'أبي لم يمت' بوابة للذاكرة الجماعية تنفتح على أهمية المقاومة سينمائيا
السينما في جوهرها ليست مجرد مرآة صامتة تعكس جزءًا من الواقع فقط، بل هي أداة تساهم في إعادة تشكيله وتحويله إلى مشاهد نابضة بالحياة والتأمل، كما أنها وسيلة لها القدرة على اختراق جدران الصمت التي شيدتها قوى القمع وظلال النسيان، لتكشف عن الحكايات المحجوبة التي تسكن أعماق الذاكرة، وتمنح الكلمة لمن حُرموا من حقهم في أن يروا قصصهم، وفي هذا الإطار، يقدم فيلم "أبي لم يمت" للمخرج عادل الفاضلي تجربة سينمائية استثنائية، تتحول فيها الكاميرا إلى شاهد حي على فترة مظلمة من تاريخ المغرب، تلك الفترة المعروفة بـ"سنوات الرصاص".
يضعنا الفيلم في مواجهة مباشرة مع غياهب النسيان، مستعيناً بحكاية إنسانية تحمل في طياتها أبعاداً رمزية وسياسات عميقة، عبر قصة طفل يُدعى مالك، طفل يغيب والده غياباً قسرياً، ينسج الفيلم سرداً يمتد من الخاص إلى العام، ليطرح تساؤلات تتجاوز الشخصي لتلامس الذاكرة الجماعية، الأب المفقود لا يمثل فقط أبا مغيباً، بل هو رمز لكل ما تم إسكاته ومحو أثره في حقبة من القمع السياسي.
الفيلم لا تكمن شجاعته في أنه يتناول فترة حساسة من تاريخ المغرب فقط، بل أيضاً في طريقته في توظيف عناصر السرد، والرمزية والجماليات البصرية، كاميرا الفاضلي لا تكتفي بنقل الأحداث، بل تتحول إلى أداة من أدوات التعبير عن القلق والخوف، عن الأمل والخسارة، عن الصراع الأبدي بين الذاكرة والنسيان، في عالم تبدو فيه الحقيقة دائماً مهددة بالطمس، تصبح الصورة السينمائية هنا أكثر من مجرد فن، إنها فعل مقاومة، ووسيلة لإحياء ما تلاشى في زحمة القمع والزمن.
الفيلم يثير عدة تساؤلات من بينها: كيف يمكن للفن السابع أن يتجاوز حدود السرد التقليدي ليصبح شاهداً حقيقياً على التاريخ؟، كيف يمكن للفن السابع أن يصبح وسيلة لإعادة تشكيل الذاكرة الجماعية؟، وكيف يمكن أن تصبح الصورة السينمائية وسيطاً بين الماضي والحاضر، وتفتح أمامنا نوافذ للتحليل والتأمل؟
ينبض قلب فيلم "أبي لم يمت" بوجع إنساني لا يمكن ألا يحس به كل من شاهده، يتتبع الفيلم رحلة مالك، الطفل الذي يعاني من فقدان والده في ظروف قسرية قاسية، ولا يقتصر على سرد مجرد لحظات ماضية، بل يعكس العلاقة المعقدة بين الذاكرة الشخصية والذاكرة الجماعية، غياب الأب في سياق الفيلم ليس مجرد غياب مادي، بل هو غياب معنوي، رمز لغياب شمس الحقيقة التي تم إخفاؤها، ورمز للذاكرة التي تم محوها في ظل قمع السلطة.
الرحلة التي يخوضها مالك في بحثه عن أبيه تتجاوز كونها بحثًا عن فرد مفقود فقط، إنها رحلة اكتشاف الذات في زمن تسود فيه الأسئلة المحظورة، الأب الذي اختفى في ظروف غامضة، والذي قد يكون قد اختطفه النظام القمعي أو أُلقي به في سجونٍ لا تُسمع فيها أصوات المظلومين، يرمز هنا للحقيقة المغيبة التي يحتاج مالك إلى اكتشافها.
اللوحات التي تركها الأب خلفه لا تمثل فقط أعمالًا فنية، بل هي رسائل مشفرة تنتظر التفكيك، وعبرها يسعى مالك للبحث عن إجابات لا تقتصر على حياته الشخصية، بل تمتد لتشمل أسئلة وجودية وجماعية تتعلق بالمجتمع المغربي في تلك الحقبة.
