الرجل الأبيض المكتئب وتعاسته الذكورية في 'إبادة' لميشيل ويلبيك

لعل سبب شهرة أعمال الكاتب الفرنسي، مهما كانت استفزازية، هو ما يقدمه للقراء: قصصه تسمح لنا بالدخول إلى عقل رجل يخشى المساواة في الحقوق في المجتمع ويفضل أن يكون وحيدا، بدلا من الانفتاح على آخرين هم على قدم المساواة معه.

إذا كان هناك شيء ما، لم يتغير طوال العقود الثلاثة الماضية في عالمنا الذي يتطور بسرعة مذهلة فهو روايات ميشيل ويلبيك، الذي يعد اليوم أحد أشهر الروائيين الفرنسيين المعاصرين، إن لم يكن أشهرهم جميعاً. ويكاد القارئ الذي يتابع أعماله يعرف سلفاً ما يتوقع منه. سيظهر بطل مكتئب في منتصف العمر احتفظ بمثله العليا، رغم تدهورها نتيجة صيرورة الحياة، مدركا تماما لمشكلاته الشخصية وأزمة الحضارة الغربية. سينظر إلى العصور القديمة الفرنسية بإعجاب حزين عندما كانت الحياة أكثر طبيعية وملاءمة للإنسان، من العيش الآن وسط الأبراج الزجاجية في باريس. تأملات البطل ستقوده إما إلى الاستسلام، أو إلى التمرد المحكوم عليه بالفشل مسبقا، وستكون نهايته غير سعيدة. لكن التشابه بين روايات ويلبيك لا يبدو للقارئ تكراراً مملاً، يبدو الأمر كما لو أن الكاتب يحاول المرة تلو الأخرى اختيار الشكل الأكثر دقة واستيعابا لرؤيته للعالم. ويبدو أنه قد نجح أخيراً في تحقيق ذلك في روايته الجديدة التي تحمل "إبادة".

الموضوع الرئيسي لويلبيك في جميع رواياته هو الخواء الروحي والفكري والسياسي للحياة في المجتمعات الغربية الحديثة. والكشف عن العبثية التي غالبا ما تكمن وراء المألوف. يفهم المرء جوهر إبداعه منذ البداية لكن تنويعاته حول الموضوع وملاحظاته اللاذعة الدقيقة تستحق القراءة دائما. يراقب ويلبيك عن كثب الاتجاهات الاجتماعية والسياسية في فرنسا والدول الأوروبية الأخرى، حتى انه يبدو في بعض الأحيان كاتباً تنبؤياً: فقد تنبأ بالهجوم الإرهابي الذي وقع في جزيرة بالي، وظهور حركة السترات الصفراء في فرنسا. لقد رأى منذ فترة طويلة، إن تهديد الإسلام الأصولي للغرب لا يأتي من الإسلام، بقدر ما يأتي من الشك والجبن والفساد وعجز المجتمع الغربي وهشاشة ردة فعله، التي هي في حد ذاتها نتيجة للخواء الروحي، الذي يعاني منه الغرب والذي يصفه ويلبيك بشكل جيد، دون أن يقدم حلاً بالطبع، لأن ذلك ليس مهمة الروائي، إلا بمعنى أن النقد هو المرحلة الأولى من التفكير في التغيير.

"إبادة"، رواية ويلبيك الثامنة والطويلة جداً التي قال عنها إنها الأخيرة، صدرت عام 2022 وتقع في 736صفحة. وهي بلا شك أكثر مما يبرره المحتوى ومع ذلك، فهو ليس أقل قابلية للقراءة من رواياته السابقة، وكالعادة سرعان ما ترجمت إلى العديد من أهم لغات العالم. وهو أمر إيجابي بالنسبة لعمل روائي يتناول موضوعات جادة مثيرة للاهتمام، ويشير إلى أن المؤلف أصبح الآن ظاهرة أدبية في الأدب الفرنسي. ويبدو أنه في روايته الجديدة سيطر إلى حد ما، وإن لم يكن تماما، على ميله إلى الأوصاف الإباحية وتخيلاته الجنسية، ربما بسبب تقدمه في العمر فهو اليوم في منتصف عقده السابع.

