أعمال كلحي نعمت محمد كشوفات جمالية بسماتها المكانية

كلحي نعمت من أكثر الفنانين الإنطباعيين الكردستانيين الذين ينجزون مشاهدهم على نحو إدراكي، وأكثرهم حرصا على توثيق الطبيعة الجميلة بأحاسيسه وألوانه الخاصة.

زاخو مدينة تتبع إدارياً محافظة دهوك في كردستان العراق، وتقع شمالها على بعد خمسين كيلو متراً تقريباً، كما تبعد عن نقطة إبراهيم الخليل الحدودية مع تركيا حوالي عشرة كيلو مترات، وعلى بعد خمسة وعشرين كيلو متراً من الحدود السورية العراقية.
 وزاخ يقال أنها تعني القوة و العزم باللغة الكردية، هذه المدينة الصغيرة لم تكن عاقراً، بل ولودة على إمتداد عمرها ويكفيها أنها أنجبت بلبلين من بلابل كردستان التي ما زالت سمواتها تصدح بهما، يكفيها أنها أنجبت لنا أياز يوسف وأردوان زاخولي وخلدتهما بنصبين لهما تزينان إحدى ساحاتها بإزميل أحد أبنائها ألا وهو الفنان والنحات دلير يوسف .
أسوق هذا الكلام وأنا مقبل على الحديث عن تجربة أحد فناني هذه المدينة وقراءتها، أقصد الفنان كلحي نعمت محمد (زاخو - 1972) على أمل أن نوفق في ذلك وأتمنى أن تكون هذه القراءة بوابة للدخول إلى عوالم فناني هذه المدينة جميعاً، كل على حدا، بها نرسم بانوراما عن حركتها الفنية، وفناننا كلحي إبن هذه المدينة، فيها ولد وفيها عاش ويعيش، وفيها أبدع ويبدع.
 وهو الآن يعمل كمشرف فني في مديرية تربية زاخو، لديه رصيد كبير من المعارض، لديه سبعة معارض فردية، وأكثر من مائة وأربعين معرضاً مشتركاً، وكلحي يعلن عن نفسه في نصه/لوحته، في القديم منه وفي الجديد، فلا يرسم حدوداً بين ضفتيهما، بل يشدهما إلى لحظتهما التاريخية التي هي لحظة ذاتها، والتي إبتدعها حين تراءت له مقدمات وتصورات تقطن الحاضر كما تقطن الماضي، تستمد سلطانها من قدرتها على توثيق الجمال صياغة ونسجاً وتصويراً، ومن قدرتها على الفعل في المتلقي، وإستنهاضه وحفزه وإثارته، لا بوصفها كيفيات إنتاجية تجاهر بما تحتويها من رؤى محكمة فنياً، بل بوصفها كشوفات رؤيوية بها يجتاح الخطاب الجمالي السائد ملتقطاً منه ما هو محجب فيه، غائراً في خباياه، مستعيداً البعض من مقررات عملية تصنيفه، مشرعاً في قراءة ظواهره الفنية و التاريخية والمعنوية، ليمضي بهما نحو سجال فائق المقدرة في طرح الأسئلة التي تبقى لعقود وهي تحشد حركاتها وإشاراتها لعلها تتلقى ما يدعوها إلى البقاء في ديمومة الطرح، أو تتمكن من العثور على ما يشفي غليلها.
 فصحيح أنه يريد التجديد، لا تقليداً للمستشرقيين، بل إحياء ما يعتمل في صميم تصوراته، فهو الأقرب من محددات البيئة بتأثير كبير لعمليات التربية الجمالية البصرية.
 ولعله من أكثر الفنانين الإنطباعيين الكردستانيين الذين ينجزون مشاهدهم على نحو إدراكي، وأكثرهم في توثيق الطبيعة بأحاسيسه وألوانه الخاصة، بإنطلاقته إليها، متربصاً بنوحها وبكل ما يجعله يهفو إليها، من مداراتها التي تحفظ جمالياتها وكيفية تناولها، إلى تداعياتها التي لا تكتفي بذاتها، بل توغل في بنيتها كمأوى لإستيهاماته الفردية التي تنبع من زخرفة معانيها وما تحمل من طيب الحياة وشظفها، ويجعل أشكاله تتوحد مع ذاتها أولاً، ومع لهب حلمه بمكوناته البانية والعاصفة بحركية ملفوظاته ثانياً، فلا كآبة هنا، ولا إنكسارات، بل تجاذب خفي بين أسراب مدركاته التي تدخل في علاقات طافحة بالمرايا المتناظرة التي تلفظ المنطق ولا تكسر العلاقات التي تحكمه.
 فتتوالى على بياضه ما يسمح بإعادة إنتاج الطبيعة لإكتشافها، بدقائقها وجزئياتها، لإكتشاف سيرتها التي لا ترويها إلا بين أصابع فنان عاشق لها، تروي له تفاصيلها الصغيرة وكأنها قطع حلوة تقدمها له.
 تروي له ما حرثه الزمن في عمقها وجسدها، هذا الحرث الذي يزيد من قوة تعلقه بها فيبدأ في تصويرها بوصفها إبداعات ربانية بقدر ما هي تراجيدية إنسانية، ولهذا الذهاب إليها يحتاج إلى أكثر من سفرة، فهي لا تكشف مفاتنها لعاشقها دفعة واحدة، ولا تبث فيه من رائحتها إلا ما تيسر من روحه لإلتقاطها.

