أبعد من فستان الفنانة رانيا يوسف

الهروب إلى الموضوعات السطحية أحد السمات الرئيسية للعجز عن الاقتراب من القضايا التي تمس وجدان وعقل المجتمع المصري في الصميم.

الضجة التي حدثت في مصر بسبب الفستان الذي ارتدته رانيا يوسف في ختام مهرجان القاهرة السينمائي، تتجاوز حدود الدفاع عن الفضيلة والأخلاق وتخرج عن إطار الغيرة على قيم وثوابت المجتمع، لأن هناك ما هو أخطر ولم يتحرك له هؤلاء. هو دفاع أو غيرة مفتعلة تندرج ضمن الاهتمام بالقضايا الفرعية على حساب القضايا الجوهرية.

رانيا وحمو بيكا ومجدي شطة وأمهات الفيسبوك وفتاة دمياط والفياجرا النسائية و"التحفيل" على هزيمة الأهلي والزمالك وغيرها، انعكاس لحجم التأثير الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي في الحياة، وكشف أيضا لعورات قطاعات كثيرة في المجتمع لم تعد مشغولة بهمومها الشخصية، أو تهرب منها بعدم المبالاة، أو تؤدي خدمة لتجنب الالتفات للأزمات الحقيقية.

الهروب إلى الموضوعات السطحية أحد السمات الرئيسية للعجز عن الاقتراب من القضايا التي تمس وجدان وعقل المجتمع في الصميم، فالأولى تحتاج فقط إلى مؤهلات محدودة، وتمنح المشاركة فرصة لكل فرد ليوحي بأنه من العناصر الفاعلة، طالما هناك من ينصتون ويتأثرون ويوجهون ويتخذون قرارات بناء على نبض وحركة وسخونة مواقع التواصل، التي حولها البعض إلى عنصر ابتزاز للمسئولين.

بينما تحتاج الثانية بيئة صحية تتوافر فيها درجة عالية من الحرية والانفتاح والكفاءة في مناقشة الأفكار، ونخبة تملك حسن دراية بطبيعة الأوضاع التي يمر بها المجتمع، وجهات مسئولة لديها حنكة وحكمة في ما يتحتم التجاوب معه وما يستوجب التجاهل.

النتائج التي تتحقق من وراء كل ضجة تدفع أصحابها والمدافعين عنها إلى التمادي في إثارة الموضوعات الفرعية، فقد نجح البعض في فرض رؤاهم على فئات مختلفة، وتحولوا إلى مصدر للمعلومات المغلوطة في كثير من القضايا، وتتردد كلماتهم أحيانا باعتبارها حقائق دامغة في بعض برامج "التوك شو".

البعض يعتقد أن هناك مايسترو يتحكم في توجيه الرأي العام ناحية التركيز على  موضوعات محددة واهمال أخرى، ويتعمد شغل المواطنين بما جعلهم ينخرطون في حوارات تبعدهم عن صداع المشاكل الحيوية التي تواجه المجتمع، وتفريغ طاقتهم في تجاذبات ومشاحنات صغيرة للتستر على ملفات كبيرة.

بافتراض وجود "اللهو الخفي" الذي يحول دون طرح القضايا الجادة، فهل يستطيع التحكم في ترمومتر مواقع التواصل الاجتماعي بهذا الحجم من الإثارة والانتشار؟ هل يملك قوة خارقة على عناصر كثيرة تمكنه بسهولة من فرض أجندته؟ هل يختلق أنواعا مختلفة من القضايا كل فترة ليشغل بها الناس؟ هل تم اختراع حمو وشطة ورانيا أم هم نتاج مجتمع يتخلى تدريجيا عن قيمه الحضارية ويميل ناحية التفاهة والعشوائية؟

الواقع أن سيطرة نظرية المؤامرة جعلت البعض يتمادى في الاعتماد عليها، ويستسهلون الاحتكام لها، لأنها تجنبهم تحمل مغبة الخيبة والتقاعس، وتنقذهم من فريضة التفكير والبحث عن الأسباب التي أدت إلى اتساع نطاق التأثير في شريحة كبيرة من الناس.

