آفاق إنسانية عند نجيب محفوظ

حسن يوسف طه يتناول تيمة الزمن في روايات نجيب محفوظ، معتبرا أنه يمكن النظر لتلك القضية على أنها دلالة على مرحلة الواقع المعيش.
الزمن وسريانه هو تعبير حي عن حركة مجتمع خلال مرحلة ما
الحداثة عند نجيب محفوظ تمثلت في مستويين

القاهرة ـ من أحمد مروان

الزمن هو العباءة التي تلفنا في رحلة الحياة، والإنسان في الزمن إما أن ينظر إلى الأمام المستقبل، أو ينظر إلى الخلف الماضي الذي ولى، وإما أنه يعيش في حيرة تجاه الحاضر مغتنمًا كل اللذات في ذلك الحاضر قبل أن يرحل. ونجيب محفوظ استخدم الزمن بكل أشكاله عبر رواياته. 
هذه الرؤية يقدمها د. حسن يوسف طه لتيمة الزمن في روايات نجيب محفوظ، في كتابه "آفاق إنسانية عند نجيب محفوظ"، معتبرا أنه يمكن النظر لقضية الزمن عند محفوظ، على أنها دلالة على مرحلة الواقع المعيش، أو إنها رمزية بطريقة ما عن واقع المرحلة التي يعيش أو يمر بها المجتمع المصري، ويميل المؤلف إلى تفسير التيمات المختلفة عند محفوظ تفسيرًا أيديولوجيًا إلى حد ما، فالزمن وسريانه هو تعبير حي عن حركة مجتمع خلال مرحلة ما.
من خلال الزمن يتمكن من رصد ورؤية درجة من الصراع أو السكون أو الاستسلام لحركة الواقع الهادر، يقدم على هذا أمثلة من أعمال نجيب محفوظ، كما في رواية "اللص والكلاب"، فالبطل سعيد مهران والبحث عن ذاته تعبير صادق عن زمن رمى به بعيدًا عن الأرض، ودليل واضح عن فشله في التعلق بالمرحلة فهي مرحلة الانتهازيين والمتسلقين، وفي "ميرامار" نجد أن عامر وجدي انزوى بعيدًا بعد أن فشل أو اضطر إلى الانزواء بعيدًا عن الحياة، واكتفى بأن يعيش في الماضي، إنه دليل حي على أنه في عصر مختلف عنه، إنه عصر التقلبات والرشاوي والسرقات وكل الأفاقين. انزوى بعيدًا يرى بدون أن يتمكن من المشاركة، وعدم المشاركة وعدم القدرة في الاصطلاح، وعليه أن ينتظر النهاية فلم يعد الواقع صالحًا لأمثاله. وهناك من يتشبث بالماضي ويتمنى أن يعود مرة أخرى إنه السائر في الطريق ولكن رأسه متجهة إلى الخلف.
الحداثة وما بعد الحداثة
يرى الكاتب أنه يمكننا القول إن الحداثة عند نجيب محفوظ تمثلت في مستويين، الأول، يضم العديد من النقاط وهي: الأسلوب والمضمون، المكان، الواقعية الحميمة، دور الأدب في الواقع، السؤال الذاتي الدائم. الثاني: يتمثل في اللحظة الحداثية.
أما أسلوب محفوظ فإنه اعتمد تحديث الأسلوب وكان الهاجس الذي يسيطر على نجيب محفوظ، في الفترة التي كان منغمسًا فيها باستعمال القوالب القديمة ومتمسكًا بأصالة العبارة، وكان يعتبر أن الحداثة لا بد لها من أن تعبر أولاً من باب التراث ، كانت مهمة المبدع كما يرى محفوظ أن ينفض عن القديم وجه الرثاثة والركاكة، وأن يستبدله بوجوه النضارة والانبهار والانبعاث. 
إنها أزمة الكاتب في مجتمع يعيش على الماضي في كل شيء، وكان لا بد له في عملية الإبداع من استعمال الأسلوب الكلاسيكي والتخلص من جميع وجوه الغثاثة التي تثقله. يقول محفوظ في هذا المجال: "الذي كتبت به كان هو أحدث الأساليب وأشدها إغراءً وتناسبًا مع تجربتي وشخصي وزمني. وأحسست إنني لو كتبت بالأسلوب الحديث سأصبح مجرد مُقلد".
