علي بن تميم يتساءل: هل قُرئ نجيب محفوظ فعلا؟

الكاتب يحاكم نقاد اديب نوبل متسائلا هل هناك حقا نقاد للمحفوظ حتى نقوم بدراستهم كما فعل جابر عصفور من قبل؟ وإن كان النقاد لا يقرؤونه، وإنما يقرؤون فروضهم، فما الفروض، وهل نستطيع أن ندركها؟

يشير د. علي بن تميم إلى أن هناك حالة من الهلع والخوف تسود الخطاب النقدي على الرواية العربية ما بعد محفوظ من محفوظ الذي لا بد أن يُلغى ويُهزم، ويا للمفارقة: أن يخشى على الابن من الأب! في الوقت الذي يرى عبدالله العروي أن عالم محفوظ يقوم على المعاودة والتكرار، وبعد أن يتم فرز القشور وعزلها واستخلاص النواة فلن يتبقى من عالم محفوظ سوى ثلاثين صفحة.

وفي كتابه "النقاد ونجيب محفوظ .. الرواية من النوع السردي القاتل إلى جماليات العالم الثالث" الصادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث 2008 يسعى د. علي بن تميم إلى تسليط الضوء على كيفية تلقي نجيب محفوظ في النقد العربي الحديث، ويحاول أن يتمثل الخطابات النقدية المؤثرة التي أسهمت في تشكيل الظاهرة المحفوظية، والأخرى التي قاومت حضورها من أجل إبداع جماليات سردية جديدة ومغايرة.

ويتساءل البحث في بدايته: هل قرئ نجيب محفوظ فعلا؟ وهل هناك حقا نقاد لنجيب محفوظ حتى نقوم بدراستهم كما فعل جابر عصفور من قبل؟ وإن كان النقاد لا يقرؤون نجيب محفوظ، وإنما يقرؤون فروضهم ـ كما يشير عبدالمحسن طه بدر ـ فما الفروض، وهل نستطيع أن ندركها؟

إن النقد العربي الحديث يدرك مشكلة الفروض الخارجية في القراءة ويحاول مقاومتها، ولكنه في الوقت نفسه يقاوم فروض الآخرين ومخططاتهم حتى يضع مخططه الخاص، ويستمر في القراءة، وهذا يدل على أن القراءة الأيديولوجية لم تولع بقراءة نجيب محفوظ، وكانت تقرأ لتقوض مخططا وتضع مخططا بديلا، ومجمل هذه المخططات مستوردة من خارج النص، وهذا يعني أن نقاد محفوظ الأيديولوجيين يقرؤون بعضهم بعضا، فهل ثمة نقاد إذن لنجيب محفوظ!

وعلى هذا يجب مراجعة سيرة نجيب محفوظ وحواراته مع كل من حسين عيد ورجاء النقاش وغالي شكري وفؤاد دواره وأحمد محمد عطية .. وغيرهم مراجعة وقراءة دقيقة وفاحصة لأنها لا تقدم نجيب محفوظ، وإنما تقدم مخططات النقاد، وهذا يتضح في كتاب غالي شكري "نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل" وفيه يسأل شكري محفوظ باستمرار عن أفكار قدمها في كتابه "المنتمي" ويحاول أن يثبت صحتها من خلال المؤلف الذي يرفض قراءة شكري، ويحاول من جديد، مقدما السؤال في صيغة أخرى، حتى يحصل على اعتراف يسم قراءته بالصحة.

وعليه يصح التساؤل: هل كان النقد العربي الحديث طفلا مدللا يرعاه نجيب محفوظ ويهذبه ويربيه أم أنه كبر ونشأ جنبا إلى جنب مع الكاتب؟ وهل كان نجيب محفوظ يعرف الطريق بينما كان النقد ليس إلا صدى كما يرى علي شلش في كتابه "الطريق والصدى"؟

وليس هناك شك أن التوقف عند نقاد نجيب محفوظ يعد أمرا بالغ الأهمية، لأننا لا نستطيع كشف حركة النقد السردي العربي واتجاهاته بشكل عام دون أن نتناول نقاد محفوظ، فالواقعية الاشتراكية التي ظهرت بصدور كتاب "في الثقافة المصرية" لمحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس، شكل نجيب محفوظ هاجسا مهما فيه. وإن كنا نؤرخ للنقد الجديد برشاد رشدي، فإن محفوظ كان حاضرا فيه أيضا، وإن كنا نؤرخ للتيار البنيوي بكتاب نبيلة إبراهيم "نقد الرواية" فإن نجيب محفوظ حاضر فيه أيضا، وهذا يشير إلى أن قراءة نقد نجيب محفوظ هي قراءة لتطور النقد الروائي العربي الحديث، وكشف لحركته وتحولاته عبر الزمن، ويمكن فهم تطورات النقاد السرديين على مستوى خاص أيضا عن طريق متابعة موقفهم من نجيب محفوظ.