الفاضلي لا يعرض لنا قصة مفقود في الزمن فحسب، بل يقدم لنا صورة عن صراع داخلي مستمر يعكس التوتر بين الذاكرة الحية والنسيان القسري، علاقة الأبوة هنا ليست علاقة تقليدية بين الأب وابنه، بل هي علاقة محفوفة بالفراغات التي لا يمكن ملؤها بسهولة، فمن خلال الصور الرمزية والأحداث ينقلنا الفيلم إلى عالم من التوتر النفسي، حيث تتداخل الذكريات المؤلمة مع اللحظات الخفية التي تبحث عن طريق للخروج إلى النور.
السرد في فيلم "أبي لم يمت" يتسم بإيقاع حزين يتخلله توتر داخلي مستمر، ما يجعله بعيدًا عن النموذج السردي التقليدي، وهو إيقاع يتناغم مع حالة الانقطاع والتشتت التي يعيشها مالك، ليخلق مساحات تأملية عميقة للمشاهد، إذ لا يمكن لأي شخص أن يشاهد الفيلم دون أن يشعر بعبء البحث عن المفقود، وبأن كل مشهد في الفيلم ليس إلا انعكاسًا لحالة من الضياع التي يعيشها مالك في مسعى للعثور على ذاته وسط غياب الأب، ووسط ذاكرة جماعية تم تحريفها وتشويهها بفعل الزمن.
لا يمكن اعتبار حكاية الأب المفقود مجرد سرد خطي بسيط، إنها محاولة لاستعادة الذاكرة الجماعية المفقودة، وتوثيق اللحظات التي كُتبت بدماء الأبناء والآباء في تاريخ لم يُروَ بكل تفاصيله، تتحول كاميرا عادل الفاضلي إلى شاهد حي على الصمت الذي خيم على كل شيء، فالصورة والكاميرا لا تقتصران على توثيق الأحداث فقط، بل تتجاوزان ذلك إلى تجسيد حقيقي للمشاعر والتوترات التي تعيشها الشخصيات، لاسيما مالك الذي يظل يحمل عبئًا يثقل كاهله.
الإضاءة الداكنة والظلال التي تلتهم تفاصيل المشاهد ليست مجرد خيارات بصرية، بل هي تعبير مرئي عن الغموض والقلق الذي يسيطر على حياة مالك في ظل غياب والده، الظلال تحاصر الشخصيات وتخلق حالة من العزلة والضياع.
مشاهد مدينة الملاهي، بتناقضها الحاد، تمثل أحد أبرز عناصر البناء البصري في الفيلم، الألوان الزاهية التي تملأ الصورة وصخب الألعاب، تعكسان عالمًا من البهجة الوهمية التي تتناقض بشدة مع أجواء القمع والكآبة التي تهيمن على الواقع.
الفاضلي ينجح في استخدام هذا التناقض البصري بشكل مقصود ليعكس كيف أن الحقيقة غالبًا ما تكون مطموسة ومنزوية في الهامش تحت أقنعة زائفة، هذه المفارقة البصرية تعزز فكرة أن هناك دومًا مسافة بين ما يُرى وما يُحس، بين الصورة الظاهرة والصورة الحقيقية التي لا تشرحها الكلمات.
إذا كان الفضاء في الفيلم يشكل الإطار الذي يعكس الصراع العام، فإن الشخصيات تأتي لتكون العنصر الفاعل الذي يعكس تعقيد هذا الصراع، ما يفتح أمامنا مجالًا لاستكشاف أبعادها النفسية والاجتماعية في سياق السرد.
في الفيلم، تبرز الشخصيات الرئيسية من خلال تفاعلها في بيئة الملهى التي تعكس التوترات الاجتماعية والإنسانية، هذه الشخصيات تتنقل بين مساحات السلطة والخضوع، وكل واحدة تجسد جوانب مختلفة من العلاقة بين الفرد والمجتمع.
يشخص عزيز الفاضلي، شخضية مالك الملهى، الشخصية القوية التي تسيطر على الملهى وأفراده، هو ليس مالك "لافوار" فقط، بل أكثر من ذلك، هو رمز للسلطة المطلقة التي تتحكم في مصير الآخرين، يتصرف كحاكم مستبد، يفرض سيطرته على الجميع، مستغلًا ضعفهم وحاجتهم للبقاء. يتعامل مع الجميع كأدوات لخدمة مصالحه، مما يعكس القمع والاستغلال الذي يهيمن على البيئة العامة.