المهمة تقع على النخب السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية التي أحجمت عن مناقشة هموم الناس بجدية، ووجدت ملاذا في التعجب من الأنماط الخارجة عن العادات والتقاليد، والتنصل من المسئولية بحجج واهية، والخطورة أنها وجدت من يسير في ركابها، وجعلت من الصمت فضيلة، والتعايش مع الواقع راحة للضمير، ولم تتكبد عناء لمزيد من الإصلاح.

إذا افترضنا أن هناك تضييقا في الحريات العامة لدوافع ومبررات متباينة، فما هو العذر في المناقشة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تلعب دورا خطيرا في الموضوعات السطحية؟ وهل تسليط الضوء على النقاط المثيرة كافيا لحل المشكلات؟

أعلم أن هناك كتابا وصحافيين لجأوا إلى التعبير عن رؤاهم من خلالها، وتمكنوا من طرح أفكار جيدة ومفيدة، لكن لأن الغالبية مشغولة بالقضايا الفرعية، لم يجد هؤلاء اهتماما موازيا بما يطرحونه، فالناس باتوا يطربون لمن يسحبونهم بعيدا عن الهموم التي تحاصرهم في أماكن كثيرة، ورانيا وحمو وشطة يتم التعاطي معها كمسكنات ربما تخفف الآلام.

كل علاج له مدة زمنية معينة، وزيادة اللجوء إلى المسكنات المجتمعية والدينية من المؤكد سوف يفقدها أهميتها المؤقتة، ومهما زادت الجرعات وتعددت الأنواع فالمادة الفعالة لها سقف محدد لن تتجاوزه، بعدها قد يتحول المريض إلى شبح أو يبحث عن عملية جراحية مؤلمة، أو يدخل مصحة أملا في التعافي والشفاء.

الطريق الوحيد لعدم الوصول إلى أي من المحطات السابقة، يستلزم التركيز على القضايا التي تمس مباشرة أوجاع الناس، وتقدم تصورات عملية للعلاج، بالتوازي مع المضحكات المبكيات، فلا يوجد مجتمع مستقيم ينصب جل اهتمامه على الفروع ويترك الجذور.

البعض يضع خطا فاصلا بين مناقشة الملفات الجادة والحكومة، ويعتقد أن الثانية تغضب من الأولى ولا تريد من يذكرها بها، طالما هناك مشروعات تضخ فيها الدماء وتنتشر في ربوع البلاد، ويتجه أنصار هذا الفريق إلى ايثار السلامة من خلال الاهتمام بالموضوعات التي تطرحها مواقع التواصل، وتعمد البحث عن نماذج ناجحة من باب رد العتب ونشر التفاؤل.

التفاؤل يأتي من رحم تخفيف المعاناة والإرادة والعزيمة والثقة في المستقبل، وإيجاد حلول واقعية للأزمات المتراكمة، وهو ما يصعب الحصول عليه من دون المكاشفة الدقيقة وجرد الحساب العميق وتوسيع قاعدة المستفيدين من المشروعات القومية.

المشكلة أن هناك موضوعات محلية جادة تستحق التعريف بها، ولا توجد ممانعات لدى الحكومة، كما يتصور البعض، في توجيه الانتقادات الصحيحة إليها، لكن لأن العملية تحتاج إلى جهود مضنية وإلمام بالتفاصيل وقدرة فائقة على الشرح، لم تجذب انتباه كثيرين، وهو ما أوجد انطباعات بأن الحكومة تغضب من المنتقدين، ولا تريد أن تقلق المواطنين، وترتاح إلى ما تقدمه مواقع التواصل الاجتماعي من مواد مثيرة تبعث على الضجيج.

لذلك من الطبيعي أن تحقق رانيا يوسف "تريندات" على مواقع التواصل خلال الأيام الماضية، لأن الفراغ حولها إلى قضية تعدت الحدود المحلية، حيث انشغلت بها بعض وسائل الإعلام الدولية، واتخذتها دليلا على نوعية الموضوعات التي يتم مناقشتها في مصر، بالتالي فالمسألة حقا أصبحت أبعد من فستان شفاف جذب اهتمام الجمهور.