منتدى الرواد الأردني يناقش 'الوجه الآخر لسيرة الأنهار'

تفاصيل مهمة عن صراع النسوة المغتربات

عمان ـ وقعت الكاتبة والإعلامية والناشطة النمساوية من أصل سوداني الدكتورة إشراقة مصطفى، في منتدى الرواد الكبار بالعاصمة الأردنية كتابها "الدانوب يعرفني - الوجه الآخر لسيرة الأنهار"، الصادر عن "الآن ناشرون وموزعون"، عمان.

شارك في الحفل الذي أدارته القاصة سحر ملص كل من الروائية سمحية خريس والناشر جعفر العقيلي، ورئيسة المنتدى هيفاء البشير التي وصفت مصطفى بأنها "قامة عربية من السودان"، فهي هنا تحدثنا عن مسيرة كفاح امرأة تحمل في أعماقها جذوراً إنسانية عميقة وتوقاً للحرية والعطاء اللامحدود فقد حملت هموم بلدها وحياتها وهموم الإنسان المحاصر في زمن العنصرية، لتبذر أفكارها النيرّة في سهول وجبال النمسا.

ونوهت البشير إلى أن مصطفى تتحدث بلسان كل إنسان يمجّد الحق ويسعى إلى مسالك النور، لافتة إلى أن منتدى الرواد دأب منذ تأسيسه على استضافة قامات عربية ومحلية ليكون منبراً للمثقفين، وحملة الفكر للتعريف بإنجازاتهم الإبداعية والفكرية، مبدية اعتزازها بمصطفى التي قدمت إلى وطنها الثاني الأردن لنتعرف على كفاحها ومسيرتها المشرفة في حمل الرسالة الإنسانية.

من جانبها تحدثت إشراقة مصطفى حول تجربتها مع الاغتراب في النمسا، حيث أشارت إلى الصعوبات الجمة التي يواجهها المهاجرون من آسيا وإفريقيا في دول الاستقبال، وعلى رأسها مسألة التمييز العنصري، وركزت على دور أحزاب اليمين المتطرف، التي رغم ضعف قاعدتها الجماهيرية، إلا أنها استطاعت أن تستغل بشكل انتهازي موضوع الإرهاب، والمهاجرين، وإشاعة الإسلاموفوبيا، لكسب تأييد أكبر عدد ممكن من الناخبين، للوصول إلى البرلمان، والسلطة.

وأشارت مصطفى إلى دورها في التصدي لكل محاولات التمييز ضدها، مؤكدة أن مواجهة التمييز لا بد أن تقوم على تضامن كل المميز ضدهم، وقدمت معنى جديدا للاندماج، لا يتعارض مع الحفاظ على الهوية، على أساس الحرية، مقابل الالتزام بالقانون. وترى صاحبة سيرة الأنهار، أن مبدأ الحرية هو أساس الاندماج، وأساس الفاعلية الاجتماعية، وأساس الحياة الكريمة، فلا كرامة من دون حرية.

من جانبها قالت الروائية والقاصة سميحة خريس إن كتاب مصطفى يمثل في أساسه مقطعاً مهماً من تجربة شخصية عاشتها الكاتبة العربية المسلمة الافريقية وهي ترتحل لطلب العلم في بلاد باردة محصنة بالقوانين، بلاد اجتازت مراحل متقدمة للوصول إلى المدنية، ولكن الفتاة الحساسة المرهفة القادمة من قلب السودان "كوستي" لا تعلق أمام المشهد الغربي حائرة، ولا يصيبها الفزع لأنها تدرك أنها تحمل إرثاً ثقافياً غنياً يتسم بالإنسانية الحقيقة التي لم ينظمها قانون ولا حضارة مدنية ولكن رعتها نفوس بالغة الإنسانية عميقة الجذور.