حبكة مفككة

 المرء لا يقرأ روايات ويلبيك من أجل حبكاتها، ولا من أجل شخصياتها المتشابهة: كهول فرنسيون أذكياء ومتعلمون جيدا، ولا يعانون من القلق الدنيء بسبب نقص المال. مشكلتهم الوحيدة هي أنهم لا يعرفون كيف يعيشون، أو من أجل ماذا يعيشون. إنهم لا يشعرون بخيبة أمل، لأنه لم يكن لديهم أي أوهام. إنهم بلا دين، ولا معتقد سياسي، وحتى بلا ثقافة، على الأقل بمعنى كونها قوة روحية لحياتهم، وليست زخرفة أو هواية. علاقاتهم الإنسانية والعائلية والجنسية ضحلة، مبنية على مشاعر اللحظة، دون أي التزام أو سيطرة على القيم التقليدية. بمعنى ما، فهي حرة، وعشوائية. إن الوحدة هي مصيرهم، ويمكن للمرء أن يستشف أنها النتيجة الطبيعية لذلك النوع من الحرية، الذي روج له ثوار مايو/أيار 1968. لقد زرع الثوار الريح فحصدوا العدمية؛ ومع ذلك فإن هناك عنصرا قويا من الحنين للماضي يسري في أعمال ويلبيك. وهو يشير إلى أنه لم يحدث من قبل في التاريخ أن كنا في مثل هذا الرخاء، ولم يحدث من قبل أن بلغنا هذا القدر من العجز في مسألة معرفة كيف نعيش.

 "إبادة" رواية متعددة الأصوات، تتشابك فيها عدة موضوعات، وتدور أحداثها خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2027. ويقرر الرئيس الحالي – الذي يسهل التعرف عليه وهو إيمانويل ماكرون – استخدام حيلة بوتين مع ميدفيديف، أي السماح لشخص آخر من حزبه بالترشح لولاية واحدة، حتى يتمكن من الترشح مرة أخرى من بعده. ويحدد القانون فترات الرئاسة بفترتين متتاليتين، لكنه لا يحدد عدد الفترات. بطل الرواية، بول ريزون موظف كبير ومقرب من رئيسه وزير الاقتصاد والمال التكنوقراطي الناجح برونو، الذي يعيد الاقتصاد الفرنسي إلى النمو. برونو رجل مقتدر للغاية، مرشح محتمل للرئاسة، ما يمنح ويلبيك الفرصة لوصف الطبيعة الساخرة للسياسة الحديثة، حيث التواصل هو كل شيء والجوهر يكاد يكون لا شيء. كل أولئك الذين يدربون المرشحين في فن الاتصال هم من النساء الشابات، لأن العالم أصبح نسويا ورجوليا في آن واحد، نسويا بمعنى توليهن، المزيد والمزيد من الأدوار القيادية ورجوليا بمعنى أن هؤلاء النساء قد اتخذن أدواراً ذكورية نموذجية. من حيث الطموحات والمواقف تجاه العمل.

تتشابك مع هذا الموضوع السياسي قصة غامضة، تظهر على الإنترنت في جميع أنحاء العالم؛ سلسلة من الرسائل الغريبة، بما في ذلك الفيلم الرقمي لإعدام الوزير برونو بالمقصلة؛ وتفجير سفن الحاويات. وحرق أكبر بنك للحيوانات المنوية في العالم في الدنمارك. تحاول الأجهزة السرية اكتشاف من يقف وراء هذا النشاط لكنها تفشل، وبحلول نهاية الكتاب ما زلنا لا نعرف ذلك. وهذا أمر غير مُرضٍ: فهو مثل قراءة رواية بوليسية، من دون اكتشاف الجريمة على الإطلاق. فهو يمنح المؤلف فرصة للتجول بحرية في مخيلته، من دون الحاجة إلى المصداقية.