بينما يشخص محمد خيي شخصية الأب الذي يمارس استغلالًا عاطفيًا على ابنه المريض، حيث يعرّضه في عروض الملهى للحصول على المال والشهرة، ورغم حبه الظاهر لابنه، إلا أن هذا الحب يظل مشوبًا بالأنانية، يُظهر الفيلم من خلال هذه الشخصية التناقض بين الحب والتضحية، مسلطًا الضوء على كيفية استغلال الروابط الأسرية لتحقيق أهداف شخصية.
بينما يشخص عبدالنبي البنيوي شخصية علي، صاحب فرجة دراجة حائط الموت شخصية تحمل مظهرها الشجاعة والمغامرة من خلال عروض حائط الموت، لكنه في الوقت ذاته خاضع لسلطة مالك الملهى، يمثل علي التناقض بين الحرية الظاهرية والخضوع الفعلي، مما يعكس واقعًا مأساويًا للعديد من الأفراد الذين يبدون شجعانًا، بينما يقبعون تحت وطأة نظام قمعي يحد من حريتهم.
بينما تظهر الشيخات في الفيلم كنساء مستغلات في الملهى، يُنظر إليهن كأدوات للترفيه الجماهيري، مما يعكس التهميش الاجتماعي الذي يعانين منه، ورغم ظروفهن الصعبة، تظهر بعضهن في لحظات تمرد خفية، في محاولة للحفاظ على كرامتهن. تجسد الشيخات صورة المرأة المهمشة في مجتمع يفرض عليها أعباء الاستغلال الجماعي.
بينما يشخص شفيق بيسبيس دور الشخصية التي تعيش في ظل السلطة المطلقة، يتبع أوامر مالك "لافوار" دون اعتراض، يفتقر إلى الإرادة المستقلة، مما يجعله رمزًا للضحية الحقيقية للنظام القمعي، يجسد حالة الخضوع الكامل، معبرًا عن ضعف الأفراد الذين يجدون أنفسهم أسرى دائرة السلطة بدون مقاومة.
بهذا الربط بين الشخصيات، يتضح كيف أن الفيلم يعكس واقعًا قمعيًا يمتد من السيطرة المطلقة إلى التهميش والاستغلال، ما يجعل كل شخصية عنصرًا في سردية متشابكة تسلط الضوء على العلاقة المعقدة بين الفرد والمجتمع.
عادل الفاضلي يؤكد أن السينما ليست مجرد وسيلة ترفيهية، بل هي أداة لتوثيق الحقائق المفقودة
الصور التي يقدمها الفيلم هي أشبه بالمرايا التي تعكس ليس فقط الوجوه والأمكنة، بل أيضاً الصراعات الداخلية التي تعيشها الشخصيات، من خلال هذه الجماليات البصرية، يُظهر الفاضلي كيف أن كل مشهد يحمل معاني عميقة تتجاوز مجرد التصوير البصري، لتصل إلى التعبير عن حالات نفسية ومعنوية تتناغم مع السرد العاطفي.
الموسيقى التصويرية في فيلم "أبي لم يمت" لا تقتصر على مرافقة الصورة وحسب، بل تتعدى ذلك لتصبح صوتاً آخر للذاكرة المغيبة، الألحان الحزينة التي تنساب في مشاهد الفيلم تتناغم مع لحظات الحزن العميق التي يعيشها مالك، بينما تتداخل معها أحياناً أصوات صاخبة تشي بتفجر الصراعات الداخلية والتوترات التي تعايشها الشخصيات، الموسيقى هنا ليست مجرد عنصر تكميلي، بل هي شريك أساسي في بناء المعنى، تعكس تمزق الشخصيات بين الأحداث المأساوية والحاضر المشوه، الألحان تتنقل بين الهدوء العاطفي والصخب المتقطع، لتجسد الرحلة المعقدة التي يقطعها مالك في بحثه عن الحقيقة.