فأهمية قراءة نقد محفوظ إذن تتمثل في أنها تكشف لنا بالضرورة طبيعة المعيار الذي تشكل للرواية العربية منذ "زينب" حتى قام محفوظ بتجاوزه واقتراح معايير جديدة، وتكشف لنا أيضا معايير الرواية الجديدة التي قاومت المعايير التي أسسها نجيب محفوظ.

وعلى سبيل المثال إذا تأملنا منهج رجاء النقاش في تناول أدب نجيب محفوظ قد نفهم منهجه في تناول نقاد محفوظ، فهو يلح على فكرة المراحل حينما يقرأ محفوظ من مثل مرحلة المادية ثم مرحلة الوجودية أو الروح والجسد، ويمكن أن يلاحظ القارئ أن هذه المراحل تقترب بقدر كبير من مراحل النقد عند النقاش.

ويشير البحث إلى أن الناقد حميد لحمداني في كتابه "القراءة وتوليد الدلالة: تغيير عاداتنا في قراءة النص الأدبي" بيروت 2003، لم يكن على وعي بأن "الثلاثية" تعد من أهم الأعمال التي تنازعتها المواقف الأيديولوجية الشيوعية والاشتراكية والإسلامية تنازعا واضحا، وهي تقدم نموذجا حقيقيا للصراع والتنافر بين هذه المواقف، فالموقف الشيوعي برز عند نجيب سرور، في حين أن الموقف الاشتراكي الرافض لكمال عبدالجواد تجلى عند علي الراعي، وظهر الموقف الاشتراكي المؤيد عند غالي شكري، بينما برز الموقف الإسلامي المؤيد عند محمد حسن عبدالله وشفيع السيد، والموقف الإسلامي المعارض عند السيد أحمد فرج، والموقف المحايد أو الوسطي عند نبيل راغب، والموقف الديمقراطي عند حميد لحمداني أخيرا، وبهذا تحولت "الثلاثية" عند كل هؤلاء إلى رواية أفكار النقاد.

ويؤكد البحث أن الناقد علي شلش من أهم النقاد الذي تناولوا نقد محفوظ قبل ثورة يوليو، وكان يرفض ـ على خلاف مجمل النقاد ـ أن يكون محفوظ قد مر بفترة من التجاهل، ويرى أن محفوظ نفسه أسهم في انتشار هذه الفكرة عند النقاد التي عززها أيضا رجاء النقاش دون أن يقدم لنا الهدف من هذا الإصرار.

بينما صاغت مقالات سيد قطب صورة محفوظ الشاب المبدع المظلوم الذي كان ضحية الشيوخ (من أمثال: العقاد والمازني وهيكل والحكيم وطه حسين ..)، فمحفوظ لم يكن على وفاق مع الثقافة السائدة منذ أن بدأ الكتابة، ولم يسافر إلى الغرب مثل بعض الشيوخ مما أسهم في عدم تقبله رواياته، فالجيل السابق كان يرى أن الرواية فن غربي، علاوة على أن أعماله السردية لا تقدم تلك العوالم الغريبة التي ألح عليها مثلا مجايله إحسان عبدالقدوس (1919 ـ 1990)، وكل هذا كان مؤثرا في نقاد محفوظ بعد الثورة، خاصة أن "الثلاثية" تحقق ـ لأول مرة ـ سردنة الأمة المصرية على نحو متخيل في نص إبداعي يسجل الحكاية الوطنية قبل ثورة 1919 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ممهدة ـ كما فهمها النقاد ـ إلى ثورة 1952 وينافس أهمية رواية "عودة الروح" ورؤيتها الوطنية المتخيلة، ويقلل منها شيئا ويردها إلى سياقها التاريخي.

