هل شابه جويس في 'صورة للفنان في شباب' أسلوب همنغواي؟

كثير من النقاد يرون أن فكرة الحرية الواردة في الرواية إن هي إلا بذرة وجودية؛ فالوجودية أصلًا تدعو إلى أن يختار الإنسان، لا أن يقبل ما يُفرض عليه دون أخذ رأيه.

يعد جيمس جويس (1882 ـ 1941) الرِوائي والقصَّاص والكاتب الأيرلندي الشهير أحد أهم رموز تيار الوعي، وأحد أهم المجدِّدين في البناء الروائي والأسلوب السردي في العصر الحديث. حرص في كتاباته الأدبية على إبراز الحيوات الداخلية لشخصياته وما يتوالد في نفوسهم من أفكار وهواجس على حساب نقل الحوادث الاجتماعية. كان مثار جدل بين كبار النقاد؛ فمن قائل بأنه أحد أفضل كُتَّاب الرواية في العصر الحديث، ومن قائل بأنه كاتب ممل ماجن شارد الذهن مختلط الأفكار، لكن الذي استقر عليه الأمر لاحقًا لدى النقاد ومؤرخي الفن أنه صاحب أسلوب فريد في البناء الروائي، وأنه قد أثَّر على جيل كامل من الأدباء، بل إن أعماله لتعد ضمن الإرهاصات المبكرة لتيار ما بعد الحداثة.

وتمثل روايته "صورة للفنان في شبابه" التي ترجمها ماهر البطوطي وأرفق بها دراسته المهمة "جيمس جويس والرواية الحديثة"وصدرت عن مؤسسة هنداوي، من بين أعمال جيمس الأولى الأبرز كونها تحمل رؤاه التي انسحبت على مجمل أعماله التالية، يقول بطل الرواية ستيفن ديدالوس "إن الفن يقسم نفسه تبعًا للضرورة إلى ثلاثة أشكال يتطور الواحد منها إلى الآخر. وهذه الأشكال هي الشكل الغنائي، وهو الشكل الذي يقدم فيه الفنان فكرتَه بانعكاس مباشر من شخصيته، ثم الشكل الملحمي وهو الشكل الذي يقدِّم فيه الفكرة بانعكاس من شخصيته ومن شخصيات الآخرين، ثم الشكل الدرامي وهو الشكل الذي يقدم فيه الفنان فكرته بانعكاس مباشر من الآخرين". ويعلق البطوطي "هذه الفكرة التي أنطق بها جويس بطله المشهور ستيفن ديدالوس الشخصية الأولى ـ ولعلها الأخيرة ـ في روايته "صورة للفنان في شبابه" تنطبق تمام الانطباق على أدب جويس نفسه، بل يمكن أن نجد صدًى لهذه الفكرة ذاتها في فكرِ كلِّ فنانٍ أصيل".

ويقول البطوطي "حين بدأ جويس في كتابة هذه الرواية، لم تكن على هيئتها الحالية، بل كانت رواية أخرى تحمل اسم "ستيفن بطلًا". ويبدو أنه رأى أنها لا تحقق ما كان ينبغي تقديمه، فألقى بمخطوطها إلى النيران، وقد التقطت زوجته المخطوط بعد أن احترقَت منه بعض الأجزاء، وقد طبعت هذه الرواية بعد ذلك وخرجت إلى النور. و"ستيفن بطلًا" رواية عادية تقليدية في طريقةِ سرْدِها، وموضوعُها محشوٌّ بكثيرٍ مما هو غريب عليه، وليس هناك وجهٌ للمقارنة بينها وبين الرواية الجديدة التي كتبها جويس عن الموضوع نفسه. والأمر الذي يُثير التساؤل هو: لماذا أعاد جويس كتابة "ستيفن بطلًا"، وما هي المؤثرات التي جعلَته يُقدِم على ذلك..؟.

