آخر كلمات إسحاق بابل: دعوني أكمل عملي!

أعمال الكاتب الروسي الإبداعية أثارت اهتماماً واسعاً في روسيا وخارجها، حيث صدرت 35 طبعة من كتبه بين عامي 1926-1921.
أشاد بفنه وتأثر به عدد من أشهر الكتاب الغربيين وخاصة كتاب القصة القصيرة الأميركيين
معاصروه يتذكرونه كأحد أكثر الشخصيات غموضاً في الحداثة الأدبية الروسية

اسحاق بابل (1894 – 1940) واحد من أنبغ الكتاب الروس في النصف الأول من القرن العشرين، لمع نجمه في سماء الأدب الروسي في العشرينيات والثلاثينات بعد الأحداث العاصفة التي مرت بها البلاد (الثورة، والحرب الأهلية). 
أثارت أعماله الإبداعية اهتماماً واسعاً، في روسيا وخارجها، حيث صدرت (35) طبعة من كتبه بين عامي (1926-1921) واهتم أشهر النقاد الروس بنتاجاته، حيث بلغ حجم ما كتب عن نتاجاته خلال الفترة ذاتها أضعاف حجم ما صدر من مؤلفاته. وحظى خلال حياته، ولا يزال يحظى – رغم مرور (78) سنة على رحيله المأساوي، بشهرة عالمية واسعة كأحد أساتذة فن القصة القصيرة. وهو يشكل مدرسة جديدة في فن القصة، مختلفة عن مدارس أسلافه العظام: موباسان وتشيخوف وبونين، ويجسّد عبقرية الإيجاز والدقة والتجديد.
ومهما كانت الموضوعات التي يعالجها فهو يخضع موضوعه لأسلوبه، ويجعل الموضوع ثانويا بعد فنه في الكتابة، فهو من هذه الناحية أشبه بفلوبير.
ترجمت أعمال بابل، منذ منتصف العشرينيات إلى أهم لغات العالم، ومنها الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والصينية، ولغات أخرى عديدة.
أشاد بفنه وتأثر به عدد من  أشهر الكتاب الغربيين وخاصة كتاب القصة القصيرة الأميركيين. ولا يزال هذا التأثير مستمراً، سواء من خلال أعماله الإبداعية أو العدد المتزايد من البحوث الأكاديمية والنقدية عن حياته وأدبه. ورغم الإعتراف العالمي به، فإن معاصريه يتذكرونه كأحد أكثر الشخصيات غموضاً في الحداثة الأدبية الروسية. 
لم يكن بابل يشبه أحدا، ولم يكن بوسع أحد أن يتشبه به. فقد ترافقت موهبته مع تكنيك الكتابة الإبداعية المبتكرة. وقبل أن يجلس إلى طاولة الكتابة، كان عليه أن يعايش عن قرب ما يكتب عنه ويتعمق فيه. وهذا لا يعني أنه كان يحاكي الواقع، بل كان يقول: "لا حاجة أن تكون القصة المحبوكة جيدا شبيهة بالحياة. الحياة تسعى بكل طاقتها أن تكون شبيهة بقصة خيالية جيدة".
تتألف أعماله المنشورة من ثلاث مجموعات قصصية، ومسرحييتين، وعدة سيناريوهات سينمائية، وعدد كبير من الرسائل ودفتر واحد من يومياته، نجا بأعجوبة، لأن صديقة أوكرانية احتفظت به، أو بتعبير أدق أخفته عندها طوال عدة عقود، وهي يوميات كتبها بابل عندما كان مراسلا حربيا في جبهة القتال الروسية - البولندية خلال الحرب الأهلية الروسية، إضافة إلى عدد من القصص القصيرة التي رفضت الرقابة الرسمية على المطبوعات نشرها في العشرينيات والثلاثينات بذريعة أنها لا تتفق مع أهداف وبرامج الحزب الحاكم.
صوّر بابل في أعماله مسيرة البلاد نحو المجتمع الجديد بكل ما رافقه من سفك دماء ومن دموع وآلام وفواجع: ثورة اكتوبر، والحرب الأهلية الدموية الشرسة، والتصفية الوحشية للبورجوازية، والعمل الجماعي الإجباري، حيث حل النظام الشمولي محل النظام الإقطاعي.

