
آلان دوبوتون يدرس تحولات مفهوم المكانة
بقلم: كه يلان مُحَمَد
قراءةُ المراحل التي مرت بها المفاهيم الفلسفية على ضوء تطورات الحياة والتقلبات التي تشهدها تركيبة المُجتمعات تضعكَ في قلبِ العلاقة الجدلية القائمة بين الفكر وواقع المُجْتَمَع. وهذا ما يشتغلُ عليه الكاتب البريطاني المقيم بسويسرا آلان دوبوتون، الذي يتناولُ جملةً من المسائل الحياتية في مؤلفاته ساعياً للربط بين ما حفظتهُ المدونات الفلسفية وما تفرضهُ وتيرة تطور الحضارة.
إذ يناقشُ في مؤلفه الجديد "قلق السعي إلى المكانة" - الصادر من دار التنوير - على غرار ما عمله في "عزاءات الفلسفة" و"كيف يُمكنُ لبروست أن يغير حياتك" - هاجساً إنسانياً آخر بناءً على رؤية كوكبة من الفلاسفة والمُفكرين على امتداد العصور، وهو مفهوم المكانةِ وما تعنيه نظرة الآخر في تحديد موقع الذات ودورها في سُلَمِ التَراتُبية الإجتماعية ناهيك عن علاقة الإنسان مع نفسه وقدره لوظيفته في ظل مُحدداتٍ إجتماعية لحالات النجاح والفشل.
بعد تعريف المكانة ومعنى المفردة في أصلها اللاتيني، وما تشيرُ إليه داخل سياقات تداولية، يؤكدُ آلان دوبتون على حساسية ما يسميه بقلق المكانة ومخاوف الإنسان من الفشل وما يتبعه من فقدان القيمة على الصعيد الإجتماعي، ويوردُ في هذا الإطار رأي وليم جميس بشأنِ تطلعات الفرد لكسب اهتمام الجماعة والشعور بالإحباط الذي يخلفه تجاهل الأخرين لوجود الفرد وكيانه، يصفُ صاحبُ "معنى الحقيقة" ذلك التصرف بعقاب شيطاني نظراً للخيبة الناجمة من الإهمال وعدم التقدير لدى المرء. حسبما يقدمه الكاتب فإنَّ المؤثرات التي تسببُ الشعور بالقلق تتوزع بين المادية والعاطفية.
ويبدو أنَّ القلق بشأن المكانة قد تضاعف في العصر الحديث نتيجة مقارنة الفرد لحالته مع ما عليه غيرهُ وما يمتلكه، وتطلعه لامتلاك أكثر. ومن ثُمَّ يرصدُ المظاهر المادية للتحول الإقتصادي الكبير الذي بدأَ من بريطانيا وإمتدَ إلى بقية البلدان الأوروبية الأخري وانعكاس ذلك على القيم الإجتماعية، وما يرسمُ مكانة الفرد وعلاقته بالذات والآخر في الوقت نفسه.
التكاملية

يعالجُ آلان دوبوتون موضوعاته الأثيرة وفقاً لمنهج تكاملى بعيدا عن المقاربات المبتسرة حيثُ يربطُ بين مفهوم المكانة والأبعاد الفكرية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية مستنداً إلى الإحصائيات الدقيقة لدعم آرائه كما ينفتحُ على روافد فلسفية متنوعة مُحافظاً على حيادته بين تيارات مُتصارعة، فهو لا يُمانع أن يجمعَ بين نصائح المسيح وتفسيرات كارل ماركس لطبيعة النظام الرأسمالي. ولا يكتفي بإيراد ما توصل إليه مشاهير الفكر والفن بشأنِ معطيات حياتية إنما يُفضل إظهار بوادر التحول في الواقع وما يحمله ذلك من عوامل مؤثرة على المذاقات والسلوكيات.
