أحمد نشم شريك فعلي في كتابة الجيلاني

ديوان علوان الجيلاني يتجاوز كونه مرثية ابنه لأبيه تشف عن علاقة نبيلة وأصيلة، إلى كونه يحمل جغرافيا وتاريخ وإرث اليمن خاصة في منطقة تهامة.
جماليات النصوص في الديوان تتأثث في مجموعة من الجاذبيات المزدوجة
علي ربيع: حين أتحدث عن الجيلاني فإنما أتحدث عن خمسة وعشرين عاما هي عمر معرفتي به

تعدد المداخلات حول تجربة ديوان "أحمد نشم أزمنة الفارس ومآثره" للشاعر اليمني علوان الجيلاني والتي شهدتها مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، والتي أكدت جميعها أن الديوان يتجاوز كونه مرثية ابنه لأبيه تشف عن علاقة نبيلة وأصيلة، إلى كونه يحمل جغرافيا وتاريخ وإرث اليمن خاصة في منطقة تهامة، حيث تجلت صور المكان بتقاليده وعاداته وإرثه الحضاري والثقافي والإبداعي، فضلا عن حضور القاهرة بأحيائها ونيلها وشخصياتها، ولفتت إلى الدور الثقافي الذي يلعبه الجيلاني لحماية وحفظ الكثير من الموروثات الإبداعية والفكرية وحرصه على متابعة ما يستجد من إبداعات اليمنيين سواء كانوا من جيل أو الأجيال التالية.
افتتح الندوة الإعلامي عارف الصرمي بتقدمة حفلت بمحبة وتقدير لتجربة الجيلاني الثقافية والإبداعية، ليعطي بعد ذلك الكلمة للشاعر والباحث هاني الصلوي الذي قدم شهادة حول تجربة الديوان.
قال الصلوي: من الصعب على الشاعر أن يكتب شهادة عن نصِّه هو ويحكي عن مناسبته، وزمن كتابته فما بالك بكتابةِ شهادةٍ عن نص شاعر آخر. شخصيًا أعتبر نص "أحمد نشم أزمنة الفارسِ ومآثره" ليس نصا بالمعنى اللغوي والاصطلاحي، إنما نص بالمعنى الحميمي وكل ما يشير إلى المعايشةِ والتماهي؛ وإذ أقول هذا سيكون من المهم العودةُ إلى فكرة المناسبةِ ذاتها، فقد ظلمتها النظريات الحديثةُ والمذاهب بين مستنقصٍ ومستهجنٍ ومعادٍ لا يحبذ نقاشًا. وقد ظل الأمر كذلك حتى قال النصيون الجدد باعتبارية المناسبة ضمن شروط سبعة للنص أو معايير أو عناصر لا يتحقق النص بدونها حسب الإيطاليين ديبوجراند ودريسلر، وقد أطلقوا على بعض المعاني المرتبطة بالمناسبة القصدية أو القصد وإن كان هذان المنظران قد مضيا بالأمر اتجاها آخر يتضمن عدة صيغ منها القصد إلى بناء نصٍ متماسك لفظا ومعنى، سبكًا وحبكا بحسبِ التراثِ العربي. 

حضور الأب لم يكن للاستعراض الكرنفالي وإنما التواصل في الدعوة والجمال في أبهى صوره

