيما قيمة المحتوى لا تقول ذلك على الأغلب.

وكتب هاريس “يخفي الانبهار الرقمي للقرن الحادي والعشرين حيلا قديمة، طالما استُخدمت في جمع التبرعات من قبل لإبعاد الأنظار عن مسألة الاستغلال واللا إنصاف”.

ونحن نستمر بالانتقال وبتسارع من العالم القديم في صناعة ونشر المحتوى إلى العالم الجديد “ما أكتبه الآن يستخدم كل الأدوات المتاحة لي في العالم الجديد” لا نرفض الاستفادة من التغير الحاصل في عالم الأعمال، لكن الاقتصاد الثقافي والإعلامي يعمل وفق نموذج مختلف كليا عن الثقافة الواطئة التي تشكل بمجملها عامل جذب بغض النظر عن قيمة ما تقدمه من محتوى.

فعندما تقدم قراءة مبتكرة تحمل الجديد من الأفكار لرواية العطر لباتريك زوسكيند مثلا، وإن كانت صدرت منذ عقود، فإنك تسهم في إثراء مدونة المعرفة الإنسانية، لكن لا يمكن لك أن تحصد نصف مليون دولار مثل التي نزلت على سيدة أميركية بعد أن نشرت فيديو لشقيقتها وهي تطهي ديكا روميا! أو تلك الطالبة في المدرسة الثانوية التي حصلت على مليون دولار مقابل الفيديو الذي نشرته لطائر بملابس جديدة!

مقابل تلك الأموال دعونا نتأمل العدد المخيب للآمال من الصحف والمجلات التي أغلقت منذ انتشار وباء كورونا إلى اليوم، تلك أزمة وجودية تصيب المعرفة بمقتل وليس الصحافة وحدها.