آفاق صالح تطرق أبواب الاغتراب النفسي بـ'جمرات دافئة'

وتحاول توظيف دراستها في تقديم العلاج بالسرد الروائي عبر الحكاية المتخيلة والرمز والمطابقة مع الواقع وتجلياته

تواصل الكاتبة العراقية آفاق صالح إنضاج تجربتها الروائية على مهل، فقد وقعت أخيرًا روايتها الثالثة "جمرات دافئة" بعد تجربتين سابقتين هما "مس عشقي" و"مقبرة الغواية"، وبذلك تكتمل ملامح التجربة الروائية الخاصة للكاتبة في الاشتباك مع قضايا المجتمع العراقي وتناول عاداته وتقاليده وتحدياته بعين فاحصة ناصحة، وبحساسية فائقة وحيادية تنزع عنها إشكالية التصنيف تحت عباءة ضيقة لأدب نسوي، حيث تناقش في روايتها "جمرات دافئة" قضية الاغتراب النفسي، وتحاول توظيف دراستها في تقديم العلاج بالسرد الروائي عبر الحكاية المتخيلة والرمز  والمطابقة  مع الواقع وتجلياته، فهذه الأبنة "جلنار" ولدت في بيئة شعبية تقدس الرجل وترفعه لمنزلة الآلهة، ولها أم حنون وأب يلاحق رغباته ولا يبالي لزوجته المضحية، وله أخوات هن عمات جلنار، وكلهن يسيرن في فلك العادات والعرف، ولكنهن جميعًا جمرات دافئة، تفصح عن فطرتهن واحتياجهن الإنساني السوي، كما تكشف كم التناقضات التي يعشن فيها، وتبقى جدة جلنار المتوفاة هي حضن الحنان المفقود، وعمها مبارك العقل والقلب الناضج المحب للحياة هو وزوجته تبارك، ويبقى نوار بطل الحكاية وحبيب جلنار، شاب عاش بصدمة طفولية لاحقته في شبابه وأخرجت كل مكبوتاته في صور اغتراب نفس عن طبيعتها وفطرتها السوية إلى لحظة وفاة صديقه ضياء، وهي لحظة التنوير الكبرى التي كانت صفعة لنوار ليعود لنور وصفاء روحه.

بأسلوب سردي ممتع يجمع بين الخيال والصورة والواقع، تؤكد الكاتبة أن كل إنسان في المجتمع له قيمة حتى لو كانت أنثى مهمشة لم تمارس حياتها بشكل طبيعي، وأن يكون الرجل منصف مع المرأة فبعض السلوكيات التي اعتدادنا عليها يمكننا تغييرها، ومن أجواء الرسالة تقول على لسان بطلتها جلنار:

توجد ثلاث نسخ مني نسخة مرتبكة صامتة مع أهلي ونسخة ثرثارة فضولية مع العم مبارك، ونسخة مجنونة مع نوار. أكره نسختي الصامتة ويزداد كرهي لها كلما تمادوا في استعبادها، يأمرني أخي الوحيد بنزع جواريبه عندما يجلس على الكنبة حينما يمد رجليه بوجهي، وبنظرة متعالية يشير إلى رجليه، حضور أي فرد من عائلتي يخيفني، يطفئ ثورتي، وفطرتي، وكمن يعتاد عبوديته ولا يعود يراها بوضوح، أنفذ ما يطلبونه مني مع شعور بالنقص والدونية!

كل ما مضى أنجب هذا السؤال في رأسي! ماذا لو كنت ذكراً، سأتلقى معاملة مختلفة؟ أحب نسختي الفضولية لمعرفة الحياة، لكني أقف حائرة حول شعوري عن نسختي المتهورة مع نوار، لا أستطيع إنكارها، ولا أحب أن أفعل، لأنها تشبه حقيقتي، وما أنا عليه من الأساس.