كما ضمَّن هذان العلمان بعض معاني المناسبة في مبدأ المقامية أو ما ترجم في عبارة أخرى بالعربية بالموقفية، ولعل مصطلح الموقفية هو الأقرب للمعنى ولمعنى المناسبةِ من جهة ولكي لا يلتبس بالتصور الكامل لمفهوم السياق كما هو عند الاجتماعي اللغوي الإنجليزي فيرث وأتباعه ومن تأثروا برؤيتهِ المهمة وهي رؤية فتل جدائلها من سياقات متناثرة عدة. 
وأضاف "يمكن أن تكون المناسبة مدخلًا رئيسًا ليس لقراءة الشاعر والنص فحسب بل لكتابتهِ. موت أحمد نشم في الخامس عشر من يناير/كانون الثاني 2018 الماضي كان سببًا رئيسًا ومركزيًا لكتابة أحمد نشم النص ــ الديوان المتربع أمامنا في مائة واثنتين وعشرينَ صفحة، وخلال ستة وثلاثين مقطعا شعريًا. ولأننا لسنا بصدد تقديم قراءة أو مقاربة بل شهادة، وإن كان الهيكلان معا سيلتبسان في هيئة واحدة. فإننا سننطلق من اللحظة الأولى وهي مغادرة أحمد نشم الحياة، وضرب الخبر المؤلم جبين علوان الابن من خلال كلمات قليلة مفادها أن أباك انتقل إلى رحمة الله. مات بصريح العبارة وحديةِ التفجع. 
بغض النظر عن طريقة روايتي للخبر أو طريقة وصوله إلى علوان الشاعر، فالنص الأول يقول: أبي مات، أبي مات، ماتَ أبي...". وصلني الخبر عبر الصديق أحمد عباس الشاعر فخرجت لمواساة علوان والبقاء معه في مصابهِ. قابلته مكلومًا مصدومًا. فحاولت التخفيف عنه لكنه فاجأني والدموع تنهمر من عينيه ِ غزيرة بقوله إنه كتبَ شيئًا عن الحدث قبل وصولي إليهِ، أفضى بما في قلبهِ بما فعله الخنجر في صدرهِ لا ترفًا إنما ليتداوى؛ وقد وضع في أحمد نشم الورقي أمامنا ما كتبه في تلك الهنيهات القليلة، ولم يخبئه لمعترك نصي آخر. إنه النص الأول في المجموعة مما أشرنا إليه ِ بــ "أبي مات، أبي مات".
وأشار الصلوي إلى إن النص ــ أحمد نشم ــ هو كل شيء لعلوان المنهزم والمنتصر معًا، ذكرياته وطفولته، صباه ويفاعته، رشده وبلوغهِ المسؤلية والأناة والتبصر، جوعه وظمأه ساعة المصاب، أحمد نشم الأب في كل حالاتهِ وسكراته الحياتية المثابرة وأبوته، عصاه التي استعانَ بها على عام كاملٍ حتى هذه اللحظة. ليس مرثية طويلة أحمد نشم الكتاب لأحمد نشم الراحل والمنقضي عمره، والذي لم يمتْ كما يقول الكتاب فهو حي حياة حقيقية واقعية لا معنوية، ومن ثمَّ فالترحم عليه والتعزية فيه وطلب السكينة لروحهِ أفعال غادرة مثل طعنة ــ طعنات في الظهر، ومن أجل هذا سيطالب النص الأب بعدم التأخر، على لسان الشاعر، حتى لا يتسبب تأخره لسبب ما في طعنات مسمومة للشاعر ترديه صريعًا " حتى لا يطعنني الآخرون بالترحمِ عليك"، "سأوجِّه لكمةً قويةً لكل فم يترحم عليك"، لم يمتْ أحمد نشم "لقد نام.. حرمه من سهرتنا سلطان النوم". 
ليس رثاء، لا لأن علوان يخاطبه طيلة الرحلة باعتباره مازال على قيدِ الحياة، إنما ــ وإن كان في النفي السابقِ بعض الإثبات ــ إنما لأن أحمد نشم شريك فعلي في الكتابِ، شريك فتي شاب، في مقتبل العطاء والتوثب والفعل الحياتي المعاش والنصي المرقون والمخلوق والخالقِ في آن، ولنتأكد من بعض ذلك ما علينا إلا النظر في الغلاف الأمامي للكتاب حيث الصورة تقول كل ذلك وأزيد منه. ينام أحمد عباس رفيق سكن علوان فيحضر أحمد نشم الأب ويشارك الشاعر الصناعة والإنشاء، ولنقل والبناء والهدم. البناء بعد الهدم، والهدم بعد البناء، ثم ثانية البناء بعد الهدم في دائرة لا تنتهي ودوائر وشبكات غير قارة وغير استاتيكية. إنه ــ أي أحمد نشم ــ لا يكتفي بالمشاركة بل يتجاسر أحيانًأ فيكتب النص، ويمليه على ابنه وشريكه الشاعر.
ورأى الشاعر والناقد عبدالعزيز عجلان أن هذه المجموعة الشعرية للجيلاني تختلف اختلافاً كلياً عن كل شعر سابق كتبه خلال ثلاثين عاماً مضت، وقال "لقد فرض موضوع التجربة نفسه على الشاعر، أصداء تجربة الموت، التي ستبدو ملحمة مقسمة إلى ست وثلاثين أغنية تحتدم فيها الهيجانات العاطفية لتقدم الفقد بوصفه وجعاً متعدد الوجوه والمراتب، فهناك فقد الأب، وهناك فقد الوطن ثم فقد الأزمنة التي ارتبطت بجمال حضورهما معاً في حياة الشاعر الذي فارق الوطن في اللحظة التي بلغ فيها تدهور صحة الأب ذروته وبلغ تدهور وضع الوطن ذروته أيضاً. 

