أحمد عنان يستكشف أمكنة تكتسب قرابة زمنية
حين يوجه الفنان التشكيلي البحريني أحمد عنان نداءه لأصدقائه الفنانين "لإستغلال أسطح منازلهم وتحويلها إلى غاليريهات لما تسهم به هذه المساحات الفنية من إغناء للحركة التشكيلية البحرينية" فهو يوجه رسالة مهمة مفادها أن الفن يبني الإنسان والمكان معاً، يبني الحياة بالشكل الذي يجب أن يكون حيث الجمال والحب والشفافية تحلق فيها وفي كل تفصيلاتها، كما هو توجه يوحي بالكثير، يوحي بأهمية الفن وما يقدمه من طروحات تغذي الحاجات التعبيرية للإنسان، وتعمل في تنقية الروح كأحد أهم أقطاب الجمال، وفي رفع سوية المجتمع بالنظر إلى القيم المعرفية والجمالية التي يزرعها،، يوحي بحجم الحب الذي يحمله أحمد عنان للون والريشة، وللفن عموماً، وهو من وجهة نظر خاصة به يبرز تلك الأهمية لفعله وما أبدع وبأن التوقف عند حدود العمل الفني أمر محال، فالعمل الفني مفتوح على الآفاق وإلى اللانهاية، وهناك ما يميزه من لون وشكل وملمس، بل هناك ما يميزه من لغة ومهارة وذاكرة تعج بالمكان بعناية إستكشافية، بالمكان الذي يكتسب قرابة زمنية أيضاً مع إسهام خاص من قبل الفنان ذاته في تقديم أحكام جمالية وفعلية تحاكي ذهن المتلقي، تثيره لا لتزيد الجانب الإنفعالي فيه، ولا ليوقظ التراجيديا النائمة بين أسراره، بل ليطهر الطريق التي بها ستسرد تلك الأسرار وهي تحتك بالعمل الفني وما فيه من فعل محرض يقوم بفعلي الهدم والبناء في الوقت ذاته دون إشفاق وخوف، وهنا يبرز التعاطف بين المحاور التي تبدأ بالظهور، بين التوقعات التي يخرج بها المتلقي، وبين إستجابات العمل الفني، والتقاطع بينهما هي عملية جديدة لإعادة إنتاج العمل حسب ما تقتضيه إدراكات المتلقي ومدى أفق توقعاته ودرجة مشاركته في تلك التقاطع، أي أن المتلقي هو الذي يحقق إنجاز العمل وبنيته، فما تلك الإشارات الظاهرة منها والباطنة التي يتلقاها المتلقي إلا إحتمالات ضمنية وخصائص غير مألوفة تماثل المناجاة الطويلة للعمل الفني مع متلقيه.
بعيداً عن أي إنحياز، فالمشهد البصري الذي يحييه عنان يزاحم تلك المشاهد البصرية التي تُرَوّج لها كثيراً عبر وسائل التواصل الإجتماعية، وعبر القنوات الإعلامية المختلفة، فعنان بحق بركان لوني، يقترب من بؤر الإنفجار في أكثر الأحيان، ضمن علاقات شكلية خاصة بوصفها شرط ضروري للإنفجار، تتآلف مع تقاطع خبرته بإدراكاته الحسية، وهذا ينشط ذاكرته التشكيلية ويمنحها الدفع اللازم والكافي لرسم ملحمته الداخلية على الأقل، فعنان لا يحتار في إختياراته اللونية، فليس مهماً ذلك التناسق الذي يبحث عنه الأكاديميون، ولا تلك التدرجات في معطياتها الرسمية، همه أن يرسم كالطفل، وهو ممتلىء بعفويته، ببساطته، يقترب من قماش اللوحة دون قلق، لا يضع أي إعتبار لآراء الآخرين، فهو يرسم بالشكل الذي يريحه، ويقدم عمله في هذا المنظار دون رتوش ودون قيود، فروح الطفل المسكون فيه تمنحه جرأة يفلح فيها على طول الخط، ويدخل عوالم دون إذن أو دستور، ينتمي إلى عبثية الطفل وخربشاته المثيرة للجدل، فعمله لا يتطلب أي نوع من التوازن، ولا أي شكل من أشكال الإمتداد في المنطق، فقط همه التجريب والبحث المستديم، وهذا ما يجعل تجريبته تتصف بالإثارة، ويحرك الماء الراكد في البحيرة التشكيلية البحرينية، ويخلق دوائر كثيرة حولها كل منها تدعو لكسر الرتابة وفتح الحوار بين الأقطاب الفاعلة فيه كافة، فجملة مؤشراته تقول بالتمايز في تكويناته ومفهوماتها، وبحسه الذي يجعل