أحمد فاروق يحلل فلسفة كارل بوبر السياسية

المفكر المصري يرى أن أعمال الفيلسوف النمساوي في الأبستولوجيا والميثودلوجيا والفلسفة السياسية لم تكن مترابطة فكريا فحسب ولكن أيضا تاريخيا.
الفاشية تشكل تهديدا للعلم والحضارة الانسانية كلها
بوبر نشأ وسط بيئة تقدمية ليبرالية يهودية في فيينا قبل الحرب العالمية الأولى

يرى د. أحمد فاروق أن أعمال الفيلسوف النمساوي كارل بوبر (1902 ـ 1994) في الأبستولوجيا والميثودلوجيا والفلسفة السياسية لم تكن مترابطة فكريا فحسب ولكن أيضا تاريخيا، لقد ارتبط تطور فلسفة العلم عنده بتفاعله مع الأحداث السياسية في النمسا وبرؤيته للشروط الاجتماعية التي تنمو من خلالها المعرفة. وبعض من أفكاره الأساسية عن طبيعة المعرفة العلمية متجذرة في مشاركاته المبكرة في الأنشطة السياسية الثورية ومواجهاته مع الماركسية والشيوعية خلال فترة الثورة النمساوية في عامي (1918 ـ 1919). 
وفي السنوات التالية تجسدت هذه الاهتمامات في كتابه "منطق البحث" سنة 1934 وكتابيه "المجتمع المفتوح" و"فقر المذهب التاريخي" محاولة لتطبيق نظرية المعرفة والمثيولوجيا العلمية التي قدمها الكتاب الأول على المشاكل الاجتماعية والسياسية للجمهورية النمساوية الأولى، وعلى الصراع العالمي بين الديمقراطية والشمولية فيما بعد، لقد أدت الحياة السياسية للجمهورية النمساوية لظهور اهتماماته الفلسفية والعلمية، وأدى هذا الاهتمام بدوره إلى محاولة البحث عن علاج لأمراض المجتمع النمساوي الاجتماعية والسياسية في الفلسفة والعلم.
ويشير فاروق في دراسته "فلسفة كارل بوبر السياسية من الابستولوجيا إلى الأيديولوجيا" الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة إلى أن بوبر نشأ وسط بيئة تقدمية ليبرالية يهودية في فيينا قبل الحرب العالمية الأولى، ولذلك حددت هذه الفلسفة والسياسة التقدمية السياق لعمله، وأصبح بوبر في السنوات التالية للحرب العالمية معروفا من خلال أعماله السياسية، وقد اعتبر كتابه "المجتمع المفتوح الذي نشر للمرة الأولى عام 1945 بمثابة دفاع بليغ عن الديمقراطية الليبرالية ضد الشمولية.  
ويوضح فاروق أن بوبر لا يقدم فلسفة سياسية بالمعنى الدقيق لـ "الحد" "وأقصد بذلك تصورا عن النظام السياسي الفاضل أو الأسمى. المدينة الفاضلة إذا استخدمنا الحد الذي ابتكره الفارابي في القرن التاسع الميلادي وإنما يقدم نقدا لفلسفات السياسة والتاريخ التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وسادت في النصف الأول من القرن العشرين وهي فلسفات سياسية معادية للفلسفة السياسية الليبرالية.

بوبر يقدم نقدا لفلسفات السياسة والتاريخ التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وسادت في النصف الأول من القرن العشرين وهي فلسفات سياسية معادية للفلسفة السياسية الليبرالية.

ويلفت بوبر إلى أن بدايات بوبر كفيلسوف علم وإبستمولوجي تلعب دورا كبيرا في تكوين الانتقادات التي وجهها إلى الفلسفات والمذاهب الاجتماعية والسياسية المعارضة للفلسفة والسياسات الليبرالية، حيث إن دحضه أو تفنيده لمفهوم العلم الذي ترتكز عليه الأسس النظرية والفلسفية للمذاهب المعارضة لليبرالية ـ دحضه لمفهوم العلم الذي ترتكز عليه النظرية المادية التاريخية الماركسية مثلا ـ هو نقطة الانطلاق والخلفية الأساسية التي يعتمد عليها هذا النقد. 
هذه الحركة أو عملية الانتقال داخل فلسفة بوبر ككل هي التي تفسر العنوان الذي اختاره د. أحمد فاروق لهذه الدراسة "فهناك انتقال في فكر بوبر وحتى في أعماله ذاتها من الإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة العلمية إلى الأيديولوجيا أو نظرية الأفكار، والرابطة التي تعمل كجسر تتم من خلاله عملية الانتقال هي مفهوم العلم والمنهج العلمي. بناء على ذلك يرى بوبر أن فلسفة العلم يجب أن تدفع عن المجتمع المفتوح ويجب عليها أيضا أن تتصدى للفاشية المترتبة على محاولات العودة للمجتمع المغلق. نتيجة لصدمة الحضارة من ناحية ولفشل المشروع الليبرالي للإصلاح من ناحية أخرى. ويجب عليها كذلك تقديم معيار للتمييز بين العلم من ناحية وبين العلم الزائف من ناحية أخرى. لأن ذلك هو السبيل الوحيد لتحقيق الإجماع على محاربة الفاشية التي تهدد لا العلم فحسب ولكنها تهدد الحضارة الإنسانية كلها بما ذلك المجتمع المفتوح.
ويضيف فاروق أنه بهذه الصياغة لإشكالية علاقة الفلسفة بالسياسة يقبل بوبر الليبرالية بوجهها القيمي، مستخدما الاتجاه النقدي العام لنظرية المعرفة العلمية كتبرير لهذا القبول، ويتضمن هذا القبول تسليما بمحدودية ما يمكن تطبيقه من مبادئ العلم على السياسة، فهو لم يعد في حاجة أصلا للتورط في المناظرة القديمة حول مناهج لعلوم الطبيعة وأخرى لعلوم الإنسان أو الروح، ما دام التركيز على المثيولوجيا يجعل من الممكن لفيلسوف العلم أن يعالج القضايا الخاصة بالليبرالية، والتي هي محل نزاع في المناظرة السياسية والاجتماعية الدائرة باعتبارها قضايا تدخل ضمن نطاق مشكلة المعرفة. 
وبعبارة أخرى فإن ما ينصح به بوبر هو التعاطي مع الليبرالية باعتبارها قضية من قضايا نظرية المعرفة العلمية أو كمقولة فرعية من قولات نظرية المعرفة العلمية، ولا يعني هذا الطرح أن الليبرالية ليست معنية في الأساس بمشاكل تقع خارج نطاق هذه المناقشات بل إن القضية قضية أولويات فسوف يصبح من الممكن تقديم توصيات سياسية حقيقية، إذا كان بمقدورنا التمييز بين العلم وبين العلم الزائف، لأن ذلك سوف يتضمن بطبيعة الحال القدرة على فهم القضايا الابستمولوجية والميثودلوجية المطروحة للنقاش بشكل صحيح. 