علوان الجيلاني
الشعر والسيرة

وأشار إلى أن جماليات النصوص في الديوان تتأثث في مجموعة من الجاذبيات المزدوجة، جاذبية الماضي الذي يتبدى لنا عابقاً من خلال سيل هادر من المواقف والأحداث والأسماء والتجارب الحياتية المختلفة والمرتبطة كلها بحياة الأب ذي الجاه الواسع والحضور الكبير والظل الوارف، والشاعر يكتبها من موقع الإبن الأكثر قرباً وحميمية، وهي في فيضها وتشظياتها تقدم موازياتها التي تتموضع في المكان وناسه، ومن خلال التوهج النفسي الذي عاشه منذ لحظة الفقد وامتد لعدة أشهر رفض الشاعر فكرة الموت مصمماً على إبقاء والده حياً، وهكذا راح يخلق متوالية نصية يتراكب فيها الماضي بالحاضر متواشجين مع مفردات محلية كثيرة لا يمكن تخيل حلاوة النوستالجيا التي يتكىء الشاعر عليها دون حضورها بدءًا من لقب النّشِم وهو عصاَ أنيقة شديدة الصلابة تقطع من شجر يحمل نفس الاسم، وقد أطلق هذا الاسم كلقب على والد الشاعر وكان يحبه، مروراً بشهرته بالرمي وإصابة المرمى، وشجاعته وهيبته ونصرته للمظلومين وتعاطفه مع المحبين وتقديره لأهل العلم وشهرته كواحد من أهم المزارعين العارفين بالزراعة ومحاتمها ومواسمها وقوانين وديانها ومساقيها، وشغفه اللامحدود بالأرض وخيراتها، وما يرتبط بها من أنواع الزروع والثمار وأنواع الحرث وأدواته وثيرانه ومتلازمات كل ذلك من شقاة (عمال) وأعلاف ودواب، وأسلوب حياة تحضر كلها لا كأسماء تتراصف في النصوص ولكن كحياة نابضة ممتلئة بالحيوية والجمال تكاد تلمسها، بل تكاد تلمس تنهدات الشاعر لها فيما هو يسكبها ويعيد خلقها من دم قلبه ودموع عينيه.
ورأى القاص محمد عبدالوكيل جازم أن في تجربة الديوان ملمح السيرة الذاتية وقال: في الديوان هناك تماثلات للسيرة الذاتية أو ما يسمى بالكتابة عن الأنا الشاعرة، فلا شك أن الشعر والسيرة يتصلان ببعضهما البعض منذ امرئ القيس وحتى علوان الجيلاني، ولا ريب أن معظم الأحداث التي عرفنا تفاصيلها رواها الشعراء أنفسهم خاصة فيما يتعلق بسيرهم الذاتية أو أو وقائع وسير اجتماعية وتاريخية أخرى.
وقال: إن الشاعر أزال الحدود بين الجسد الغائب والجسد الحاضر ليصبح الجسدان في حالة حياة محسوسة ومتجسدة، بل إن الجميل في الأمر ليس إزالة الحواجز الحسية لأن ذلك مقدور عليه، وإنما إزالة الترسانة المسلحة للصورة الغريبة للأب، الصور الشائهة:
كلما أخذني الليل إلى مباهجه
أخذتك معي.
أنت تحب رفقتي
وأنا أحب رفقتك.
ولعلي هنا أؤكد على أن حضور الأب لم يكن للاستعراض الكرنفالي وإنما التواصل في الدعوة والجمال في أبهى صوره.
 قال الكاتب علي ربيع: إنني حين أتحدث عن الجيلاني فإنما أتحدث عن خمسة وعشرين عاما هي عمر معرفتي به، وهي تاريخ من الابداع والكتابة والنقد والبحث والدرس المستمر، بدءاً من ديوانه الأول "الوردة تفتح سرتها" الذي نشر عام 1998، وتأثر به جيل كامل من الشعراء مروراً بتقديماته لزملائه وكتاباته عنهم، ثم دراساته الشعبية التي كنت في صحيفة "الثورة" أنشرها له باستمرار قبل أن تصدر في كتب، أضافت للمكتبة اليمنية إضافات كبيرة، وصولا إلى طريقة تعامله الانساني مع زملائه وتحوله إلى مكتبة متنقلة، وذروة اشتغاله في رأيي هو أحمد نشم الذي وثق فيه أباه ووثق فيه حياة مجتمعه الأول تصوفا وبيئة وثقافة ومفردات تهامية لا يكتمل النص ما لم تكن في سياقه، على أن أجمل ما في هذا الكتابة هو هذه الحرارة الروحية والنفس الشعري العالي والعمق في الرؤية على الرغم من بساطة تناولها وتشكيلها.
بدوره تحدث الشاعر والناقد المصري ابراهيم موسى النحاس عن تجربة الديوان منطلقا من العنوان كعتبة نصية تحيل إلى معنى قديم وتراثي، لكن النصوص الستة والثلاثين التي تتابع في الكتاب هي نصوص ما بعد حداثية بنية وطرائق اشتغال، منوهاً بحضور الأمكنة القاهرية في المكان؛ حي الحسين، السيدة زينب، وسط البلد، النيل، المنتديات الثقافية والمقاهي، أماكن السهر، وهي تحضر بالتوازي مع أمكنة يمنية ترتبط بأحمد نشم وابنه الشاعر كون الكتاب يمكن أن يقرأ بوصفه سيرة للأب ضد الموت، واستشهد النحاس بعديد النصوص التي اعتبرها تقدم المختلف شكلا وموضوعا.