أصداء وجدانية في 'وريقات الحنين'

على طول قصائد الديوان، عبدالناصر الجوهري يلتزم بالقافية سواء في قصائده البيتية أوالتفعيلية كما أنه لم يلجأ إلى الكتابة في شكل قصيدة النثر ليعلن بذلك تمسكه بهذين الشكلين مؤكدا انتماءه للآباء والأجداد من أصحاب النغم الشعري الأصيل والرؤى الوجدانية العفيفة مضيفا سِفْرا شعريا جديدا في عالم الحب العذري يجمع بين الأصالة والمعاصرة.

هذا ديوانُ شعرٍ أهداه صاحبه إلى قيْس بن الملوح صاحب ليلى، وإلى عنْترة العبسي صاحب عبلة، وإلى كُثيِّر بن عبدالرحمن الأسود صاحب عزَّة، وإلى جميل بن معمر صاحب بثينة، وإلى قيس بن ذريح صاحب لبنى، وإلى توبة بن الحمير صاحب ليلى الأخيلية، وإلى عروة بن حزام صاحب عفْراء، وإلى عبدالله بن الدمينة صاحب أميمة، وإلى عُمر بن أبي ربيعة عاشق جمال المرأة، وبهذا يعلن الشاعر عبدالناصر الجوهري في ديوانه "من وريقات الحنين" انضمامَه إلى هذه الكوكبة من مساكين الحب العذرى من المحبين، من أهل البادية، أما هو فمن أهل الحضر، وعلى ذلك فهو يحاول أن يعطي تفسيرًا جديدًا للعشق وللعاشق. إنه عشقُ أهل الحضر الذي لا أراه يختلف كثيرا عن عشق أهل البادية، فالإنسان سواء في البادية أو في الريف أو في الحضر أو في المدينة، هو الإنسان، بكل أشواقه ومشاعره وخوفه وفرحه وحزنه وسروره، وغضبه وارتياحه ... الخ.

ولكن ما يختلف هو المفردات اللغوية التي يستخدمها الشاعر أو الأديب عموما، من عصر إلى عصر، ومن لغة إلى لغة، ومن بيئة إلى بيئة. ولعلنا نتذكر تلك الواقعة التي حدثت من شاعر كان يسكن البادية هو الشاعر عليّ بن الجهم الذي وقف لأول مرة بين يدي الخليفة العباسي المتوكل، مادحًا، فقال:

أنتَ كالكلبِ في حفاظِك للوُّدِّ ** وكالتيسِ في قِراعِ الخطوبِ

أنتَ كالدلو، لا عدمْناك دلوًا ** من كبارِ الدَّلا، كبيرَ الذنوبِ

فلم يغضب الخليفة، ولم تصبه الدهشة، وإنما أدرك بلاغة الشاعر ونبل مقصده وخشونة لفظه وتعبيره، وأنه لملازمته البادية، أتى بهذه التشبيهات والصور والتراكيب، فيأمر له بدارٍ جميلةٍ على شاطئ دجلة، بحيث يخرج الشاعر إلى محال بغداد يُـطالع الناس ومظاهر مدينتهم وحضارتهم وترفهم، فتغيرت مفردات الشاعر وقاموسه اللغوي فقال بعد ذلك:

عُيونُ المَها بَينَ الرُّصافَةِ وَالجِسرِ ** جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري

أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن ** سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمرًا عَلى جَمرِ

هكذا تتبدل المفردات والصور، ولكن المشاعر والأحاسيس لا تتبدل أو تتغير، وإنما طريقة التعبير عنها هي المتغيرة.

فهل أضاف شاعرنا عبدالناصر الجوهري جديدًا لقاموس الحب العذري، في عصرنا الحديث من خلال ديوانه "من وريقات الحنين"؟

هذا سؤال ينبغي لنا طرحه بعد أن أهدى الشاعر ديوانه إلى هذه الزمرة من الشعراء القدامى.