ويوضح البحث أن نجيب محفوظ (بعد الثورة) تحول إلى مؤسسة لها مرافقها المركزية الشهيرة مثل: الثلاثية وأولاد حارتنا والحرافيش، وتتضمن شخصيات ذائعة الصيت نسوية وذكورية مثل: حميدة وزهرة وسي السيد وكمال عبدالجواد، وبها شخصية متعالية يهابها النقاد مثل الجبلاوي (الشخصية التي لا يتوقف عندها معظم النقاد إذا ما تناولوا "أولاد حارتنا") وفيها شخصيات غامضة أخرى مثل السيد الرحيمي نائب الرئيس الذي شرحه النقاد هروبا من لقاء الجبلاوي.

هذه المؤسسة الغريبة التي تدعى نجيب محفوظ، لها أعداء ومؤيدون مثل أي مؤسسة، أشد أعدائها جيل الشيوخ وعبدالعظيم أنيس وإدوار الخراط والقوميون والدينيون، ولها من المؤيدين الكثر مثل سيد قطب وأحمد عباس صالح وأنور المعداوي ونجيب سرور، ولها أعضاء ممن انتسبوا إليها ثم رفضوا العضوية مثل صبري حافظ، فحل محله جمال الغيطاني ورجاء النقاش اللذان تخصصا في تدوين كل نأمة تتلفظ بها (تلك المؤسسة).

كما تتضمن تلك المؤسسة جماعة متخصصة في مجالاتها الفكرية والفلسفية مثل: غالي شكري وجورج طرابيشي، ولها أيضا جماعة متخصصة في البحث عن أصولها المعرفية ومواردها الفكرية مثل: أحمد عباس صالح والخراط وعبدالمحسن طه بدر ولطيفة الزيات، ولها أيضا جمهرة من المنظرين لدورها الوطني والريادي مثل: سامي خشبة وفؤاد دوارة.

ولعل أهم من أسهم في وصف أساساتها الشكلية ومظهرها الخارجي هم كل من: رشاد رشدي ونبيلة إبراهيم ومحمود الربيعي وسيزا قاسم وسامي سويدان.

ولا توجد مؤسسة بدون اختلاق سردي، ويدعي البحث في هذه الجزئية أن كلا من الغيطاني وغالي شكري والنقاش يمارسون  مهنة رواي السير الشعبية، لكن الذهنية الكتابية التي يتمتعون بها ذهنية أنانية، فالراوي الشعبي القديم كان يسرد في لغته الشعبية البسيطة غير الملوثة بشروط الكتابة المطبوخة التي تتعارض مع الشفاهية النيئة، أما هؤلاء الرواة فهم قد شوهوا السيرة بتحويلها من نص عامي إلى نص فصيح، فحملوها أكثر مما تحتمل، ونقلوها من لغة لها نظام خاص إلى لغة أخرى لها نظام مختلف، ومن ثم شوهوا تلقيها بإحالاتهم المستمرة إلى الأعمال السردية، لكن المؤسسة نفسها تفضح هذا الادعاء الذي يقوم به الرواة الكتبة، ويمكن العودة إلى غلاف كتاب حسين عيد الذي أثبت عليه كلمة لمحفوظ جاء فيها:

"الأستاذ حسين عيد .. شكري العميق لك على ما تجشمته من جهد خارق لكتابة (سيرة ذاتية .. أدبية) التي أرجو أن يتاح لي الاطلاع عليها عندما يتفضل أحد الأصدقاء بتلاوتها، وأكرر الشكر وأرجو لك التوفيق الذي أنت أهل له. نجيب محفوظ".

ويعلق البحث على هذه الكلمة التي يستضيفها عيد على ظهر كتابه دون أن يشعر بأنها أسلوب يهدم ويقوض أكثر مما يمدح، فمحفوظ (الداهية) يصف جهده بالخارق دون أن يتعرف عليه ويقرؤه، وكأنه يسخر منه، ويمكن أن نكتشف عن طريق اللفظ "خارق" أن مفهومه للسيرة نفسها أمر متعذر وجوده، في صورتها التقليدية، ولذلك يحيلها إلى الطبيعة غير البشرية، علاوة على أننا يمكن أن نتساءل هنا: سيرة من هذه التي يتحدث عنها محفوظ، أليست سيرته؟ إذن لماذا يسقط محفوظٌ نجيبَ محفوظ من العنوان؟ وبذلك فإن محفوظ يعلن بصورة مبطنة تبرأه من السيرة حينما يحذف اسمه، وكأنه يحذف سيرته الذاتية كاملة، فبدل أن يذكر عنوان الكتاب كاملا وهو "نجيب محفوظ: سيرة ذاتية وأدبية" يثبت جزءا منه "سيرة ذاتية  .. أدبية" مسقطا واو العطف، وكأنه يخلط الذات بالمتخيل عندما يدمج الذاتية بالأدبية، وعلى هذا الأساس فهو يعيد قراءة جهد عيد، ويقدم قراءته المشاكسة والمتطفلة التي تقوض المضيف وتربك استقراره.