 القتل الرحيم

 موضوع آخر تتناوله "إبادة" هو التعامل مع كبار السن. أصيب والد بول، الذي كان ضابطا كبيراً في المخابرات الفرنسية، بسكتة دماغية مدمرة، وتم قبوله في وحدة خاصة في المستشفى للأشخاص في الحالة الحرجة، ولكن لأسباب إدارية تم إغلاق هذه الوحدة بعد ذلك بوقت قصير، وتم نقل والد بول عن غير قصد إلى منزل مخصص لكبار السن العاجزين عن الاهتمام بأنفسهم. وهو منزل يرى بول أنه في الأساس منشأة للقتل الرحيم. بموجب القانون الفرنسي في حالة عدم قدرة المريض على التواصل يحق للطبيب المعالج، ومن واجبه تحديد ما هو في مصلحة المريض، لذلك يتصل بول وبقية أفراد عائلته بمجموعة، من المفترض أنها مرتبطة باليمين المتطرف، والتي تنقذ كبار السن من براثن المؤسسات البيروقراطية والقسوة التي ستقتلهم بحكم الأمر الواقع. موضوع القتل الرحيم غير حاضر بشكل مباشر في رواية «إبادة». صحيح أن بلجيكا لا تزال في طليعة هذه الممارسة، حيث تقوم فرق طبية سراً بإخراج بعض المرضى من المستشفيات، لكن الأشهر والأيام التي تسبق نهاية الحياة هي التي تجعل هذه الرواية مؤثرة. الغرب يشيخ ويتحرك بلا هوادة نحو الموت. فهل هذا سبب لتسريع الأمر؟

من المعروف أن ويلبيك كان معارضاً شرساً وثابتا للحملة الرامية إلى تشريع القتل الرحيم في فرنسا، الأمر الذي وضعه مرة أخرى على خلاف مع المثقفين في بلاده. وكتب قبل عامين في صحيفة "لوفيغارو": "عندما يصل بلد أو مجتمع أو حضارة ما إلى نقطة تشريع القتل الرحيم، فإنه يفقد في نظري كل حق في الاحترام. من الآن فصاعدا، لم يعد تدميرها مشروعا فحسب، بل مرغوبا فيه؛ بحيث تكون ثمة فرصة – لشيء آخر أو بلد آخر، أو مجتمع آخر، أو حضارة أخرى للظهور". الأفراد في روايات ويلبيك لديهم الرغبة في تدمير أنفسهم بما لا يقل عن الحضارة الحديثة: فهم يبحثون عن المعاناة عندما لا يكون هناك سبب خارجي أو "موضوعي" لذلك. في نهاية الكتاب، يعاني بول البالغ من العمر خمسين عاما من سرطان اللسان، الذي سيقتله قريبا – ومن هنا عنوان الكتاب. وفي الوقت نفسه، أعاد هو وزوجته إحياء حبهما بعد سنوات من الفتور. استمرا في العيش معا، على الرغم من عدم وجود اتصال حقيقي بينهما. يبدو أن اغترابهما هو نتيجة لتدمير الذات، حيث لم يتغير أي منهما بشكل ملحوظ عندما يعيدان اكتشاف حبهما لبعضهما. الحب جوهر الحياة ويعطيها معنى، هذا ما يمكن أن نستنتجه من هذه الرواية، لكن لسوء الحظ، من الصعب العثور على الحب بشكل خاص في العالم الغربي المعاصر، حيث يتم تقدير المال والسلطة والنجاح والحرية العشوائية أكثر بكثير من الحب، الذي يتطلب الالتزام وتقييد الذات.

روايات ميشيل ويلبيك
الخواء الروحي والفكري والسياسي للحياة في المجتمعات الغربية الحديثة موضوعا لكل رواياته