من واقع قراءتنا لقصائد الديوان التي بلغت خمسًا وسبعين قصيدة - وهو رقم أراه كبيرا على مجموعة شعرية معاصرة، جمعت بين القصائد القصيرة والمتوسطة والطويلة، وكنت أرى أن يخصِّص شاعرُنا للقصائد القصيرة مجموعةً مستقلة، تحقق التناغم المطلوب بين بعضها البعض، مثلما فعل الشاعران؛ أحمد سويلم في ديوانه "جناحان إلى الجوزاء"، وفوزي خضر في ديوانه "قطراتٌ من شلال النار" على سبيل المثال، وغيرهما.

أيضا أرى أن شاعرنا لم يستطع أن يتخلص نهائيا من قاموس الحب العذري، ولم يستطع أن يقدم جديدا – إلا قليلا – لهذا الميراث الضخم من قصائد الحب العذري، وأعتقد أن الشعراء الذين حاولوا الإفلات من هذه الميراث وقعوا في الحسية والشهوانية، ومثال على هذا الشاعر نزار قباني في الكثير من قصائده، وأشهرها "الرسم بالكلمات" التي يقول فيها:

لم يبق نهدٌ أبيضٌ أو أسودٌ ** إلا زرعتُ بأرضه راياتي

لم تبق زاويةٌ بجسمِ جميلةٍ ** إلا ومرَّت فوقها عرباتي

فصَّلتُ من جلدِ النساءِ عباءةً ** وبنيتُ أهراما من الحلماتِ

أما عبدالناصر الجوهري فيقول في قصيدته "تفْسيرٌ جديدٌ لعاشقٍ":

ولم أشعرْ بغير هواكِ...

يسْكنني؛

فبعْثرَ فيَّ أعماقي،

وللمجهول ألقاني

وكنتُ أظنَّ أن َّ الحُبَّ مُنْعطفٌ

لنا يصْفو؛

يُفسِّرني غرامًا؛

فاكتوى قلبي

بحرْمانِ

عيونكِ أنتِ...

كيف صرعْنَ عزَّافًا،

وما أكملتُ ألحاني؟!

صريعًا عُدْتُ كالعشَّاقِ لا أصحو،

ولا أغفو

تمزَّقَ وَجْدُ هيْمانِ

مَنِ الجاني؟

هكذا يشكو الشاعر من الصد والهجر وعذاب الحب، ورغم ذلك يتغنى بعيني محبوبته، وليس بجسدها كما فعل نزار، وهو يذكرنا في هذا بقول الفرزدق:

وعينانِ قال اللهُ كونا فكانتا ** فعولانِ بالألبابِ ما تفعل الخمرُ

ذوائبُها ليلٌ ولكنْ جبينُها ** إذا أسفرت يومًا يلوحُ به الفجرُ

وهكذا يدور الجوهري في هذا الفلك، فلك العينين والتغني بهما، وهو لا يتجاوز هذا المظهر في معظم قصائده، ويرضي بالقليل من العشق الذي يرفعه إلى أعلى عليين، ولكن هذا العشق لا يسمو إلى مرتبة العشق الصوفي الذي رأيناه عند رابعة العدوية والحلاج وابن عربي وابن الفارض وجلال الدين الرومي والسهروردي وغيرهم من أئمة التصوف.

حتى في قصيدته "التجلِّي"، والعنوان من المفردات الصوفية - وسوف نعود إليها - نرى الشاعر يحلّق بعيدًا عن هذا العالم الذي ربما يخشى الولوج إليه. إنه لم يزل على الأعتاب، لم يزل عشقه العذري للمرأة هو المسيطر على مشاعره ومفرداته ومعجمه الشعري، وهو يستخدم بعض المفردات الصوفية القليلة في معجمه الشعري بدلالة غير صوفية، فهو عندما يقول:

قتيلُ العِشْق لا يدرى

فهل أضْنتهُ جفْناتٌ

أَمِ استرقتهُ

عينانِ؟

فراقكِ أنتِ علْمني

لُغاتِ الإنْسِ،

والجانِ

فهو لا يقصد هنا الذات الإلهية كما يقصدها شعراء الصوفية، ولكنها يقصد الذات الأنثوية، كما طالعها عند آبائه من شعراء الحب العذري، يقول:

فعاد الليلُ بالنِّجْماتِ...