هكذا تُنصب محكمة نقاد نجيب محفوظ، ويتقدم المشهد الآن جورج طرابيشي الذي أثبت على ظهر كتابه "الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية" كلمة محفوظ التالية:

"هذا الكتاب

بصراحة أعترف لك بصدق بصيرتك، وقوة استدلالك، ولك أن تنشر عني بأن تفسيرك للأعمال التي عرضتها هو أصدق التفاسير بالنسبة لمؤلفها.

نجيب محفوظ".

وتقول المحكمة إن هذا العمل الذي يقوم به طرابيشي هو نوع من هرطقة النقد، كما يسميه خلدون الشمعة، ويبدو واضحا أن طرابيشي لا يتوجه إلى القراء، إنما يتوجه إلى المؤلف في نقده، أي أنه يعزز من فكرة السلطة المزعومة للمؤلف، سلطة مسيطرة آمرة ناهية، ذلك أن النقد هنا كالنبات الطفيلي، يتسلق في بحثه عن قيمته الخاصة، على القيمة المسلم بها للقاص المنقود، وطرابيشي يسعى إلى الكاتب حتى يتحصل على موافقة تؤكد صحة القراءة، لكن الكاتب في الوقت نفسه لا يمنح الناقد صكا مطلقا، وإنما يعيّنه في سياق محدد، ويطفيء شغف الناقد عن طريق تصريح جزئي، فهو أصدق التفاسير للمؤلف فحسب، وهنا يتقصد محفوظ أن لا يذكر عنوان الكتاب، فيضطر طرابيشي أن يضيف عبارة "هذا الكتاب"، ويضع تحتها كلمة محفوظ، وكأنه يعيد إنتاجها حتى يحولها من دلالتها الخاصة إلى دلالة عامة ومطلقة.

وتؤكد المحكمة أن المؤسسة المحفوظية ليست جامدة كما يشاع ومستقرة، بل إنها مسؤولة عن التطوير الذي حققته الرواية ما بعد هزيمة حزيران، وهذا يعني أنه ليس بالإمكان أن نتحدث عن التيارات السردية الجديدة التي ظهرت بدونها. ولعل هذا الرأي يقوض ما ذهب إليه لويس عوض من أن نجيب محفوظ "غدا في بلادنا مؤسسة أدبية أو فنية مستقرة تشبه تلك المؤسسات الكثيرة التي تقرأ عنها، ولعلك لا تعرف ما يجري بداخلها وهي مع ذلك قائمة وشامخة."

ومع ذلك تعترف المحكمة بأن لويس عوض هو المحفز في خلق تيار نقدي متجدد غير حركة النقد العربي الحديث في تلقي محفوظ، فبدأ مجمل النقاد يعيدون النظر في هذه المؤسسة، ويبتكرون لغة نقدية مختلفة، وهذا يعنى ولادة آفاق جديدة للتلقي، ومؤشرا لظهور الرواية الجديدة.

وتبرز المحكمة رأي لويس عوض في "المرايا" فهي محاولة رديئة في رسم الشخصيات، إنها ليست رواية وليست قصة قصيرة، إنها لا شيء، إنها ليست أكثر من رأيه (أي رأي نجيب محفوظ) في عدد من الشخصيات الي شغلت عالم الأدب والثقافة والسياسة في السنوات العشرين الأخيرة، ويمكنك أن تتعرف على هؤلاء الأشخاص، يمكنك أن تقول: هذا هو الدكتور عبدالرزاق حسن، وهذا هو الدكتور مندور، وهكذا .. أنها سطحية جدا، وأدب رديء جدا.

وترى المحكمة أن هناك تناقضا في تلقي محفوظ، فهو عند كل من سيد حامد النساج وسامي سويدان يمثل الخطاب النقيض لعبدالناصر، وعند لويس عوض جزء من نظام عبدالناصر، وأن عدم جود سير ذاتية (حقيقية) لمحفوظ جعل حياته تتسم بالغموض.

