آنا ماري شمل: عيسى ومريم شكلا دورا مهما في التراث الإسلامي الصوفي

المستشرقة الألمانية تلفت إلى أن عيسى يظهر في الأدب الصوفي القديم ضاربا المثل في الزهد وحب الله.
فروق عقائدية أساسية بين الإسلام والمسحية كالصلب وبنوة الله
لا يزال محمد يحمل صورة سلبية في الغرب

تقدم المستشرقة الألمانية والعالمة المرموقة دوليا في شئون الإسلام والصوفية آنا ماري شمل رؤية غاية في العذوبة والجمال لتجليات الحب والاحترام الكبيرين اللذين يكنهما المسلمون والصوفية منهم بصفة خاصة لرسول الله عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام، وذلك في كتابها المعنون بـ "عيسى ومريم في التصوف الإسلامي" الصادر عن دار الكتب خان بترجمة الباحثة لميس فايد المتخصصة في الدراسات القبطية، حيث انطلقت من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية وصولا إلى كبار شعراء وشيوخ الصوفية، مشيرة بأسى في مقدمتها إلى أن "عيسى يتمتع بمكانة عالية عند المسلمين حتى إن كانت هناك فروق عقائدية أساسية بين الإسلام والمسحية "كالصلب وبنوة الله" بينما لا يزال محمد يحمل صورة سلبية في الغرب". 
مؤكدة أن كتابها يسهم في إيضاح بعض الأفكار عن صورة المسيح ومريم في التراث الشعري الصوفي في الإسلام، ومن ثم إلى فهم أفضل للموقف الإسلامي من "ابن مريم"، "النور المخلوق"، ومن ثم إلى فتح آفاق للحوار المثمر".
وترى شمل أنه من الطبيعي أن عيسى ومريم - عليهما السلام - شكلا دورا مهما في التراث الإسلامي الصوفي وممارساته، فمنذ العصور المبكرة أصبح عيسى عاشق الله الزاهد مثلا يحتذى به لدى الصوفية، ودوما ما أكد الشعراء العظام على سبيل المثل لا الحصر: سنائي، والعطار والرومي على مكانة عيسى لدى المؤمنين في شعرهم، مع إبراز خيرهم المطلق وفقره ورحمته، وبذلك أضحى من أهم المرشدين في التصوف التطبيقي. 
ويطلق في بعض الجماعات الصوفية على الباحث (أو المريد) في آخر طريقه أنه وصل إلى "حال ـ عيسى" فطبقا للتعاليم الصوفية يجتاز المريد ثماني وعشرين محطة ترمز إلى الأنبياء المذكورين في القرآن ويختبر صفاتهم، وبهذا يكتسب إبان محطة عيسى الملكات الروحية والعقلية، كما صورها القرآن الكريم.

ألقى بالكوب بعيدا لما رأى أحدهم يشرب بيديه من البئر، ثم ألقى بالمشط لما رأى أحدا آخر مستخدما أصابعه عوضا عن المشط

وتضيف شمل "في مدرسة الصوفي نجم الدين كبرى (توفى 1221 في آسيا الوسطى) وبالأخص عند خليفته سمناني ترتبط مرتبة عيسى بـ "النور الأسود" أي "الفناء"، كما عرفه المتصوفة الألمان في العصور الوسطى بمصطلح (Entwerden)  ويقصد به التخلص من النفس في الحيرة التي تعقبها خبرة "جبل سمرقند" وهو "نور محمد" أو "تجربة البقاء في الله" وتعني أن يحيا الإنسان في الدنيا دون البعد عن الله". وقد صورها هنري كوربان في كتابه "إنسان الإشراق في التصوف الإيراني" (رؤيا) وهي تنطبق على صيغ مختلفة حتى في الطرق الصوفية.
وتشير شمل إلى أن صوفيين كبيرين في العالم الإسلامي وهما الحلاج الذي أُعدم في بغداد عام 922 فقد أشار كاتب سيرته الدؤوب لويس ماسينيون إلى أن حياته كانت نموذجا صيغ وفقا لعيسى القرآني، ويقصد بذلك موته على الصليب أو المشنقة المرفوض قرآنيا، وفي كثير من الأشعار اللاحقة يشار إلى "الصلب" ويقصد به "الحلاج". 
ولعل شهيد المتصوفة قد استخدم مصطلحات من لاهوت المسيح مثل "اللاهوت" و"الناسوت" ساهمت بشكل كبير في اعتباره "مسيحيا متخفيا" وهي وجهة نظر عالم أوروبي من القرن التاسع عشر يدعى أوجست مولر. وعالج صوفي كبير آخر علاقته بعيسى بوضوح وهو ابن عربي (1165 ـ 1240) هذا الصوفي الأندلسي أو بالأصح "الثيوصوفي" ـ بمعناها الكلاسيكي ـ الذي صرح خلال أعماله أنه قد تم له "الكشف" على الطريق الصوفي لعيسى، وكان على علاقة عقلية دائمة به. لقد تبدلت صورة عيسى في العصور المتأخرة، واحتدم النقد القديم على المسيحية كإحدى تبعات الاصطدام بالقوى الأوروبية.
ويتميز كتاب شمل بكشفه تحت عدد من العناوين ومن خلال مصادر إسلامية عربية وغير عربية النقاب عن ماهية عيسى ومريم في ذهن المسلمين من غير العرب والعرب، مثل تسليط الضوء على مثنوي مولانا جلال الدين الرومي، وحديقة الحقيقة لسنائي وشعر روزبهان الباقلي، و"إلهي نامه" للعطار وفصوص الحكم لابن عربي وغيرهم من الشعراء ممن تناولوا عيسى ومريم بالرمز في شعرهم، كما يتميز بإضافة مهمة وهي عرضه لمكانة مريم في الشعر الصوفي العربي وغير العربي. 

