'العقيد لطفي' محاولة مبتورة لكسر قوالب أفلام الثورة الجزائرية

فاطمة بدري
المخرج احمد راشدي حاول من خلال الفيلم رفع القدوسية عن رموز الثورة الجزائرية لكنه افتقد إلى الجرأة الكافية والسحيري يتماهى مع شخصية البطل.
مشهد من الفيلم
اول ايام الالتحاق بالجبل

تستعيد السينما الجزائرية عهدها تدريجيا مع ما يسمى بـ"الفيلم الثوري" أو فيلم الثورة الجزائرية، بعد ركود دام لسنوات بسبب رفع الحكومة يدها عن تمويل إنتاج الأفلام وغلقها للهياكل التابعة للدولة التي تعنى بصناعة السينما.

ويبدو أن هناك توجه نحو كسر حالة الفراغ التي شهدها القطاع طيلة ما يقارب العقدين، ولكن دون القطع مع الدائرة الأولى والمحور الجوهري للسينما في هذا البلد ونعني بذلك أحداث الثورة. فبعد أكثر من نصف قرن عن الاستقلال مازال رواد السينما الجزائرية يجدون في أحداث الثورة وتاريخ رجالاتها مادة دسمة لأعمالهم رغم زخم القضايا الكبرى الراهنة المطروحة على الرف.

والمطلع على مجمل الأعمال السينمائية الجزائرية (سينما الثورة تحديدا) يدرك أنها حاولت تسليط الضوء على أحداث كبرى وشخصيات بعينها وفق توجه ومسار واضح يهدف أساسا إلى تمجيد الثورة ورجالاتها دون الخوض في بعض التفاصيل الجانبية، وربما الهامة في كثير من الأحيان تجنبا لطرح بعض المعطيات التي ترى سلط الإشراف أنها تسيء إلى الثورة التي توصف محليا بـ"المجيدة". إلا أن المخرج احمد راشدي الذي انتقد في بعض المناسبات واقع السينما الجزائرية، يسعى في السنوات الأخيرة، التي تشهد عودة للحركة السينمائية في البلاد، إلى كسر قاعدة الأبطال المعصومين. ويعمل تدريجيا على كشف النقاب عن جملة من الأحداث الفارقة من تاريخ الثورة التي تتعلق أساسا بمسألة الخلافات والصراعات التي دارت بين الثوار من اجل السلطة.

وطرح راشدي مؤخرا فيلم "العقيد لطفي" الذي تناول سيرة الشهيد دغين بن علي، الذي عرف باسمه الثوري "العقيد لطفي"، انطلاقا من مرحلة دراسته الثانوية حتى لحظة استشهاده بجبل بشار عن عمر يناهز الـ26 سنة.

وكغيره من الشخصيات التاريخية التي تناولتها السينما الجزائرية توقف المخرج عند المعارك الهامة التي خاضها البطل وتفاصيل تعاطيه مع الثوار، ومقدار صدقه مع مطمح الاستقلال والعزوف عن تقلد المناصب السياسية، والنأي بنفسه عن الصراعات الخفية الدائرة بين قادة جبهة التحرير من اجل السلطة.

كما توقف عند دعوة "العقيد لطفي" لتشريك المرأة في الحياة السياسية وعدم احتكار الرجال للسلطة لا سيما في ظل إسهاماتها الجليلة كرفيقة في الجبال. وهذا تفصيل جديد يحسب للراشدي الذي أثار ـ وإن كان في سياق موجز ـ تغييب المرأة عن مراكز صنع القرار داخل جبهة التحرير الجزائرية.

 
   
 

 

ومن بين النقاط الفارقة في هذا العمل هو طرح إشارات كشفت إلى حد ما واقع الصراع بين قادة جبهة التحرير في سبيل المناصب السياسية على غرار واقعة اعتقال وسجن "العقيد لطفي" لبضعة أشهر في اسبانيا لدى ذهابه في مهمة لتأمين السلاح لتعزيز عمليات الثوار. حيث لمح المخرج على لسان البطل إلى وجود مؤامرة للإيقاع به بعد أن أصبح هناك نوع من الريبة من هذه الشخصية التي أثارت إنجازاتها حفيظة بعض القادة الذين استهوتهم المناصب السياسية.