تواصل الكاتبة بث رسائلها للقراء بشكل غير مباشر، ومنها أن السعي والركض خلف رغبات الحياة ، لا يجب أن ينسينا تربية ورعاية أطفالنا والقرب من نفسياتهم، وترسل الكاتبة رسائل عديدة أيضًا من بينها، أنه بأي وقت من الأوقات بإمكانك أن تخلع عنك نسختك القديمة وأن تسير بالنسخة التي تستحقها، تجسد ذلك في الرواية والدة "جلنار" التي رفضت في مرحلة ما التهميش وأن تظل مجرد ألة مركونة في وقت يركض زوجها وراء رغباته، وبالتالي تركت هذه المرأة زوجها وتركت له رسالة أخيرة ذات صباح وجدتها جلنار ولكن هذه المرة ليست في أغطية جدتها المهجورة، بل على الرف في صالة المنزل كتبت فيها :

 " كانت علاقتي بك كعلاقة الجسد بالروح، تعانق روحي جسد خطاياك مهما أثقلتني بالأذى، لكن الأمر أصبح مختلفاً بعد أن ضحى أخوك مبارك بكل ما يملك من أجل الظفر بقرب حبيبته، حينها أدركت أن المرأة التي تخضع في منطق الرجال لا قيمة لها، وبالرغم من أني من عاصمة الحضارة مثل تبارك تماماً، لكن كان هناك اختلاف جوهري بيننا، وهو أن تبارك تدرك قيمة نفسها على العكس مني تماماً، لم أعرف ماذا أعني لنفسي بكل ما مر بي من عمر، لأني كنت اعتقد أنك نفسي، وحين بالغت بتذليلها وإهمالها صحت الروح وقررت أن تغادر الجسد. اذهب وابحث عن جسد آخر يُشاركك الخطايا ويتعرى أمامك بكل ما أوتي من ضلالة، فالروح لا تقوى على حمل هوى النفس أحياناً، لتضيق بها مساحة الجسد فتفيض وتسمو بعيداً إلى منزلتها وسكينتها، إلى لا لقاء وداعاً أبا صباح).

العمات في الرواية كما الأم، جمرات دافئة مكبوتة، لهن رغباتهن السوية والطبيعية، لكنها تشوهت بطريقة التربية والتنشئة والقيود المفرطة، فتحولت شخصياتهم في الرواية إلى مسوخ بشرية قاسية، على عكس فطرتهم وطبيعتهم، وكل إنسان في الحياة مهما بلغت به القساوة، لو نفخ التراب عن جمرته الدافئة، لظهر على طبيعته. بمنتهى اللطافة والوداعة والإنسانية.

أما فيما يخص بطل الرواية نوار، فهو نتاج المكبوتات التي تعرض لها في سنوات طفولته الأولى حيث اختطف من أمه وتعرض للإيذاء والاعتداء، وهو ما ظهر على اضطراب شخصيته لاحقًا حين يكبر وفقا لتحليل سيغموند فرويد في كتابة الكبت، ولهذا هو يجسد بتناقضاته المتزايدة روح الرواية وجوهرها في ضرورة الانتباه لسلوكيات الأطفال وتصرفاتهم، فقد دفعته تحديات الحياة إلى العيش في الملجأ أو الميتم، ثم انحرافه سلوكيًا ودينيًا بشرب المسكرات والإلحاد، دفعه لذلك تبدل ظروفه وأحواله وطرده من المخبز الذي عمل فيه وعيشه مع المتحرر الثري الشاب، ضياء، الذي مات تاركا لنوار كل ما يملك ليبدأ نوار حياته الجديدة النظيفة.

تجربة سردية أكثر عمقًا ونضجًا عنها تقول آفاق صالح: أردت أن أقول للشباب. ألا ينجرف خلف طوفان وهمي خلقته الهواتف المحمولة، التي يسرت كل شيء ودهست في طريقها القيم والأخلاقيات فهذا الانجراف، عكس الفطرة ويؤدي لإنطفاء الروح والشعور بالضيق والاختناق في الحياة، ولهذا فإن الليل والزوجة هما السكينة والسكن، حتى لا يصبح الشباب ضحية لحرب الأخلاق والقيم، التي سهلت وسائل التواصل الاجتماعي هدمها، بعلاقات هشة سريعة سطحية، سرعان ما تنشأ وسرعان ما تنتهي، الرواية نفسية يحتل فيها العلاج النفسي وتعديل السلوك والإرشاد النفسي في مواجهة الانحرافات بمختلف أشكالها مساحة لا بأس بها، وهذا مقصود ويستهدف قراء العمل من الشباب والمراهقين الذين لا يطيقون الوعظ والإرشاد المباشر، وبالطبع تمتد الرسائل نفسها للمجتمع كله ففيه الأم والأب والأهل والأقارب ودوائر الأصدقاء، وكلها دوائر بالغة الأثر والتأثير في حياتنا.