لم يترجم من قصص بابل الى اللغة العربية سوى ثلاث قصص فقط مع بضع مقالات قصيرة عابرة، لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.

تعرّف العالم الغربي على الحياة في مدينته الأم "أوديسا" من خلال مجموعته القصصية "حكايات أوديسا"، وعلى الحرب الأهلية في روسيا من خلال سلسلة قصص "الفرسان الحمر" رغم أن العديد من الكتاب الروس المشهورين من أبناء أوديسا، من أمثال "باوستوفسكي" و"اليوشا" و"ايلف" والشاعر باغريتسكي، قد كتبوا الكثير عن أوديسا المشمسة، عروسة البحر الأسود.
كانت له علاقات واسعة ليس بالكتاب والفنانين والمسرحيين فقط بل أيضاً ببعض رجال الدولة مما أتاح له إدراك تناقضات ومفارقات المجتمع الجديد.
كان حاد الذكاء، يرى الواقع السوفييتي على حقيقته ولم ينخدع بالدعاية االستالينية، ولا بأوهام الجنة الموعودة، التي تشبث بها كتّاب آخرون. أحس على نحو عميق بتغيرات الزمن الدراماتيكية.
كل شيء في قصص بابل غير عادي: ليس الأبطال ودوافعهم وسلوكهم فقط، بل الحالات غير المتوقعة وجوانب الحياة اليومية التي لا يراها الآخرون والبناء القصصي المحكم والحوار الفعال.
كانت لديه قوة تصوير هائلة: الأبطال السلبيون كانوا سلبيين حقاً، يقفون أمامنا وكأنهم أحياء بطول قاماتهم كل ذلك بكلمات قليلة مقتضبة. وهو مثل موباسان، وتشيخوف، خلق القصة القصيرة خلقا جديدا، ولكن بابل يتميز عنهما بتكثيف النص الى أقصى درجة. وعندما تقرأ قصة قصيرة له لا تتجاوز بضع صفحات تشعر وكأنك قرأت رواية طويلة.
وكل مجموعة من قصصه، يوحدها الطابع العام والسخرية والتهكم، والعنف، والجنس. التشبيه والأستعارة في قصصه مبتكرة. ولو فتشت في كل قصص بابل فلن تجد فيها كليشة أو عبارة مستهلكة واحدة. قصصه تنبض بالحياة المتدفقة بكل مفارقاتها وتناقضاتها. 
بابل شبه مجهول في العالم العربي، إذ أن دور النشر التجارية العربية لا تنشر غالباً، إلا تلك الأعمال التي تثير  ضجة في الغرب لأسباب سياسية. وما ترجم من الأعمال الأدبية الروسية إلى اللغة العربية خلال أكثر من مائة عام لا تعكس صورة صادقة عن الأدب الروسي - بشقيه الكلاسيكي والحديث - وتطوره عبر أكثر من قرنين من الزمن.
لم يترجم من قصص بابل الى اللغة العربية – حسب متابعتنا المستمرة - سوى ثلاث قصص فقط مع بضع مقالات قصيرة عابرة، لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. والتي لا تستند إلى المصادر الروسية الأصيلة، بل الى كتابات نقاد غربيين، لا يخلو كتابات بعضهم من أخطاء وهفوات، وأحيانا من تحريف حسب أهوائهم. أو بسبب الحساسية تجاه كل ما هو روسي. إن الجهل بأدب بابل لا يقل غرابة عن الجهل بأدب فلوبير أو موباسان او تشيخوف اوهمنجواي أو فوكنر.
أعدم بابل بتهم ملفقة في 27 يناير/كانون الثاني عام 1940 بعد محاكمة صورية لم تستغرق سوى عشرين دقيقة. وكانت آخر كلماته: "دعوني اكمل عملي!".