'أحوال الصحافة المصرية' كتاب يعيد خالد السرجاني إلى الحياة!

الكاتب يرصد هموم السلطة الرابعة قبل وبعد ثورة 25 يناير ويناقش قضية حرية الاعلام واستقلاليته.

كثيرة هي الكتب التي تناولت أوجاع الصحافة المصرية، أغلبها استغرق في تفاصيل تشخيص الداء عبر الزمن، لكن يظل كتاب "أحوال الصحافة المصرية قبل وبعد ثورة 25 يناير" للكاتب الصحفي الكبير الراحل الأستاذ خالد السرجاني والذي جمعت مادته ورتبتها بعناية فائقة زوجته الصحفية الأستاذة نادية الدكروري، ليمثل الكتاب الصادر عن دار المرايا في 2023، علامة فارقة على التغلغل في بيت الداء وتشخيص الدواء والعلاج الناجع وكلمة السر "الحرية" بكل ما تحمله من معاني!

قبل أيام صدرت في مصر تشكيلة الهيئات الإعلامية المستحدثة بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، فتغيرت وجوه وأسماء رؤساء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والهيئة الوطنية للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة، لا أظن أن تغيير الأسماء فقط يكفي لانتشال الصحافة والإعلام المصري من غيبوبته، وقد صار جسدًا بلا روح أشبه بجثة هامدة في انتظار إعلان الوفاة والتشييع الرسمي. فلا أحد يمتلك العلاج، ولا أحد يجرؤ على إطلاق رصاصة الرحمة، فمنذ قرابة عقدين من الزمان وجسد الإعلام المصري والصحافة المصرية الأعرق في المنطقة العربية، متصلة بأجهزة التنفس الصناعي للدولة، تمنحها الأجهزة بعض المسكنات والمحاليل التي لا هي أفاقت القطاع من غيبوبته، ولا ردت إلى الصحافة روحها، بفك قيودها وإطلاق حريتها ورفعها من على الأجهزة!

أحزان حرية الصحافة

في عام 1988 قرأت كتاب "القربة المقطوعة" لمؤلفه الكاتب الكبير الراحل الأستاذ جلال الدين الحمامصي، وقتها كنت بالسنة الأولى في كلية الإعلام جامعة القاهرة، تتفتح عيني رويدًا رويدًا على معاني الحرية ولم اختبر بعد سلاسل القيود. أغراني الكتاب مبكرًا بالبحث في العلاقة الشائكة بين الصحافة والسلطة، أي سلطة في أي بلد، لفهم مدى تأثر الحرية بتلك العلاقة ومن يدفع الثمن في النهاية، سواء الحكومات أو الصحف والصحفيون أو المجتمعات والقراء، بخصم تراكمي كبير من أرصدة الوعي مقابل زيادات مفرطة إلى حد التضخم في الجهل والتغييب والتضليل الجماهيري وتزييف الوعي.

لاحقًا قرأت كتاب نقيب نقباء الصحفيين الأستاذ كامل زهيري "الصحافة بين المنح والمنع" صدر 1980 عن دار الموقف العربي، وكان قد صدر في العام نفسه "الصحافة بين السلطة والسلطان" لمصطفى مرعي عن عالم الكتب و"الصحافة والأقلام المسمومة" لأنور الجندي عن دار الاعتصام. وفي كلية الإعلام تعرفت إلى الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ صلاح الدين حافظ، وتوطدت صداقتنا بانضمامي لأسرة تحرير الأهرام، وهناك أهداني ثلاثة كتب عن حرية الصحافة هي تباعًا "أحزان حرية الصحافة" و"تزييف الوعى" و"تحريم السياسة وتجريم الصحافة". وفي 2019 أهداني صديقي الكاتب الروائي سعد القرش كتابه المهم "قبل تشييع الجنازة.. في وداع مهنة الصحافة" عن دار ابن رشد بالقاهرة، كان الكتاب قاسيًا في استحضار جنازة مهنة الصحافة، وهو حكم قاس رغم ما يحمله من حيثيات تدعمه، وإن كنت ومازلت أرى أن المهنة لن تختفي من الوجود، وأن ما سيختفي هو نتاجها الرديء الهزيل، أيًا كان شكله ورقي مطبوع أو إلكتروني تم تجهيزه في عجالة فوق نار حامية سريعة، تفسد الطبخة ولا تُحسن إلى الطهاة أو الآكلين.. صحفيين أو قراء أو حتى مسؤولين في مواقع السلطة!

نضال من أجل الحياة

أعود لكتاب الأستاذ خالد السرجاني الذي وصفه الروائي الكبير أحمد صبري أبوالفتوح بأنه أحد أهم محاولات رصد أحوال الصحافة المصرية قبل وبعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني سنة 2011، ومن خلاله يعرف القارئ الكثير عن مجريات الأمور ويتتبع هموم الصحافة فى تلك الظروف الدقيقة، سواء قبل الثورة أو بعدها، خاصة ما كان يحدث من غليان في الشارع المصري وفي أروقة الصحافة، على المستوى الاجتماعي بشكل عام والمستوى السياسي على وجه الخصوص.