فوق هذا فإنَّ آفاق التحولات لا تلوح فقط على المستوى الفكري والسياسي بل ما تعتبرهُ بسيطاً قد لا يخلو من دلالات مؤشرة إلى التغيير. فيما كانت الموضة تظلُ ثابتةً لعشرات الأعوام على حد قول الكاتب، لكن مع بدء العصر الصناعي يتبدلُ الأمرُ فتُصبحُ الموضة متغيرةً في كل سنةٍ، كما أن البضائع والسلع المحصورة بطبقة معينة صارت بمتناول الجميع، ويأتي كل ذلك متزامناً مع توسع الأسواق وفتح عدد كبير من المتاجر.
ولاحظ دانيال ديفو أثناء تجوله في بريطانيا ازدياد متاجر جديدة بواجهات جذابة بالطبع، فإنَّ هذا التطور المادي يغذي الرغبة الإستهلاكية فضلاً عما يُحدثهُ من التحول في مفهوم المكانةِ بمجردِ العودة إلى ما كان عليه الحالُ بين 1300 -1660 حيث لم يتبدلْ شكل المحراثِ في عموم أوروبا. يتبينُ إيقاع البطيء للحياة بخلاف المرحلة التي تشهدُ فيها القارة الأوروبية تطوراً هائلاً بتأثير العوامل الفكرية والإقتصادية.
من هنا يكونُ الآجر الذي يُدفعُ للعامل شأنه (شأن الزيت الذي يوضعُ للعجلات لكي تواصل دورانها ولم يعد الهدف الحقيقي من العمل هو الإنسان، بل المال) على حد تعبير ماركس. ما يعني أن المال تحول إلى مؤشر سلمي للشخصية. وبدأتُ بموازاة ذلك محاولات فكرية مسوغة لتغول العملة وتصاعد الرغبة للربح. لعلَّ ما ذهبَ إليه برنارد ماندفيل عن تثمين دور الأغنياء بوصفهم مُساهمين في تقدم المجتمع بما يُوفرون من فرص العمل بنفقاتهم الطائلة مُغايرُ لما ساد من الإعتقاد بأن الثراء والفقر ليسا معياراً دقيقاً للصلاح الأخلاقي لأنَّ الأنبياء هم أكثر سموا وفضيلةً ولم يكونوا من طبقة الأثرياء. والنموذج المُقتدى آنذاك هو المسيح.
مبدأُ الكفاءة
المؤلف يتوقف عند موقف فيرجينيا وولف حين لم تُسْمَح بالدخول إلى المكتبة العامة بدلاً من أن تحملَ نفسها مسؤولية هذا التصرف بدأتَّ بطرح الأسئلة حول طبيعة النظام الذي يفرق بين الرجل والمرأة.
يعزوُ جان جاك روسو علة التفاوت الطبقي المُصاحب بالقلق على المكانة إلى شيوع الإقطاعية وحب التَملك. ويرى آدم سميث فوائد في الممتلكات الضخمة مبدياً إعتراضه على أنَّ تراكم الثروة نتيجة للإستغلال وأن تشبع الأثرياء، يكون على حساب الفقراء.
يمضي توماس بي أبعد عندما يريد إثبات أن تعاليم الإنجيل تُحبذُ الثراء وتواصلت المُحاولات في أميركا للتكريس بين المال والخلق الرفيع. كما تَمَّ الإحتفاء بآراء سبنسر المُجحفة بحق الفقراء في أرض الأحلام. إضافة إلى تقديم المُحاججات بين الفلاسفة حول محور الكتاب يتتبعُ المؤلفُ مراحل حلول الكفاءة مكان الإعتبارات الأسرية إذ لم تُعَدُ المكانة تورثُ جيلاً وراء جيل، بل تُصنعُ بفعل مبدأ الكفاءة والموهبة وظهرت الكفاءة الأرستقراطية.
يقولُ نابليون بونابرت "لقد اتخذتُ مُعظمَ قادتي من وحل الأرض كلما عثرتُ على موهبةٍ أكافئها بما تستحق". ومن جانبه أبدى الفيلسوف الأنكليزي توماس هوبز تبرمه من ظاهرة توارث السلطة والمكانة مقتنعاً بأنَّ ذلك ليس أقل مدعاةً للسخرية ممن يطالب بتوريث موهبة التأليف والرسم والهندسة لابنه.