أما الرمزية، فتتجلى بوضوح في اللوحات الخمس التي تركها الأب وراءه، تلك اللوحات التي لا تمثل مجرد أعمال فنية، بل هي مفاتيح لفهم معانٍ أعمق وأشمل، كل لوحة من هذه اللوحات تعكس بعداً مختلفاً من الحقيقة المغيبة التي يبحث عنها مالك، الذاكرة الضائعة التي تتناثر في الأفق، القمع الذي يمس كل زاوية من الحياة اليومية، والأمل الذي لا ينطفئ رغم كل العواصف، هذه اللوحات هي علامات مرجعية في رحلة مالك نحو استعادة هويته المفقودة، ومع كل لوحة تزداد الرحلة عمقاً، ليكتشف مالك تدريجياً أن البحث عن الأب ليس مجرد محاولة للعثور على شخص مفقود، بل هو محاولة لاستعادة جزء من تاريخ جماعي طمسته سلطة القمع.
من خلال هذه الرمزية، يصبح الفيلم أكثر من مجرد سرد درامي عن الفقدان، بل هو رحلة نحو استعادة الذات عبر الذاكرة الجمعية، اللوحات تصبح أكثر من مجرد عناصر جمالية، إنها تسجل على الجدران المعنوية للفيلم الحقائق التي تم طمسها، وتعمل كمرشدات لحياة مالك نحو الضوء بعد ظلام طويل.
"أبي لم يمت" ليس مجرد فيلم يحكي قصة فقدان أب، بل هو شهادة سينمائية ترفع صوتها عالياً في وجه التاريخ الذي تم طمسه، إنها صرخة في وجه النسيان الذي طالما حجب الحقيقة، ودعوة جريئة لإعادة التفكير في العلاقة بين السلطة والإنسان، وطرح أسئلة وجودية حول معنى الحرية والكرامة.
المخرج عادل الفاضلي، من خلال مزج الدراما الإنسانية العميقة بالرمزية السياسية، قدم لنا عملاً سينمائياً يعكس صراعاً داخلياً وجماعياً، وهو طرح يؤكد لنا أن الفن لا ينبغي أن يكون مجرد وسيلة تعبيرية عن الوجع الفردي، بل يجب أن يكون أداة قوية للمقاومة، وقوة مؤثرة في إعادة كتابة التاريخ.
السينما في هذا السياق تتحول إلى أداة للمقاومة، تتيح للأجيال الجديدة أن تعيد اكتشاف ماضيها لتفتح أمامهم أبواب الذاكرة المفقودة وتمنحهم الفرصة للبحث عن العدالة والكرامة.
الفيلم لا يعرض فقط معاناة مالك في بحثه عن أبيه، بل يقدم قصة مقاومة ضد محو الهوية والتاريخ الجماعي. كل مشهد، كل لحظة، يعكس كيف يمكن للفن أن يكون صوتاً لأولئك الذين تم إسكاتهم، ويكشف عن قدرة السينما على فتح مساحات للنقد والتحليل الاجتماعي والسياسي، من خلال هذا العمل، يؤكد الفاضلي أن السينما ليست مجرد وسيلة ترفيهية، بل هي أداة فاعلة في مقاومة الظلم، أداة لتوثيق الحقائق المفقودة، وإعادة بناء الذاكرة الجماعية التي تعرضت للتشويه.
إن الفيلم لا يخلو من بعض السلبيات التي قد تؤثر على قوته التعبيرية، كبطء الإيقاع أحيانا الذي قد يفقد المشاهد بعضاً من انغماسه في الأحداث. ولكن مع ذلك، يبقى هذا الفيلم قوة سينمائية لافتة، ليس فقط لأنه يروي قصة فردية عن فقدان الأب، بل لأنه يشكل دعوة للتأمل العميق في دور السينما كذاكرة للأمم، وكنافذة لرؤية الحقيقة التي تختبئ خلف ستار النسيان، السينما في هذا العمل، تصبح وسيلة لاستعادة الأصوات المفقودة، وتحقيق العدالة للمظلومين الذين لم يتمكنوا من رواية قصصهم.
في النهاية، "أبي لم يمت" ليس مجرد فيلم يُعرض، بل هو دعوة لإعادة التفكير في دور الفن في إعادة تشكيل الذاكرة الجماعية وإيقاظ الوعي الاجتماعي، ليبقى شاهداً على أن السينما قادرة على صناعة ذاكرة لا تموت.