الحقيقة الناصعة التي تؤكدها سطور هذا الكتاب بحسب الكاتب الصحفي جمال فهمي، هي أن الحرية عموما وحرية الرأي والصحافة خصوصًا هي شرط لازم وأساسي لازدهار المهنة، بل لبقائها أصلا على قيد الحياة، وهي بهذا الفهم ليست مطلبًا فئويا لمن يمارسونها، وإنما هي حق أساسي من حقوق البشر في أي مجتمع ونضال وكفاح من أجل الحياة نفسها.

نقيب الصحفيين الأسبق الكاتب الصحفي الأستاذ يحيى قلاش قدم ما يشبه الشهادة، مشيرًا إلى أن قضية الحرية ظلت قضية القضايا عند خالد السرجاني الذي كان يرى أنه لا حرية حقيقية للصحافة والإعلام، إلا في بيئة ديمقراطية حقيقية، وأن ممارسة هذه الحرية تحتاج إلى ضمانات قانونية وسياسية ومهنية تحميها، وأنه مطلوب تحرير المواطن والوطن بإطلاق الحريات العامة وصيانة حقوق الإنسان المتكاملة، وفق إرادة سياسية مجتمعية مستقلة بتوجه ديمقراطي سليم.

تناول كتاب السرجاني حالة الاستقطاب الصحفي بين منهجين، الأول هو كونها أداة في يد السلطة ومجرد إعلام تعبوي، والثاني هو حرية الصحافة واستقلالها، وما أدى إليه الصراع بين المنهجين الذي كان على أشده في السنوات القليلة السابقة على ثورة 25 يناير/كانون الثاني إلى احتجاب بعض الصحف الخاصة، احتجاجا على ممارسات السلطة ضدها وضد الصحافة الحرة بشكل عام، وعلى تقييد حرية الصحفيين والأحكام الصادرة بحبسهم وغيرها من الممارسات السلطوية التي تنال من حرية الصحافة والصحفيين.

نشرات الزيف

السرجاني الذي وصفه الكاتب الصحفي أسامة الرحيمي بالمثقف المسكون بالحريات، رصد تحوّل بعض الصحفيين من مندوبي الصحف لدى الوزارات والهيئات ومختلف الجهات التي يستقون منها الأخبار وموضوعاتهم اليومية، الذين تحولوا بعد قليل إلى مندوبين لتلك الجهات لدى صحفهم. كما تطرق في شهادته إلى دور مقالات السرجاني في رصد تورط رؤساء التحرير في نشر مقالات بناء على تعليمات محددة، وبعد أيام يتم تغيير تلك التعليمات إلى نقيضها، فيكتبون ببساطة نقيض ما نشروه قبل أيام دون أي اعتناء بتشوه صورهم ولا انهيار مكانتهم في أنظار القراء، ويصل بهم الأمر حد عدم الاهتمام بأي شيء إلا رضا من جاءوا بهم إلى مناصبهم. فلا تعنيهم مهنة ولا رأي القراء ولا تدهور توزيع صحفهم ولا إهدار المال العام في تلك الجرائم المهنية.

من أوجه الزيف في الصحف القومية قبل 25 يناير/كانون الثاني 2011، أشار السرجاني إلى أن الصحافة المصرية شهدت تقليدًا جديدًا لم تكن تشهده من قبل، وهو الحوارات بالمراسلة مع الرئيس التي ترسل إليهم أو تملى عليهم بما يعني في داخله أن رئاسة الجمهورية ليست مقتنعة بقدرة رؤساء التحرير على إجراء حوارات متميزة مع الرئيس فيستعاض عن ذلك بأسلوب الحوارات الجاهزة التي تنشر في الصحف ولا تثير أية ردود أفعال لدى القراء.

هذه النشرات وما تغطيه من أحداث لا تهم القراء والمواطنين، فهي دليل دامغ على زمن الزيف، فلدينا ما يطلق عليه مسمى الصحف لكنه لا ينتمي وفق أي تقييم علمي إلى هذه التسمية، وتطلق الحكومة على ما تقوم به من تراجع عن الديمقراطية ومن عصف بالحريات مسمى الإصلاح، وهو ما لابد أن يسمى تراجعا عن الإصلاح.

هذه الرؤية أكدها الكاتب الصحفي الأستاذ عبدالله السناوي في تقديمه للكتاب حيث يقول إنه خلال دفاعه المتصل عن حرية الصحافة على مدى سنوات، حاول الكاتب الراحل خالد السرجاني أن يؤكد بلا كلل أنها لا تعني الصحفيين وحدهم، إنها قضية مستقبل ومصير.

الكتاب تطرق إلى ظاهرة الصحف الخاصة التي فرضت نظامًا صحفيا جديدا، ومثلت حساسية جديدة في التناول الصحفي تختلف عن تلك المتقادمة التي تمثلها الصحف القومية، وطرحت معركة ليست فقط بين صحف أدمنت تزييف الوعي وأخرى تحترم قارئها، أو بين اتجاه حكومي في الصحافة وآخر ليبرالي ولكنها في الوقت نفسه معركة بين من يرون السلطة هي المبدأ والمنتهى وبين من يسعون إلى القضاء على هذه الأسطورة من أجل حماية الفرد من جبروت السلطة نفسها. ويعتقد السرجاني أن الحسم سيكون في النهاية لصالح من يدافع عن الرأي العام وليس عن سلطة تتأكل وتتحلل.