إيضاح بعض الأفكار
فهم أفضل للموقف الإسلامي 

وتلفت شمل إلى أن عيسى يظهر في الأدب الصوفي القديم ضاربا المثل في الزهد وحب الله، وتقول "نستشف من النصوص صلة بل وصداقة بين الزهاد المسلمين والرهبان المسيحيين والنساك، كما أبرز تور أندريه في كتيبه الجيد (Myrtentraedgarden) حتى إنهم لم يجدوا حرجا في أغلب الأحيان من مخاطبة النساك المسيحيين بتحية الإسلام، ويذكر أن أحد الزهاد قد عرف باسم "صديق عيسى". 
وتنوه بعض المرويات بأن سهل بن عبدالله التستري (توفى 896) قد التقى بأحد تلامذة عيسى ـ أي أحد الرهبان ـ ويبدو أن الأخير قد ارتدى معطفا جديدا من الصوف، فسأله التستري عن أمرها، فأجاب الراهب إنه يرتديه منذ وقت عيسى، "فليس الجسد ما يتخلص من الثياب، ولكن عفن الخطايا والطعام المحرم" لذلك لا يعد الأمر غريبا أن تجد العديد من الحكايا عن عيسى والأقوال المنسوبة إليه طريقها إلى باكورات أعمال الكتاب الصوفيين. ولعل أهم تلك المصادر كتاب أبي طالب المكي "قوت القلوب"، وأبو النعيم صاحب "حلية الأولياء"، والقشيري صاحب الرسالة المشهورة "الرشالة القشيرية في علم التصوف"، كما يظهر في أعمال الحجويري عن التصوف والمتصوفة "كشف المحجوب" كما يعد العمل الضخم للغزالي "إحياء علوم الدين" المعني باللاهوت معينا مهما لأخبار عيسى التي نقلها عادة من "قوت القلوب" ومن ثم نقلتها الآداب اللحقة. 
تقرأ شمل نصوص شعراء الصوفية الكبار وكذا فقهاء كالغزالي كاشفة عن تجليات حضور عيسى في المنهاج الصوفي، موضحة أن عيسى ومريم  أصبحا رمزين حيث يرد اسم عيسى مئات المرات إشارة للمحبوب، الذي شفي من أمرضه، أو أحيا أولئك الذين صرعهم الشوق، كذلك يأتي دالا على تصوير الحدائق حيث يظهر عادة مشبها بالربيع، الذي يبدو محييا للنباتات الميتة باعثا فيها حياة جديدة، وتتشابه هذه الصور عادة مع بعضها البعض شكلا، إلا أنها قد تتباين في الصيغ الروحانية.
وتحت عنوان "عيسى الرحالة الطاهر" ترى شمل أن منهاج عيسى يعتبر هو طريق التقشف والاستغناء والبتولية، إلا أن الزواج سنة عن النبي في الإسلام ولم ينسب له حديث عن البتولية، بل إن بتولية عيسى ومن اتبع نموذجه من الرهبان والكهنة كانت موضع انتقاد من الإسلام، وعالج الرومي تلك المعضلة معالجة رائعة في عمله النثري "فيه ما فيه" حيث أشار في الفصل الحادي والعشرين في سياق سؤاله عن الزواج إلى التالي "طريق عيسى عليه السلام هو مجاهدة الخلوة وقمع الشهوة، أما طريق محمد صلى الله عليه وسلم فهو تحمل جور النساء والرجال وغصصهم فإذا لم تستطع الذهاب في الطريق المحمدي، فعلى الأقل اذهب بطريق عيسى حتى لا تبقى محروما".
وتوضح أن الصفات الثماني للأنبياء والتي لا غنى عنها في الطريق الصوفي الصحيح، كما يرى الجنيد، منها أيضا دور الحاج، الذي خلص فيه عيسى نفسه من العالم، ولم يحتفظ إلا بكوب ومشط، وألقى بالكوب بعيدا لما رأى أحدهم يشرب بيديه من البئر، ثم ألقى بالمشط لما رأى أحدا آخر مستخدما أصابعه عوضا عن المشط".