ويضيف "قضى جويس فترةً من الوقت في باريس في الأيام التي اجتمع فيها ما أُطلق عليهم بعد ذلك اسم "الجيل الضائع"، وتردَّد معهم على الصالون الأدبي الذي أقامَته الكاتبة الأميركية جرترود شتاين هناك، حيث كانت تناقش الأمور الأدبية في حرية وتجديد، وخاصةً الأسلوب الروائي وحاجته إلى التركيز الذي يمنحه من العمق الشيء الكثير. ويبدو أن ما سمعه جويس من مناقشات وآراء في هذا الصالون قد أثَّر فيه أيما تأثير، ودفعه إلى محاولة تطبيق النظريات الجديدة في الرواية، ومنها مثلا الكتابة بأسلوبٍ مركَّز، وخالٍ من الزخارف اللفظية، وهو ما نشهده ونلمسه بوضوح في رواياته كلها. وهذا ما يُوجِّه نظرنا إلى وجه الشبه بين أسلوب "صورة للفنان في شبابه" وبين أسلوب الكاتب الأميركي إرنست همنغواي في رواياته وقصصه؛ فقد كان هيمنجواي كذلك من رواد هذا الصالون الأدبي الذي أثَّر في كثير من الكتَّاب المجددين المشهورين. وقد اعتمد هيمنجواي اعتمادًا كليًّا على أسلوبه الجديد هذا وطوَّر فيه، وأضاف إليه حتى أصبح مذهبًا في الكتابة يعتمد على التواضع في التعبير Understatement، وهو الأسلوب الذي سنتحدث عنه. ويرى الكثيرون أن تأثر جويس بالمناقشات التي سمعها عند جرترود شتاين، هو ما دفعه إلى إلقاء روايته الأولى في النار وشروعه في صياغتها صياغةً فنية جديدة جاءت في "صورة للفنان في شبابه".

ويتابع "أما الرواية ذاتها فيمكن تناولها من ناحيتَين: ناحية الفلسفة الكامنة وراءها، وناحية بنائها الفني؛ فإذا نظرنا إلى القصة من الوجهة الأولى نتبين فيها غرضًا ساميًا قدَّمه لنا جويس من خلال ثنايا عمل فني متكامل الأطراف؛ فقد صوَّر لنا جويس نفسًا فنانة تعيش وسط بيئة تقليدية، في صراعٍ مع الفقر والمغريات والقيود. ومن خلال هذه الصورة تلمس الطريقَ إلى غرضه، من تبيان أن الفنَّ والإخلاص له هو أهمُّ حدثٍ في حياة الفنان وأن بالفن وحده ـ الفن الحقيقي لا الفن الزائف ـ يمكن للفنان الأصيل أن يحقِّق وجوده وذاته في هذه الحياة، وأن النفس الفنانة حقًّا تجد طريقها إلى هدفها، مهما كانت الصعوبات التي تجتاحها والظلمات التي تكتنفها. وتلفُّ هذه الفكرةَ فكرةٌ أخرى أعمق وأوسع، هي فكرة الحرية. فأما من ناحية الفن، فإن جويس حرص على أن يقدِّم لنا شخصية ستيفن ديدالوس منذ البداية في صورة النفس المرهفة الفنانة، التي تنظر إلى ما حولها بالنظرة التحليلية الحساسة التي يتصف بها كلُّ فنان أصيل؛ فستيفن يشعر في حدة بانعزاله عن الآخرين، ووحدته في وسطهم، وطالما فكَّر في الأشياء الصغيرة التي يراها من حوله، والتي لا تجذب عادةً انتباهَ الشخص العادي؛ ولهذا نراه في الفصل الثاني وطاقاته الفنية تتفتح: "وحين كانت العربة تدنو من أحد المنازل كان ينظر قليلًا حتى يُلقي نظرةً على المطبخ المصقول أو الصالة المضيئة، وليرى الطريقة التي ستحمل بها الخادمة الجرة والطريقة التي ستُغلق بها الباب".