صحافة تصارع الموت

يمضي الكتاب في كشف أوجاع الصحافة في مصر، فمن كان يتابع الصحافة العالمية بل والعربية منتصف عام 2009، كان سيجد أنها تنشر كل يوم أخبارًا عن الصحف، عن تلك التي أغلقت أو التي تحولت إلى إلكترونية وأغلقت إصدارها الورقي أو تلك التي تبنت برنامجاً طموحا من أجل الحفاظ على بقائها والتي قررت أن تغير تبويبها وقطعها أو التي قرر مجالس تحريرها أن يوسع من استخدام الصور على صفحاتها والحركة مستمرة والمحاولات لا تتوقف من أجل الحفاظ على الصحف الورقية في مواجهة المنافسة من المحطات التلفزيونية ومدونات الإنترنت والصحف الإلكترونية وغيرها من الوسائط الإعلامية الحديثة، إضافة إلى الندوات والمؤتمرات العربية والدولية لمناقشة مستقبل المهنة، ولكن صحافتنا كانت غائبة للأسف عن هذا الجدل الدائر بشأن مستقبل المهنة التي تصارع من أجل البقاء والصمود. وبمرور الوقت زاد الصحفيون سلبية على سلبيتهم، الأمر الذي أدى إلى موت نقابة الصحفيين وتحولها إلى مجمع خدمات خاص بأعضائها.

نكتب اليوم بأقلام العجز وقلة الحيلة أمام استفراد بلطجي المنطقة الكيان الصهيوني بالشعب الفلسطيني الأعزل، يمعن في القتل والإبادة والمجازر الوحشية أمام صمت مطبق من العالم بدوله ومؤسساته الأممية، ونحن قرب نهايات عام 2024 تفصلنا أيام عن المؤتمر السادس لنقابة الصحفيين المصريين، وتحمل هذه النسخة اسم دورة فلسطين، ويتضمن برنامج المؤتمر العديد من الجلسات والموائد المستديرة والقضايا التي سيتم وضعها على طاولة المؤتمر الذي ينعقد أيام 14 و15 و16 ديسمبر/كانون الأول 2024، خاصة المشكلات المتعلقة بالواقع الصحفي المصري من خلال ثلاثة محاور رئيسية تتعلق بمستقبل الصحافة والحريات والتشريعات الصحفية واقتصاديات الصحافة، لنعيد مع السرجاني طرح أسئلته المشروعة من جديد عن الحريات الصحفية وحقوق الإنسان، وما يمكن للصحافة المصرية أن تقوم به من أدوار اليوم  لمكافحة الأخبار الكاذبة والشائعات وحملات التزييف والتضليل التي تضج بها أوحال وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاته الرقمية؟ تلك المنصات التي أدانتها الكاتبة الصحفية سهيلة نظمي في مقالتها بصحيفة الأهرام في 25 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2020، بعنوان "الآن.. لدى مصر 100 مليون صحفي"، رافضة المفهوم المشوه لصحافة المواطن، ومؤكدة في الوقت نفسه أننا بحاجة إلى العودة إلى تطبيق النظريتين الأساسيتين في الإعلام السلطة والحرية اللتين تولدت عنهما المسؤولية الاجتماعية والتي تقول إن الحرية حق وواجب ونظام ومسؤولية في آنٍ واحد، وأن الصحافة ليست شفايف الحكومة وإنما هي صوت الدولة والشعب. ليرجع إيماننا وتطبيقنا لهذا ثم مرحبًا بفتح كل النوافذ للرياح من كل الاتجاهات شريطة ألا تقتلعنا من جذورنا، ولتبعث الصحافة من رقدتها التي طالت وهي تصارع الموت.

في الباب الثاني تناول الكتاب صحافة ما بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني، ورصدت مقالات السرجاني الجريئة تراجع الأداء الصحفي والإعلامي فيما وصفه بالعودة إلى الوراء، وبروز الرقابة وحملات التحريض والكراهية، وساد الانفلات الإعلامي مع اختلال معايير اختيار القيادات الصحفية، وهو الأمر الذي قدم فيه السرجاني مقترحات تفصيلية بشأنه في أحد مقالاته، خاصة تساؤلاته عن ضرورة إعادة هيكلة الإعلام في مصر!

السرجاني قال كلمته وطرح أسئلته في كتابه "أحوال الصحافة المصرية" ورحل دون أن يتلقى إجابات شافية عنها، حتى صدرت قبل أيام التغييرات الجديدة لرؤساء الهيئات الإعلامية والصحفية بمصر، أسماء ذهبت وأخرى جاءت فهل تستطيع أن تنتشل الجثة الهامدة من مرقدها وترد للصحافة روحها لتستعيد حريتها وتعيد للإعلام المصري وماسبيرو تحديدًا دوره وبريقه!