يعتبر المؤلف أن محفوظ أقبل على استخدام الأسلوب المتحرك النشط الحي، وكان يوفق في أعماله بين نظريتين متقابلتين، رؤياه أن الحواس لا ترتج – أي تتعلق – بأصالة العبارة، ورؤياه الأخرى أن الحواس لا يبهرها إلا رونق الجديد أو ضوء الكشف الجديد.
أما السمات الرئيسية عند محفوظ فحصرها ضمن عدة سمات منها، أن نجيب محفوظ تمكن أن يطور لنفسه أسلوبًا يُعتبر ثوريًا. فقد استطاع في روايته "بداية ونهاية" أن يغير من مفهوم البلاغة القديمة بأن يعتمد على الدقة في الصياغة والوصف بحيث يكون السرد بعيدًا عن الإطناب والحشو، وكتب بمنهج الاقتصاد في التعبير بحيث يجبر القارئ على التنبه لكل كلمة وعدم الخضوع لسيطرة الإيقاع العربي الجميل الغلاب.
عمل محفوظ أيضا على تطوير الحوار بحيث يُحاكي اللغة العربية في مصر العامية وبحيث يعكس الملامح النفسية للشخصيات والحياة الداخلية لكل منها، وقد برع في هذا في الثلاثية، حتى لنستطيع أن نرد حواره الفصيح فيها بأنه غير تجريدي أي أنه لا يتناول الأفكار المجردة التي اعتادها القارئ في حوار توفيق الحكيم مثلاً. ولذلك فإن إصرار نجيب على هذا المستوى من الفصحى في الحوار يعتبر ثورة لغوية.
وتعتبر السمة الثالثة في كتابة محفوظ هي تطوير اللغة العربية المستخدمة في الرد من مرحلة الواقعية البسيطة التي سادت قصصه القصيرة الأولى ورواياته (اللص والكلاب، الطريق، ميرامار، دنيا الله) إلى مرحلة الرمزية المركبة التي تطورت تدريجيًا في الأعمال التالية (أولاد حارتنا، الحرافيش، المرايا) لتصل إلى ذروتها في "يوم قتل الزعيم" إذ يستطيع نجيب أن يثبت هنا قدرة العربية في التفوق في الإمكانيات اللغوية، ما يمكن قوله إن اللغة عند نجيب محفوظ تمثل ثورة وحداثة حقيقية في عالم الرواية العربية المعاصرة.
وإذا انتقلنا إلى روايته "أولاد حارتنا" نجد أن عالم نجيب محفوظ يمر بمرحلة جديدة. وقد حافظ  محفوظ في الواقعية التقليدية على تكوين صور من الحياة، أما في الواقعية الجديدة فقد تجاوز التفاصيل إلى التشخيص الكامل. وقد كان ذلك لا يشكل تصورًا في الأسلوب وحسب، وإنما كان يشكل أيضًا تطورًا في المضمون.
حيوية المكان
للمكان وجود حيوي في أعمال نجيب محفوظ، حيث أصبحت الأماكن بمثابة البطل، فالمكان يتحول لديه إلى بيولوجيا النص الإبداعي، فمثلاً نجد المقهى، يتحول إلى البطل الأساسي في العمل بل يسقط العمل بأكمله باستبعاد المقهى، واتضح ذلك في (زقاق المدق، خان الخليلي، الكرنك). كان نجيب محفوظ يستوحى معظم شخصياته من المقاهي، فلم يعد المقهى مكانًا لقضاء الوقت، بل هو مكان للصداقات والعلاقات الحميمة ومكان تتبلور فيه النواة الإبداعية.
ويرى أحد الباحثين أن الواقعية التقليدية التي استوحاها نجيب محفوظ من عالم المقاهي، كانت ظاهرة فنية تمامًا كما كانت ظاهرة تسجيلية، إذ كانت أخطر من أن تكون مجرد صورة للحياة. إذ وارى وراءها وفي ثناياها الدقيقة والتفصيلية أفكارًا ومعاني، بدت وكأنها أعمدة الهيكل منها. كما استطاع أن يجعل خلف تفاصيلها المتنوعة أنماطًا رئيسية وصورًا أولية ونماذج أسطورية أو قالبية، تحكمها جميعًا قدرية صارمة محتومة ومرسومة سلفًا.
يذكر أن كتاب "آفاق إنسانية عند نجيب محفوظ"، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017، ويبلغ عدد صفحاته نحو 260 صفحة من القطع المتوسط .(خدمة وكالة الصحافة العربية).
 

الواقعية الحميمة
عصر التقلبات والرشاوي والسرقات وكل الأفاقين