رهانات بديلة
قد يثيرُ ما قُدمَ أعلاه سؤالاً حولَ البديل في ظل هيمنةِ العقلية الوظيفية هل الإنسانُ بات مَحكوماً بين خيارين لا ثالث لهما، أما أن ينصبَ كل إهتمامه على ما يتطلبه نظام السوق، فبالتالي يكونُ شخصاً ناجحاً ويكتسبُ تقدير الآخر أو يسير مُخالفاً لما تفرضه القيم السائدة، وهي تُمَثِلُ أيدولوجيا الطبقة الحاكمة دون أن يتخلص من الشعور بالإحباط؟
أين موقع الفلسفة والفن والأدب؟ هل يختفي أثر كل ذلك في موجة أسواق البورصة وعملية سلعنة إهتمامات الإنسان؟ هل من سبيل لإكتساب المناعة في هذا المُناخ المُتوتر؟

هنا يذكرُ آلان دوبوتون موقف نخبة من الفلاسفة والأدباء الذين إختاروا نمط حياتهم بعيداً عن عوامل خارجية منهم سقراط الذي لم يتأثر عندما بُلغَ بأن أهل أثينا يطلقون عليه ألقاباً مهينة كما يشيرُ إلى ردِ ديوجين حين يسأله الإسكندر المقدوني عما يحتاج إليه. فما كان من الفيسلوف إلا أن قال "تساعدنى لو إبتعدت قليلاً فأنت تحجب عني الشمس". ويضيفُ ما بهذا الصدد رأي الأمبراطور والفيسلوف ماركوس أوريليوس حيث يعتقدُ بأنَّ لياقة المرء ودماثته لا تعتمدُ على شهادة شخص آخر لصالحه.
كما يؤكدُ فولتير من جانبه بأنَّ الأرض تكتظ بأشخاص لا يستحقون التحدث إليهم. ويأتي رأي شوبنهاور أكثر حدةً يرى صاحب "العالم إرادة وتمثلا" بأنه لا يوجد في هذا العالم إلا الإختيار ما بين الوحدة والإبتذال. إلى جانب ذلك فإن للأعمال الفنية والأدبية مهمة تتمثلُ في تصحيح بعض تصوراتنا إذ يقول جورج إليوت "إن لم يوسع الفن حدود التعاطف الإنساني فلا نفع له من الناحية الأخلاقية".
يشارُ إلى أن وجود صور للوحات الرسامين مثل باتيست شاردان وكرستين كوبكه وتوماس جونز مرفقا بتعليقات ضمن الكتاب يوحي بضرورة التثقيف البصرى وإدراك دلالة اللون ومكونات اللوحة.
عطفاً على ما سبق يتوقف المؤلف عند موقف فيرجينيا وولف حين لم تُسْمَح بالدخول إلى المكتبة العامة بدلاً من أن تحملَ نفسها مسؤولية هذا التصرف بدأتَّ بطرح الأسئلة حول طبيعة النظام الذي يفرق بين الرجل والمرأة.
وفي الفصل الأخير يلتفت الكاتبُ إلى جماعة البوهيميين المناهضة للثقافة البرجوازية السائدة التي تعتبر بأن الفشل في أي مجال يرتقي إلى مستوى إدانة جسيمة لطبيعة الشخص المعني به. وبعض من هؤلاء مثل دي نرفال إنتحروا إحتجاجاً على تضخم الماديات والتزييف الإجتماعي. وما يشار إليه في هذا المقام أن القاريء قد لا يتفقُ مع كل ما ورد بين دفتي هذا الكتاب غير أنه يتفهمُ بعض أسباب القلق الذي يساور الإنسان في عصر التقدم التكنولوجي وسيادة الرؤية الغائمة.