ويرى البطوطي أن هذه اللمحات التي قدَّمها المؤلف في ثنايا القصة، إن هي إلا إرهاصات لما سيحدث بعد ذلك لهذه الطاقات الفنية التي تكمن في نفس ستيفن ديدالوس الفنان الصغير. وقد تعذبت هذه النفس المرهفة بأحاديث العذاب السماوي؛ لأنها كانت قد وقعت في الخطيئة، وأحس ستيفن بصور العذاب والنيران والآخرة أكثر من الآخرين، لما في روحه من قدرة على الخيال، وعلى تقليب الأمور على جميع وجوهها، فكانت النتيجة المبدئية أن تهاوى أمام الخوف، وخضع لما يُمليه عليه الدين من تحريمات وقيود، ولكن بذرة الفن في هذه الأثناء ـ الفن الذي لا يرضى بالقيود ولا يحيا إلا في ظل الحرية الكاملة ـ كانت لا تزال كامنة فيه وإن اختفت إلى حين؛ فقد ظهرت حين كان مدير المدرسة الدينية يعدُّ العدة للقضاء على الفن في روحه نهائيًّا. فحين عرض عليه مدير المدرسة أن ينضمَّ إلى سلك الكهنوت ويصير قسًّا، أحسَّ بصراعٍ في نفسه لم يُدرك ماهيته، وإن كان القارئ قد فطن إلى أن طاقته الفنية تتفاعل في وجدانه بصورة لا شعورية، حتى انبثقت أخيرًا وقد أدرك الغاية التي خُلق من أجلها، وهي التعبير عن نفسه بواسطة الفن، لكي يصنع عملًا خالدًا ساميًا، ويرى ستيفن مرةً فتاةً جميلة تغسل قدمَيها على الشاطئ، فيشعر بفنِّ الجمال وبجمال الفن في الوقت نفسه، ويحس أن هذه الدنيا تدعوه إليها ليجرِّب ويُخطئ ويندم، بدلًا من أن يصير قسًّا ويقيد نفسه بمحرمات الدين، التي لا تتفق ـ في رأيه ـ مع الحرية التي تطلبها روحه لتعبِّر عن نفسها في الفن. وهو في الفصل الخامس يحيا حياته بعيدًا عن القيود التي كبَّلت روحه فيما مضى، وكانت تقف حجرَ عثرة في سبيل انطلاقه الفني. وفيه نستمع إلى شرح ستيفن للنظرية الجمالية التي توصَّل إليها، وهي نظرية تتفق ونظريته في الحرية والفن، بما كان يدعو فيها إلى الموضوعية، غير أن ستيفن يُدرك أن لا حرية تامة إلا بعد أن يتخلص من أشد القيود قسوة، الدين، البلد، المنزل، فيسعى إلى التخلص من هذه كذلك، فنجده وقد أنكر الدين، وإن لم يُنكر الإله، فهو يتفق في ذلك مع الكاتبة جورج إليوت قديمًا. ثم نعلم في آخر الرواية أنه على أهبة السفر إلى باريس، فيحقق ما ينشده من الحرية الكاملة بعيدًا عن وطنه ـ أيرلندا ـ أشبه كما قال عنه بالأم التي تأكل أبناءها، وهو يقول عن أهدافه لصديقه "كرانلي"، وقد سأله هذا عما يريد أن يفعل: "سأُخبرك ما سأفعله وما لن أفعله. إنني لن أخدم شيئًا لم أَعُد أُومِن به، سواء كان ذلك منزلي، بلدي، أو كنيستي، وسأحاول أن أعبِّر عن نفسي في الحياة أو في الفن على أكثر الأشكال حريةً وكمالًا، مستخدمًا للدفاع عن نفسي الأسلحة الوحيدة التي أسمح لنفسي باستخدامها: الصمت، النفي، المقدرة".

ويلفت إلى أن كثيرا من النقاد يرى أن فكرة الحرية التي وردت في هذه الرواية، إن هي إلا بذرة وجودية؛ فالوجودية أصلًا تدعو إلى أن يختار الإنسان، لا أن يقبل ما يُفرض عليه دون أخذ رأيه. وعملية الاختيار هذه هي ما يخلق من المرء إنسانًا حقًّا، حتى لو وقف وحيدًا دون سند أو مُعين في حريته الرهيبة، وستيفن ديدالوس في الرواية يختار فعلًا ـ بعد أن خبر حيرة القلق الوجودي ـ يختار طريق الحرية والفن، رغم إدراكه أنه سيقف وحيدًا في طريقه هذا، وهو لا يخشى ذلك، ولا يخشى أن "يرتكب خطأ، حتى لو كان خطأً عظيمًا، خطأ يدوم العمر كله، أو يدوم دوام الأبدية ذاتها".