ولكن على أهمية هذا التفصيل إلا أن راشدي افتقد إلى الجرأة الكافية لرفع اللبس عن بعض الحقائق التاريخية ولم يصل بعد إلى مستوى طرح قراءات غير محرفة لوقائع هامة في تاريخ البلاد. ويؤكد ذلك عدم تطرقه ولو بالإشارة إلى الأطراف التي يفترض أنه ضالعة في مقتل "العقيد لطفي" واكتفائه بإقناع المتفرج أن مقتل البطل تم وفق تحضيرات خاصة لقوات الاستعمار التي عرفت على وجه الصدفة أن هناك بعض المجهولين اشتروا عددا من الجمال، لتدرك بحدسها الأمني أنهم عدد من قادة الثورة وترسل أيضا على وجه الصدفة عددا كبيرا من الجنود وعتادا عسكريا ضخما مباشرة إلى مكان وجود "العقيد لطفي".

علما وان هناك بعض القراءات المعروفة في الجزائر تقول أنه قد تمت الوشاية بـ"العقيد لطفي" من قبل أطراف جزائرية للإيقاع به والتصدي لإمكانيات استمراره حتى مرحلة ما بعد الاستقلال، التي تعني انه سيحوز حتما مركزا هاما في ظل الثقة الكبرى التي يحظى داخل العائلة الثورية في تلك الحقبة. كما تقول قراءات أخرى أن الجانب التنويري والتقدمي لدى شخصية البطل لم تكن تروق كثيرا إلى القادة الذين كانوا في اغلبهم مشدودين إلى نمط تقليدي إسلامي ـ إن صح التعبير. وربما انتقاده لعدم تشريك المرأة لتقلد المناصب السياسية آنذاك احد أهم الدلائل على ذلك.

يوسف السحيري "قوة التماهي"

واختار المخرج وجها شابا ربما لم يصل بعد إلى مستوى التربع على ذاكرة عشاق الشاشة الكبيرة ولكنه بدأ يتحسس طريقه تدريجيا، ونعني بذلك الممثل يوسف السحيري الذي قدم دور البطل "العقيد لطفي".

ويستحق السحيري الإشادة بأدائه لعدة اعتبارات أولها ثقل مثل هذه الشخصيات لا سيما بالنسبة لأسماء لم تتعود الانخراط في أعمال كبيرة وبطولات مطلقة. ولكنه بدا هادئا وواثقا ومتماهيا مع الشخصية رغم تصريحاته أنه كان خائفا من ثقلها، علما وأن للشخصيات الثورية في الجزائر تحظى نوع من القدوسية تجعل من مسألة تجسيدها مهمة غاية في التعقيد والإرباك.

 
   
 

 

ثانيا، لا بد من الاعتراف بحرفية هذا النجم نظرا لتركيز العمل شبه التام عن الجانب النضالي على حساب الجانب الإنساني الذي عادة ما يحدث ما يشبه الإيقاع داخل الأعمال السينمائية. إذ كانت الوقفات الخاصة من حياة البطل قليلة جدا وتكاد تكون معدومة لأنها كانت في مجملها مرتبطة بهاجس العمل الثوري. ولكن رغم ذلك ولأكثر من ساعتين من العرض استطاع "العقيد لطفي" أو بالأحرى السحيري أن يكسر النسق المتشابه للأحداث، والذي عادة ما يضفي رتابة على العمل ويقدم الممثلين في صور باهتة أشبه بعملية التلقين منها إلى العملية الفنية، وتجنب السقوط في هذا الفخ بما أضفته حرفية أدائه على العمل ككل لا سيما وانه كان محور الفيلم وتقريبا حاضرا في اغلب المشاهد.

ثالثا يذهب بعض النقاد إلى القول أن المشهد الأخير في كل عمل سينمائي يحظى بأهمية خاصة على اعتبار أنه آخر ما يعلق بذهن المتابع. ويبدو أن مخرج العمل قد أولاه عناية كبيرة استطاع السحيري ترجمتها بما أظهره من طاقة إبداعية كبيرة منحها للمشهد الأخير من الفيلم رغم التراجيدية الكبيرة التي غلبت عليه. فأداءه لمشهد مقتل البطل (المشهد الأخير) يصح أن يطلق عليه "قوة التماهي" مع الشخصية أو "قوة التقمص" من ناحية ما أثاره لدى المشاهد من قناعة بعدالة القضية ومصداقية البطل تجاه ما يحمله من أفكار، والحال أن السحيري لم يزاول فترة الثورة ولا احسبه قد احتك بشخصيات ثورية جزائرية.