ولم تشأ المحكمة أن تقدم قراءة أو تلقي يوسف إدريس لمحفوظ خاصة بعد نوبل، لأن خطابه النقدي يقوم على التشهير والاتهام، حيث كان إدريس يتوقع الجائزة لنفسه، وما إن حصل محفوظ على الجائزة حتى تحطمت طموحاته، وبدأ في نشر مجموعة من الخطابات يظهر فيها الأغراض السياسية من وراء منح محفوظ الجائزة. كما رأت المحكمة ألا تناقش (الشيخ) كشك.

وركزت المحكمة على الانجذاب والنفور الذي يشكل ظاهرة متكررة في تلقي نجيب محفوظ، ويصور موجات تلقي محفوظ عند النقاد بشكل عام، التي بدأت بالتجاهل ثم الاستجابة التي إما تكون سلبية أو إيجابية، وعلى سبيل المثال يعده أحمد كمال زكي في "الفكر الإسلامي في أدب نجيب محفوظ" إسلاميا، وغيره يعده ملحدا، وبينما يعده عبدالعظيم أنيس كاتب الرجعية، فإن فؤاد دوارة يرى بأنه كاتب تقدمي، ويقول نظمي لوقا عن محفوظ "ولست أنكر أني أجفلت في بداية الأمر، ثم لم ألبث أن انسقت مع تياره الجارف فلم ألق إلى ذلك بالا، وانتهى بي الأمر إلى استطابته."

والأمر نفسه ينسحب على طه حسين الذي ظل طيلة حياته نافرا عن العالم المحفوظي، وعاد واتصل به بعدما وجد أن أدب محفوظ انتقل إلى فرنسا.

وتطرح المحكمة بعد مناقشة مستفيضة تساؤلا مهما نصه: هل نموذج الشخصية المحفوظية الحديدية أثرت في تشكيل رؤية النقاد لعالم محفوظ السردي، أم أن عالم محفوظ السردي الحديدي الصارم هو الذي أسهم في صياغة صورته عند القراء؟

ومن ناحية أخرى ترى المحكمة أن بعض النقاد يفكرون في أنفسهم حينما يمارسون قراءة محفوظ، مثل يوسف الشاروني ونجيب سرور وعلى الراعي ولمعي المطيعي الذي دعا إلى قراءة تقوم على إرادة القارئ التي لا تقل عن إرداة المؤلف، غير أن هذا النوع من التفكير في القراءة سيختفي في الستينيات وتقل حدته، حيث تذوب ذات القارئ في شعار الثورة فينسي دوره، ولن يلتفت لعملية القراءة إلا قلة من النقاد سيسعون إلى كسر النموذج الستيني مثل: لويس عوض ويحيى حقي وشكري عياد.

وتتأمل المحكمة تلقي فترة الصمت التي توقف فيها محفوظ عن الكتابة عقب قيام الثورة، وحتى فاجأ القراء بـ "أولاد حارتنا" عام 1959 وترى أن صمت نجيب محفوظ لا يقل أهمية عن الكتابة، خاصة أن حضوره يكتسح المشهد الثقافي المصري في ذلك الوقت إلا أنه فضل الصمت على الكتابة، وكأنه يقرأ الطريقة التي لا بد أن يكون عليها في عمله الجديد، وهذا يتطلب إعادة النظر في مشروعه الخاص، لاسيما وأنه يلتمس مجموعة من الخيارات المتعددة في الحياة الأدبية: هل يحتذي بيوسف السباعي الذي انتقل إلى تدوين تاريخ الثورة؟ أم يتخذ مسار عبدالحليم عبدالله الرومانسي، أم يحتذي بعبدالحميد جودة السحار الذي راح يؤرخ للإسلام؟ أم يفعل مثل عبدالرحمن الشرقاوي الذي انشغل بالفلاحين والعمال حتى أصبح كاتبا أيديولوجيا؟ أم أنه يظل محافظا على نموذجه قبل الثورة؟

وتلاحظ المحكمة أن الصامت إذا تكلم بعد توقف فإنه يكسر طريقة كلامه التي عرفناها من قبل، فيقدم محفوظ "أولاد حارتنا" ليكسر بها نموذجه الذي عرفناه من "القاهرة الجديدة" إلى "السكرية".

وتأخذ المحكمة على قراءة عبدالعظيم أنيس لمحفوظ أنه لم يتحدث عن الخصائص الفنية لأعماله، وكأنه في صدد أعمال سياسية بحتة، وأن موقف نبيل راغب يمثل صدى لموقف أنيس حيث سيطرت عليه أطروحة "في الثقافة المصرية"، بينما ترى في شهادة محمود الربيعي، رغم أنها تقدم حساسية في التعامل مع أدب نجيب محفوظ، إلا أنها في الوقت نفسه تأتي على النقيض مما يطمح، فالشهادة تعني أن الربيعي لم يعد لديه ما يقوله، أو أنه بدل من أن يعلن عن قراءة معينة لعالم نجيب محفوظ، فإنه يعلن عن موته كناقد لأدب نجيب محفوظ وجمود رؤيته وتحجرها.