يشْغلني،

ويتركني لودياني

ولكنِّي لمحتُ الحُبَّ في عينيكِ...

مُبْتهجًا

هي النَّظراتُ أهواها

وتهواني

وما كفَّ الهوى يومًا

فأغواني

فما خانتكِ قافيةٌ

ولا قايضتُ وجدانًا

بوجدانِ

إنه شاعر يحاول الوصول إلى الأعماق من خلال العينين، فهما المدخل الطبيعي لعالم الحب والعشق البشري، ولكن يبدو أن الباب موصود في وجهه. ومن هنا يأتي عذاب الشاعر وأشواقه للحبيبة العنيدة التي لا تلبِّي نداءات عشقه ولهيب حروفه، فيقول:

وكنتُ ببابكِ الموصودِ في وجهي

فما أعلنتُ عصياني

وما سلَّمتُ فُسْطاطًا

لقرْصانِ

وعلى الرغم من ذلك فهو لا يريد الإعلان عن غضبه أو ثورته أو اعتراضه، ولم يحوِّل وجهته لحبيبة أخرى، وكأنه يعشق أو يحب من طرف واحد، ولا يستطيع أن يخفي هذا الحب أو يداريه، فهو مفضوح به:

فقلبي كاشفًا أمْري

يطوفُ السَّهلَ يفْضحُني،

ويُشْعلُ نارَ كتماني

هنا يعود إلى الأسلاف والآباء الذين أهداهم ديوانه، متخذا منهم درعًا، يقيه من طعنات عيني المحبوية:

وهبتكِ حُجةً من فقه أسلافي

مذكرًا إياها بأيام الحب الصافي، لا بأيام التجافي، علّها ترق له، وتعطف عليه، وتعود إلى يمناه:

ومِنْ يمناكِ كنتُ سقيتُ...

بستاني

مَنِ الجاني؟

مؤكدا أن العشق ديدنُه، وخبزُه اليومي:

أنا بالعِشْق طوَّافٌ

وما ودَّعتُ أحبابي،

وخلاَّني

ويستمر الإحساس بالقتل المعنوي في سبيل الحب مسيطرًا على مفردات الشاعر فيقول:

قتلْتيني

على جدران قافيتي،

وأوزاني

سأكتبُ أنَّني المقتولُ لم أحذرْ

وذاك الحُبُّ أكفاني

ضحاياكِ ارتضوا قتلاً

أنا المكْلومُ بالجفْناتِ،

وهذا القتل يختلف عن مفهوم القتل أو الموت عند الصوفية، فالقتل والموت عند الصوفية من أجل التقرب والوصول إلى الله تعالى، أو الرجوع إليه. يقول محيي الدين بن عربي في معرفة أحوال القوم عند الموت:

للقومِ عند حلولِ الموتِ أحوالُ ** تنوعَّت وهي أمثال وأشكالُ

فمنهم من يرى الأسماءَ تطلبه ** ومنهم من يرى الأملاكَ والحالُ

في ذاك مختلفٌ عند الوجود لما ** تُعطي الحقائقُ والتفضيلُ إجمالُ

ومنهم من يرى التنزيهَ يطلبُهُ ** وهو الذي عنده التشبيهُ إضلالُ

وفي سعيه إلى اكتشاف منابع الحب العذري والوقوف على مشاهده، لم يكتف شاعرنا بآبائه من الشعراء العرب القدامى، ولكنه يتوقف أيضا عند مشاهد هذا الحب في التراث الغربي، فيحدثنا عن روميو وجولييت، ويكتب قصيدة بعنوان "مشهدٌ أخيرٌ لروميو" فيقول:

هىَ قُبلةٌ...