ويوضح البطوطي أنه أما من ناحية النظرية النقدية الجمالية التي يعرضها ستيفن خلال تجواله مع صديقه "لينش"، فهي مهمة في حد ذاتها؛ لأنها هي ذاتها المبادئ الجمالية التي اعتمد عليها جويس، وأراد أن يؤسس فنَّه كلَّه بمقتضاها. ويلاحظ في هذا المجال تشابه هذه النظرية مع النظرية النقدية الحديثة لدى كبار النقاد المعاصرين أمثال: ت. س. إليوت، وكلينيمث بروكس وروبرت بن وارن وغيرهم؛ فديدالوس يُصِر على ضرورة النظر إلى الجميل في ذاته مجردًا عن أي عوامل أخرى تدخل في إضفاء صفات أخرى عليه، فلا نخلط مثلًا بين الجمال وبين المبادئ الأخلاقية أو بينه وبين النفع أو الخير، فلا نحكم على صورة لطفل بأنها جميلةٌ لمجرد إبرازها لمعنى الطفولة التي تُوحي بالبراءة، ونحكم على لوحة للشيطان بأنها قبيحة لأنها ترتبط في الذهن بمعنى الشر. وأيضًا يُصر ت. س. إليوت في نقده على تناول العمل الفني في حد ذاته مجردًا عن مدلولاته الاجتماعية أو الأخلاقية أو حياة مؤلفه أو ما شابه ذلك من موضوعات. وكما يتفق جويس في نظرته النقدية مع النقد الحديث، فهو كذلك يتفق معه في النظرة الإبداعية في الفن، ففي نظرية التطور الفني لدى الكاتب التي عرضنا لها في بداية هذا المقال، والذي يعتبر جويس فيها الفن تطورًا، من الغنائي إلى الملحمي إلى الدرامي، ينظر إلى الطور الأخير على أنه أكمل الوجوه الفنية التي يجب أن يسعى كلُّ كاتب للوصول إليه. وفي هذا الطور الدرامي نجده ينصُّ على أن يعرض المؤلف فنَّه أو أفكاره بطريقة موضوعية بحتة، مقصيًا نفسه وميوله واتجاهاته المباشرة كليةً عما يكتبه. وكذلك دعاإليوت إلى الموضوعية في الناحية الإبداعية، وخرج في مقاله "الموروث الأدبي والموهبة الشخصية" بنظرية "اللاشخصانية" في الشعر، وهي تتلخص في أن التجارب التي يمر بها الفنان الأصيل تخرج من عقله، وقد صُهرت وتبلورت حتى إنها لتستحيل شيئًا آخر لا يمتُّ بصلةٍ شخصية لتجربة الكاتب الأصلية.

ويؤكد البطوطي أن أهم ما تتميز به "صورة للفنان في شبابه" بعد هذا العرض لفلسفتها، هو أسلوبها وبناؤها الفني؛ فالأسلوب ينحو منحى أسلوب هيمنغواي في كتاباته المتميزة بالجمل القصيرة المتقطعة، الأسلوب البرقي. والفرق بين استعمال هيمنغواي لهذا الأسلوب واستعمال جويس له، أن استعمال الأول ناتجٌ عن الرغبة في الوصول بالصنعة الفنية وطرق تصويرها إلى مناخات قوية جديدة، وهو قد نجح فيما ابتغاه، بينما استخدم جويس هذا الأسلوب كطريقة طبيعية لتيار الوعي الذي يسعى لتصويره، فمن الطبيعي أن الأفكار تترى على الذهن متقطعة سريعة في غير ترابط ولا انتظام؛ ولذلك نجد هذا الأسلوب يزيد من نجاح واقعية جويس الفكرية، ويدعم الطريقة التي اختارها لسرده القصصي.