نظرية في المعرفة
انطلاق فلسفة ظلت خفية لأسباب لم تعد قائمة

قسم د.  فاروق دراسته إلى خمسة فصول وخاتمة، في الأول يدرس الخلفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأزمة الفلسفة السياسية الليبرالية في النصف الأول من القرن العشرين، ثم ينتقل بعد ذلك للتحليل النقدي لأزمة الليبرالية الداخلية وكذلك المحاولات العديدة التي فشلت في تقديم حل للأزمة، وينتقل بعد ذلك إلى إلقاء الضوء على الطريقة التي يدخل من خلالها عمل بوبر ضمن نطاق الاستجابة الفكرية لأزمة الفلسفة السياسية الليبرالية، ويقارن تفسير بوبر وتلاميذه لأزمة الليبرالية مع التفسير ما بعد البنيوي الذي انطلق أيضا من نظرية المعرفة العلمية حسب التصور التقليدي الفرنسي التاريخي كما عرضه جاستون بشلار وتلاميذه.
وفي الفصل الثاني يدرس د. فاروق التطور التاريخي للإبستمولوجيا التكذيبية البوبرية ـ الطور الأول للعقلانية النقدية ـ كما تجسدت في أعمال بوبر وحواره الممتد مع الاتجاهات الفلسفية والإبستمولوجية المواكبة. وجاء موضوع الفصل الثالث المحاولة التي قام بها بوبر من أجل تقديم رؤية للمعرفة الإنسانية بإمكانها تمييز العلم دون اللجوء إلى الاستقراء. 
وناقش الفصل الرابع مقاربة بوبر للفلسفة السياسية في كتابه "المجتمع المفتوح وأعداؤه" ونقطة الانطلاق في هذا العرض هي رفض بوبر للنزعة الماهوية لتأثيراتها السلطوية ـ السياسية والاجتماعية ـ على المجتمع والافراد. ويجئ الفصل الخامس والأخير ليدرس التطورات الفكرية المتأخرة في فلسفة بوبر السياسية ـ بعد المجتمع المفتوح ـ وما يكشفه لنا ذلك التطور من نقاط انطلاق فلسفة ظلت خفية لأسباب لم تعد قائمة.
ويخلص د. فاروق إلى أن ما يطرحه بوبر هو نظرية في المعرفة تأخذ في اعتبارها فشل مشروع الفلسفة الحديثة في إنجاز ما وعدت به من تشييد لأسس راسخة للمعرفة الإنسانية لكنها بالرغم من ذلك تتضمن أملا في التقدم، وهذا هو الجانب الذي يتخذ فيه اهتمام بوبر بالمشكلة الإبستمولوجية لفكرة الحقيقة طابعا سياسيا واضحا. فهو يتفق مع التنوير في أن تحدي السلطات السائدة ـ سواء كانت أخلاقية أو سياسية ـ أمر ضروي، ولكن اعتقاده في اللامعصومية المعرفية يؤدي به لاعتقاد آخر مفاده أن من يقوم بتحدي السلطات الراسخة ليس له الحق في إدعاء المعصومية، لأن ذلك بدوره يقود إلى السلطوية، يجب على من يقوم بتحدي السلطة أن يكون منفتحا على النقد من قبل الآخرين، وخصوصا فيما يتعلق بمزاعمه عن العالم وفي أنشطته السياسية، وأكثر الأشياء لفتا للانتباه في إبستمولوجيا بوبر هو عداؤها للسلطوية، لا توجد سلطات فوق النقد، ولا يقتصر عمل النقد على البشر والمؤسسات السياسية والاجتماعية فحسب، بل إنه يتسع ليشمل ما يبدو لنا على أنه واضح بذاته من خلال العقل أو بيانات حواسنا والاعتقاد في عدم وجود مصادر للمعرفة يؤدي ظهور جانب محافظ في عمل بوبر: 
فأولا يرى أنه لا يحق لنا رفض أي شيء ببساطة بسبب عجزنا عن تبريره، فليس بالإمكان أصلا تبرير شيء إلى الدرجة التي تجعله فوق الفحص النقدي مستقبلا. وثانيا من المهم اكتشاف مكمن الخطأ في الأشياء، ولكن الاكتشاف في ذاته لا يقول لنا كيف نزيل الخطأ، إن اهتمام بوبر بالتقدم في الإبستمولوجيا والسياسة جعله يعطي الأولوية لإصلاح ما في متناول الأيدي وهذا هو المعنى الذي يستخدم به الحد.