ما أجملَ القلبَ الخجولْ

هىَ قُبلةٌ...

قبلَ الوداعِ

طبعتُها فوقَ الجبينْ..

أم انتظرت مسافةً

حتى تطولْ؟

ويلفنتا أيضا الحديث عن الوداع أو الموت أو الرحيل، وكأن الحب أو العشق البشري يرتبط عند شاعرنا بالموت والنهاية المحتومة:

جولييتُ فى التابوتِ

تشتاقُ الخروجَ إلى ليالي العاشقينْ...

ما كان موتُكِ أو نهايتُكِ السبيلْ

أيضا يطوف بنا شاعرنا في مناطق أخرى من العالم، بحثا عن قصص حب عذرية، وفي قصيدة "مقامُ الكُرْدِ" يقول لأبيه:

أنا أُحِبُّ كاعبًا كُرْديَّةً

رقيقةً

مثلُ الفراشة يا أبي

ولا أطيقُ بُعدَها

فأينما حَلَّتْ أحِلُّ كما النسيم مُقْبلاً

أتبعُها هناك من بين الثغورْ

فإنَّها

لا تشتهِى وضعَ المساحيقِ الأنيقة.

هنا يحكي السارد أو الشاعر لأبيه عن أسباب حبه وهيامه بتلك الفتاة الكردية التي لم تضع المساحيق، ولا تتحلى بالحلي، ولا تزين نفسها بالقرط، ولا تهوى الخواتم، ولا تشتهي المرآة، أو أحمر الشفاه .. الخ. إذن ما أمر تلك الفتاة التي وقع في هواها الشاعر، إنها فتاة تجهز نفسها للحرب والدفاع عن تلال قومها، إنها تبحث عن تأكيد الهوية عن طريق البندقية، فجمالها مختلف، إنه جمال العقل والتفكير والبحث عن سبل صد الطامعين، وهي رمز لأحوال العرب الآن:

تبكى كثيرًا يا أبى

لأنَّهم

قد فتتوا بلادَها

ولأنَّها

ليست موحدةً قبائلُها

وأهلُها تصارعوا لبئرِ نفطٍ ناشبٍ

ومع ذلك فهو يبوح لأبيه الذي يطل علينا من الماضي البعيد، يطل من خلال المآسي والأحزان، ومشاهد التفتيت والعدوان، يبوح فيقول:

فالقلبُ يعشقُها

ولو جُنَّ الهوَى

جُنَّت عيوني للأبدْ

لكنَّها طلبتْ رحيلِي

إنَّها لا وقتَ فى حياتِها للحبِّ...

ليس لمثلِها

فإنها مشغولةٌ

فقلبُها مُغلَّفٌ بحبِّ تلك الأرض،

أو عشقِ الجبلْ

ويعلن الابن – رمز الجيل الحالي – عن تعبه، فأرثه ضخم، لا يقدر على حمله، والحبيبة في شغل عنه، وعن حبه الذي يبدو لا شيء أمام قضاياها الكبرى، وسعيها من أجل التحرر، فهذا الابن ليس هو فارسها المنتظر، إنها تنظر إليه على أنه مراهق، لا يستطيع حمايتها، إنه يذكرنا بقول أمل دنقل في قصيدته "لا تصالح":

كيف تنظرُ في عيني امرأة؟

أنتَ تعرفُ أنك لا تستطيعُ حمايتَها

كيف تصبحُ فارسَها في الغرام؟

هذه الأسئلة لا يستطيع مواجهتها المحبُّ الجديد الذي يقول لأبيه الذي كان رمزا للصمود والنضال:

إنِّي تعبتُ يا أبى

فمشقة ُالترحالِ خلفَها

ما أثمرتْ إلا الهلاكْ

هو لا يهمه سوى هاتين العينين الزرقاوين وجمالهِما، إنه يهتم بالجمال الخارجي، وليس بالجوهر الداخلي، فيقول:

إنِّي أُجنُّ بسحرِ عينيها

هما زرقاوتان (المفروض زرقاوان)،

ولكن هاتين العينين لا تعكسان سوى صور الإباء والنضال والبحث عن التحرر، فلا وقت للحب والعشق، لا وقت للبكاء، ما دامت الأرض محتلة والأعداء على قارعة الطريق، أقرب إلينا من حبل الوريد:

وما تدلَّى منهما

إلا الإباءْ

وفي انقلابٍ على أوضاع العرب الآن الذين فرَّطوا في كل شيء يعترف الشاعر أن حبيبته:

لا تأمنُ الأعرابَ،

والأتراكَ، والرومانَ

والفُرسْ.

أي أنها لا تأمن أحدًا في هذا العالم، فقد جربتْ كل هؤلاء من قبل، فخدعوها وتاجروا بها، وباعوها، وللأسف فموقف الشاعر ضعيف – من وجهة نظرها - ماذا قدَّم لها الشاعر كي تسيرَ في طريقها نحو التحرر والتخلص من الوجوه الكئيبة والوعود الكاذبة، والأعداء المتربصين بها في كل مكان؟ لم يقدم لها حلولا عملية تساعدها على النهوض والسير في طريقها، لم يقدم لها سوى الأحلام ونظرات الهيام والأغاني والأشعار المحلِّقة، وفي هذا إدانة للشعراء والأدباء والمثقفين الذين يناضلون من على كراسي المقاهي وحجرات الفنادق، والحبيبة في الأسر لا يستجيب لها السيف أو الدولة.

لكنني في الحُلْمِ لا أرى سواها

فالهُيامُ مُهْلكٌ

إنِّي مُعلَّقٌ بها

إنِّي كم أحبُّها أحبُّها أحبُّها

هلكْتُ يا أبى

لا يُدركُ العشاقُ ما وادى الهلاكِ...

يا أبى

لأنَّهم لا يعرفونَ طباعَها

عند الغرامْ

لذا

اتخذْتُ غنائمَ الأشواقِ لى

قبلَ انكساراتِ الهوَى

أستنظر الحلم الخجولْ

ولو أتى جيشُ المغولْ.

وهذه القصيدة تربطنا بقصيدة أخرى هي قصيدة "قيْسٌ ينْزلُ الحَضَر"َ، فقيس بن الملوح ترك باديته أو بداوته، وجاء إلى عالم الحضر، والمدنية فامتلك هاتفا محمولا، وانشغل بأمور عاطفية جديدة، ونسى ليلى العامرية، وملَّ من القوافي والمتون الحاكمية، وصار مغايرًا للماضوية:

فصار للوجْدان مُتْسعٌ

وصرتُ مُغايرًا للماضويَّةْ

إنِّي مللتُ مِنَ الرَّويِّ،

 مِنَ القوافي،

والمُتون الحاكميَّةْ

فماذا كان من أمر حبيبته ليلى العامرية:

" ليلى" بكتْ

واسترسلتْ

تنْعي حبيبًا في "دمشْق"،

أوِ  "الخليل"،

وفي ثغور "اللاذقيةْ"