من سطح العمل ألحاناً مهمة تسيل عليها وحي موسيقي قادم من ذاكرته البحرية حيث الصدف الصغيرة والأحجار وترسبات التراب البحري، ففلسفته الخاصة في صناعة اللوحة وإقترابه من تفاصيلها بإحساس تصويري أمر يدفعه بالضرورة إلى البحث عن عوالم جديدة، بأبعاد جديدة، إليها يدخل عنان، بإمكاناته الكبيرة، وبقدراته الحقيقية، وبروحه البسيطة، حيث ينصاع لإرادته أقصد لريشته كل الجوانب المتمردة، كل الظواهر الجديرة بالإهتمام، فالنتائج بالضرورة ستكون مكثفة ومستمرة في الحاضر، فهو لا يلاحق الأحداث الكبيرة، ولا يبحث عن ظلال وارفة كي يتفيأ تحتها، بل يبحث عن المفارقات التي قد تلد بين المستويات الفنية وهي تتداخل بمعطياتها المختلفة مع الأشياء وهي تحاول فك عقدها، ولضرورات فنية قد يصمت عنان برهة بعيداً عن ضجيج الصالات وملصقات الإعلان وما يحيط بهما، حينها يكون المخاض في آخره، فهو على باب تجربة جديدة سيتحفنا بها في معرض قادم، فكل معرض له أشبه بديوان شعري لشاعر، أو برواية لروائي، إن لم يكن مغايراً، إن لم يلخص تجربة جديدة له فالأولى ألا يكون.
كثير من الفنانين التشكيليين إشتغلوا على المرأة وموضوعها، بل يكاد لا يوجد فنان إلا وإشتغل عليها، لكن إشتغال عنان عليها كان مختلفاً، فهي بالنسبة له نبض الحياة وجنتها، فوجودها في العمل الفني أشبه بالروح للجسد، فهي التي تمنح العمل حركة وإيقاع وموسيقا، هي التي تجعل العمل مخضر بالعواطف والإنفعالات الجميلة، فعنان يذهب إلى الماضي البعيد/القريب، يستحضرها من ذاكرته حين كان يرافقهن وهو طفل صغير إلى عين أم شعوم القريبة من قريته التي ولد فيها، فيقمن "بغسل الملابس فيها وينشروها على أغصان الشجر"، هذه الصور لم تبرح ذاكرته بل تكاد تتحول إلى خزانها وصندوقها الأسود، وهذا ما يدفعه إلى الإشتغال على المرأة بثراء لا ينضب، فمنذ بداية التسعينات من القرن الماضي كانت المرأة حاضرة بقوة في عمله فكما كانت تلهمه كانت تتحول إلى ثيمة مهمة في مجمل أعماله، فخصها بأكثر من معرض، ففي الأول كان يركز على الخصر كأبرز أماكن فتنتها وبه يبرز الجانب الممتلئ للمرأة وضخامة الأرداف وما يحيط بها كشواطىء تظهر جمالها الحافل بالحس وسر اللحظة، وبعد ذلك وفي معرض آخر (خفاء وتجلي 2016) كان أكثر مغامرة في إقترابه منها ومن عوالمها، فهذه المرة حاول أن يظهرها ككائن مهم جداً بل تكاد تكون هي محور الحياة حين بدأ يرسم دائرته لها ويرميها فيها حتى تظهر بينة تماماً، فتضج الدائرة بالتناقضات التي تلد والتي ستطفو بعضها على السطح والبعض الآخر يستقر في الأعماق، هذا التناقض هو الذي سعى إليه عنان ونجح في صياغة فصولها تماماً، فلا نكاد نمعن النظر في أي عمل له من تلك المجموعة إلا ونلتقط ذلك التناقض برهافة وحب، فبخلق هذه المفارقات غالباً ما يبحث عن إتجاهات جديدة تقوم على أساس رؤيته الفنية بخصائصها الحسية، وإمكاناتها التعبيرية، فهو حين يبعث الروح الجديدة فيها أقصد في المرأة، فهو يحرر عمله من دوره الخاص لأنه متيقن بالمقولة الدارجة بأن الرؤيا لا تعني التسجيل الصادق، بل هناك حاجة ماسة ودائمة إلى التجدد والتغيير، وهذا ما أدى إلى ظهور حركات وتيارات ومدارس مختلفة للحركات الفنية، وعنان يدرك ذلك تماماً وهذا ما يفعله على الدوام من معرض إلى آخر حيث يضخ دماء جديدة في كل عمل من أعماله، في كل بحث من بحوثه، وبالتالي في كل تجربة من تجاربه فمن الطبيعي أن يأتي كل معرض له بدماء جديدة، لكن بزمرته، زمرة فن إيجابي.