الذكورية السامة

 تحتل الحياة الخاصة للشخصيات معظم الكتاب، وهي، كما هو متوقع من ويلبيك، غير مرضية، على أقل تقدير. على سبيل المثال، شقيق بول الأصغر الضعيف وغير الفعال، أوريليان، الذي كان اهتمامه الوحيد في الحياة هو ترميم مفروشات العصور الوسطى، متزوج من صحافية مغمورة ذات شخصية شريرة، أنجبت طفلاً عن طريق التلقيح الاصطناعي، على الرغم من أن أوريليان نفسه ليس عقيما. لقد اختارت متبرعا أسود بالحيوانات المنوية لتعظيم إذلال زوجها، وأظهرت علنا أن الابن ليس ابنه، وفي الوقت نفسه تدعي الفضيلة الليبرالية لنفسها، وكان ابنها دليلا حيا على أنها ليست متحيزة عنصريا. يشير ويلبيك هنا إلى أن ما يعتبر في العالم الحديث فضيلة سياسية غالبا ما يكون نتاج شخصية كريهة. تصف رواية "إبادة" أيضا نهاية حقبة ظلت فيها السلطة الاجتماعية والسياسية للذكور، من دون منازع، وكان للرجال فيها امتياز لا يمكن إنكاره في تحديد مبادئ وجود المجتمع الحديث. الرجال في أعمال ويلبيك، خصوصاً في "إبادة" يعتبرون المرأة عدوا، والزواج سجنا، والأطفال عبئا، والسود أدنى مرتبة. باختصار، الرجال الذين ما زالوا يتحسرون على تحرر المرأة والأشخاص الملونين، والذين يسارعون إلى شرب الكحول عندما يتحرك شعور ما في داخلهم.

الشخصيات الذكورية البيضاء التي تدور حولها كتب ويلبيك في نهاية المطاف هي دائما بائسة. الكاتب لا يجنبهم الإذلال ولا الضعف. ولا يسمح بأي أوهام شخصية.

على من يقع اللوم في تعاسة الرجال

يحدث هذا أيضا مع الشخصية الرئيسية في الرواية، بول ريزون: في اللحظة التي اكتشف فيها أخيرا حبه لزوجته برودينس، شخّص الأطباء مرضه بسرطان اللسان، وفرضوا عليه شرطا: الجراحة أو الموت. ليس من المستغرب أنه يختار أن يفقد حياته وليس لسانه. وبطبيعة الحال، فهو لا يخبر زوجته أنه كان من الممكن أن تكون لديه فرصة أفضل للبقاء على قيد الحياة، إذا وافق على العملية. مهمتها الآن هي رعاية زوجها بتفان حتى وفاته..

تجدر الإشارة إلى أن الكاتب الفرنسي إدوارد لويس والكاتبة الفرنسية المغربية ليلى سليماني يصفان أيضا رجالا مشابهين لأبطال ميشيل ويلبيك. لكن على عكس ويلبيك، يدرك لويس وسليماني أن الرجال يعانون من مشاكل المجتمع، مثل الفقر والعنصرية والاستعمار وعدم المساواة الاجتماعية. يعتقد ويلبيك أن مصائب شخصياته تكمن في طبيعتها: فالرجال مهووسون بالجنس، ويشعرون بأنهم مستعبدون ظلما (على الرغم من أنهم يتمتعون بأكبر قوة مالية وسياسية)، وإن على النساء البقاء في المنزل، وتربية أطفالهن. ورعاية أفراد الأسرة المرضى والتضحية من أجلهم. ويلبيك لا يريد حتى التفكير في خيارات أخرى للنساء.

تمثل روايات ويلبيك ما يحتاجه المحافظون اليمينيون في فرنسا بشدة، لأن البلاد، مثل الديمقراطيات الأوروبية الأخرى، وجدت نفسها منذ فترة طويلة في حاضر جديد يطالب فيه النساء والأشخاص الملونون أيضا بالسلطة السياسية.. ويريد أفراد من كلا الجنسين أن يعاملوا على قدم المساواة، وهذا يخيف بعض الناس. ولعل سبب شهرة أعمال ويلبيك – مهما كانت استفزازية – هو ما يقدمه للقراء: قصصه تسمح لنا بالدخول إلى عقل رجل يخشى المساواة في الحقوق في المجتمع ويفضل أن يكون وحيدا، بدلا من الانفتاح على الآخرين. الذين هم على قدم المساواة معه.

وأخيرا لا بد من الإشارة إلى أن روايات ويلبيك ومنها "إبادة" لا تتميز بعمق الرؤية الفنية وبراعة البناء السردي، ولا يجد القارئ فيها ثراء نفسيا ولا متعة جمالية. فهو لا يغوص في أعماق الشخصيات، بل يكتفي بتحليل الأحداث الجارية. وروايته الأخيرة مليئة بالقصص التي لا تؤدي إلى أي مكان، ومع ذلك هناك من ينسب إليه القدرة على التنبؤ.