خريس رأت أن الكتاب يعقد ما يشبه المقاربة أو المقارنة بين الدانوب الذي يشق النمسا والنيل الذي يرضع السودان، كما تمثل صفحاته سيرة ذاتية لرحلة كفاح تطرح تساؤلات جدلية مهمة حول قضايا كبيرة لا يزال الجنس البشري حائراً حولها، والغريب أنه في الجزء الأخير منه يأخذ منحىً مختلفاً، مثلما يتفرع مجرى عن نهر عظيم، تضع مصطفى حكايتها الخاصة جانباً وتعالج بمسؤولية عالية حكايات نساء أخريات، نساء عربيات أو افريقيات أو أخريات قادمات من البلاد المهمشة، ألقت بهن الظروف الطاحنة في بلادهن إلى النمسا بحثاً عن أمان لا يعوض عن الأوطان، وسط ظروف صعبة، تتكاثف النسوة القادمات من حضارات تقيم وزناً لتلاحم الأيدي، ودمع العيون، والعواطف الطازجة، معهن تعلي الكاتبة من شأن الجماعة لا من شأن الأنا الوحيدة الغريبة.

كما أن الكتاب يعرض، وفق خريس، قضايا مهمة مختلطة بالدموع والحنين العاطفي إلى الوطن، وقضايا لا تزال حتى يومنا هذا قضايا المرحلة، وتناقش موضوع الهوية، وتفلح بتلمسها بذكاء لا يتعامل مع الموضع ببرود كما في كتاب أمين معلوف "الهويات القاتلة"، ذلك أن التجربة حية، والصراع الداخلي لا يرتبط بالمصالح والمنافع بقدر ارتباطه بتصديق الذات والكشف عنها، كما تقلب في كتابها هذا موضوع العنصرية على نار من الوعي والتفحص الذكي.

وأشارت خريس إلى أن مصطفى تقدم تفاصيل مهمة عن صراع النسوة المغتربات أو اللاجئات، النسوة اللواتي ناطحن صخر الحياة ليصنعن بيوتهن ومستقبلهن، ولعلها النموذج الناصع عنهن، لا تهادن بشأن انتمائها والتزامها بمجتمعها البسيط، بل هي قادرة على تلمس مكامن عظمته وتفوقه على المجتمع الغربي، وهي في ذات الوقت لا تقع تحت سطوة الحياة التي تضخم الأنا.

كما عالجت مصطفى بحسب خريس الفجوات التي يصنعها اختلاف اللون والعرق والدين والجندر في العالم، وهي وإن كانت تعمل في الوسط النسائي إلا أنها تعلم أن ما يجمعها بالرجل الإفريقي مثلاً يفوق ما يجمعها بامرأة لم تعرف القهر والفقر والغربة، وهي بذلك توضح أن دربها لا تسلك عبر الانتصار للجنس أو العنصر أو اللون، إن المقياس الذي يصنع الفرق لديها يظل الوعي الفكري، والميل إلى قيم الحق والخير.

في سياق آخر تحدث الناشر جعفر العقيلي عن الجوانب التي تضيء التجربة الإنسانية لمصطفى، وهو ما تكتبه من قصائد، متوقّدة بالمعنى والتأويل، تمثّل خلاصة الفكر وهي تدعو بني الإنسان إلى التعاضد والتكاتف وأن يسند بعضهم بعضاً لنجتاز محنتنا التي صنعناها بأنفسنا، ولنقفز فوق هياكل الفرقة والتناحر والتنابذ التي أقمناها بمحض إرادتنا في لحظةٍ غاب فيها الوعيُ الناضج عنا.

ورأى العقيلي أن قصائد مصطفى تقف في مصافّ القصائد الخالدة التي نحتَها مبدعون كبار، ينتمون إلى إنسانيتهم قبل انتمائهم إلى أيّ هويةٍ فرعيّةٍ أخرى، ورغم أن الترجمة في العادة لا تكون منصفة، إلّا أن المعاني العميقة والقيم العظيمة التي تنطوي عليها قصائدها تصل سريعاً إلى الجمهور، وذلك بسبب الصدق والعفوية، التي تتسّرب من ذاتِ مبدع النص لتستقرّ في ثنايا نصّه ثم تنتقل عدواها الجميلة إلى المتلقّي!

وخلص العقيلي إلى أن مصطفى في هذا الكتاب تصهر سيرتَها بسيرة "النيل" و"الدانوب" معاً. إنها تكتب حكايةَ الإنسان التوّاق إلى سماءٍ صافية لا تتربّص بها آلة الحرب ولا تلوّثها نُذر التنازع. تكتبُ عنّا جميعاً، نحن التوّاقين إلى إنسانيةٍ تزيل الحواجز بيننا وتجعلنا سواسيةً وشركاء في الهمّ والجرح والأمل.