أما قراءة محمد حسن عبدالله فهي لا تفصح عن اتجاه نقدي أصيل، فهو في كتابه "الواقعية في الرواية العربية" يرى أن عالم محفوظ عالم اشتراكي، بينما في كتابه "الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ" يرى أن عالم محفوظ إسلامي، وترد المحكمة هذا إلى فهم عبدالله للقراءة بوصفها احتجاجا على قراء محفوظ، ففي كتابه الأول يحتج على عبدالعظيم أنيس، وفي كتابه الثاني يحتج على غالي شكري، وتؤكد المحكمة أن ما يحدد القراءة عند عبدالله ليس منظوره النقدي، وإنما قراءات الآخرين، وموقفها من محفوظ.

وتتوقف المحكمة عند الخطاب النقدي لإدوار الخراط وتصفه بأنه من أعمق الأقوال النقدية وأعقدها، فالخراط يشكك في مشروع محفوظ لأنه عبر عن المظاهر الواقعية التي لم يعد لها وجود في المرحلة المعقدة والشائكة بعد هزيمة حزيران، وإذا كان عبدالعظيم أنيس والنقاد يقرؤون محفوظ بالرجوع إلى الواقع، فإن الخراط يفهم الواقع عن طريق النص، أو بمعنى آخر إذا كان النقاد قبل الخراط يقرؤون محفوظ بعد أن عاينوا الواقع، فإن الخراط يقرأ محفوظ أولا يم يعاين الواقع، لأنه يرفض الواقع القائم الذي يعد المقياس الذي يحاكم عليه النص الواقعي الثابت. 

وتأخذ المحكمة على دراسة عبدالمحسن طه بدر "الرؤية والأداة" أنها يمكن أن تصلح مقالا وليست كتابا، ومرد ذلك إلى تضخم الدراسة وضخامة عالم محفوظ إزاء محدودية منهج بدر، وهو ما ينطبق على كثير من الدراسات التي كتبت عن عالم محفوظ.

وتلاحظ المحكمة أن صبري حافظ نشر مقالته عن "ميرامار" مرتين، مرة قبل هزيمة حزيران، وكانت بعنوان "ميرامار تراجيديا السقوط والضياع"، ونشرها مرة أخرى بعد النكسة بعنوان "استشراف الهزيمة قبل النكسة" دون أن يغير ويضيف عليها شيئا، وإنما جعل لها مقدمة وغير العنوان، ورأى أن محفوظ متنبأ بالهزيمة والسقوط، وهذا يدل على أن السياقات تحدد القراءة وتوجه المنظور.

كما تلاحظ المحكمة أن فاطمة موسى قرأت "ميرامار" قبل الهزيمة، ولطيفة الزيات قرأتها بعد الهزيمة، وسيزا قاسم قرأتها في التسعينيات، فإذا تتبعنا الرؤية عند كل هؤلاء فسنجد أنها تتفاعل مع الأحداث، فسياق ما قبل الهزيمة يختلف عن سياق ما بعد الهزيمة مباشرة، ويختلف كلا السياقين عن سياق التسعينيات. تقول سيزا قاسم عن قراءتها لميرامار "واليوم ونحن نعيد قراءتها .. بعد أن استعدنا ثقتنا في أن جذوة التحرر لا تخمد أبدا، ولو انزوت داخل بواطن النفوس وكفنها الخوف والوهن".

أخيرا تتساءل المحكمة أمام الضمير الأدبي والنقدي العربي: هل صحيح حقا أن محفوظ بحكم التاريخ الفني صار فاعلا في النقاد؟ وهل رسم لهم طريقا ما لدراسة أعماله، وهو بذكاء يحسد عليه طوّر شخوصا قديمة في أعمال جديدة، فأمسك بأنوف كثير من النقاد، ومشى بهم ليتبعوا مثلا شخصية "الزعبلاوي" من القصة القصيرة إلى الرواية، وكمال عبدالجواد من الثلاثية إلى "الشحاذ" كما يرى إبراهيم عبدالمجيد. فيا له من داهية لو فعل محفوظ ذلك!