  ما عاد مشْغولاً بها

وهي موقف يتسق مع موقف الحبيبة الكردية، التي لم تجد اهتماما من أحد، فقررت عدم خوض تجربة الحب، لتسير في درب النضال والجهاد واستعادة الأرض. والفارق في القصيدتين أن الحبيب في قصيدة "مقام الكرد" كان يتغني بحبه للحبيبة، ويعلن ذلك على الملأ، ولكن في قصيدة "قيس ينزل الحَضَر" نجد أن الحبيب لم يلتفت للحبيبة لم يعرها أدنى اهتمام، فهو منغمس في ملذاته، وإن التفت لها وعاد إليها بعض الوقت عن طريق الاتصال التليفوني من العصر الحديث إلى العصر القديم – وهي تقنية خيالية موفّقة - فإنه يحكي لها عَنِ العصْر الجديدِ، وعما وجده فيه. وعلى الفور تنهي ليلى مكالمة الهوى المشوَّهة، مشدوهةً:

وبكتْ هواها،

والليالي الشَّاعريَّةْ

وتغرَّبتْ

سفرٌ طويلٌ خلفها

في الحىِّ..

مرَّتْ بالفلولِ الدَّاعشيَّةْ

فغرامُها العذريُّ ولَّى

قد طوتْهُ الطَّائفيَّةْ

ليكشف لنا الشاعر وجهًا من وجوه العصر الحالي، والصراعات التي نعيشها، وقيس العصر الجديد، لا يبحث إلا عن متعته وملذاته، وفي نهاية القصيدة يأتي إلينا صوت آخر غير صوت قيس وليلى، ربما يكون صوت الشاعر نفسه منتصرا للحب والغرام، رافضا ضمنيا العصر الذي قفز إليه قيس من جوف الصحراء، ومن عالم البداوة، حيث يقول:

أمَّا أنا لو جازَ لي

أنْ أستعيدَ زمانه؛

إني سأسكنُ قلْبَ ليلى العامريَّةْ.

بعد هذه الرحلة من العذاب والأشواق والصراع العاطفي العنيف، والحب العذري الشفيف، لا يجد الشاعر سوى وجه الله ملجأ وملاذا أخيرا، ولكنه – كما سبق القول – لا يتوغل في العالم الصوفي توغل العارف والقادر والواصل، إنه لم يزل على الأعتاب، واقفا على الأبواب، ولم يقل مثلما قال الحلاج مثلا:

أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا ** نَحنُ روحانِ حَلَنا بَدَنا

فَإِذا أَبصَرتَني أَبصَرتَهُ ** وَإِذا أَبصَرتَهُ أَبصَرتَنا

روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ ** مَن رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا

ولم يقل كما قالت رابعة العدوية:

أحبُّك حبين حبَّ الهوى ** وحبًّا لأنك أهلٌ لذاكَ

ولكنه قال في قصيدته "التَّجلّي":

يا شاغلِي

بالشوقِ منتظرًا على الأبوابِ؛

كم أرجو لقاكا

هلَّا قبلتَ بعاشقٍ

سِرًّا أتاكا؟

إذ ليس لي

شغلٌ سواكا

قلبى بذكرِكَ عالقٌ

وشغافُهُ

يهوَى سناكا (المفروض تهوى)

ونلاحظ أن الشاعر اتكأ على قافية رابعة العدوية (الكاف الواقعة بين ممدودين)، حيث تقول رابعة في أبيات أخرى:

فأمَّا الذي أنتَ أهلٌ له فكشفُك لي الحجب حتي أراكَ

وأمَّا الذي هو حبُّ الهوي: فشغلي بذكرك عمَّن سواكَ

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي: ولكن لك الحمدُ في ذا وذاكَ

وعلى طول قصائد الديوان الخمس والسبعين نرى شاعرنا الجوهري ملتزمًا بالقافية سواء في قصائده البيتية أو التفعيلية، كما أنه لم يلجأ إلى الكتابة في شكل قصيدة النثر، ليعلن بذلك تمسكه بهذين الشكلين، مؤكدا انتماءه للآباء والأجداد من أصحاب النغم الشعري الأصيل، والرؤى الوجدانية العفيفة، مضيفا سِفْرا شعريا جديدا في عالم الحب العذري يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين القديم، والجديد.