 وفي كل قبلة لها أقصد في كل سفرة إليها ترسم فيك جزءاً من ملامحها لتعيد الكرّة علها تكتمل فيك، وقد تجعلك تنزف من داخلك ماشاءت من حركات هي رائحتها أو إنتحارها البطىء فيك إن لم تفتح بواباتك أمام نوافذها المطلة عليك ستجرف بك إلى حيث لا تشاء، فكلحي لا يسكن طبيعة كردستان، ولا تسكنه هي فحسب، بل كل منهما يسكن في الآخر، كل منهما يغرق في الآخر شوقاً وحباً و عشقاً لا حدود لها، فكل منهما للآخر وطن وموسيقاه، كل منهما للآخر حديقة غناء و إنتماء، حتى يغلفهما معاً مساءات بملامح فرح تأبى الرحيل بعيداً عنهما، بملامح حاشدة بالعناق وبوعود معلقة في الروح، لا إنتظار هنا بل عيون حبلى بأيام غنية بالشمس،ومحدقة بجبال وأنهار تكسوها مفاصل العشق التي قد تتحول إلى وردة بيضاء أو حمراء.
 لا فرق هنا طالما تم سقايتها من أصابع فنان تجيد عزف الجمال ويفرشها كعشب بأكثر من لون على مساحاته البيضاء كروحه وكقلبه أيضاً .
كلحي نعمت محمد مع تكرار إستجاباته للمثيرات البصرية الطبيعية، والحاملة لقيمها الجمالية فهو يحافظ على سوية جهد الإستثارة ذاتها، الجهد الذي ينبغي ألا يكون إنفجارياً / فوضوياً فذلك قد يفصله عن عمله سنوات ضوئية.
 وبالتالي يفصل ذلك العمل عن متلقيه بالمسافة ذاتها، فالحرص على وجود القيمة المعطاة للجدة هو جانب مهم يجعل متلقيه في حالة من الإكتشاف على نحو دائم تمنعه من الإنصراف عنه، فهو (كلحي والمتلقي) يحاول كل منهما أن يحقق قفزة بإتجاه الآخر وهذه معادلة جد مهمة في إختصار حركيته وبث الروح فيها عله ينظم ذاته وعمله وبالتالي متلقيه بعيداً عن أي إنهاك الذي قد يكون طارداً لأحدهما إن لم يكن لكليهما.
 فهو يقوم بفعل الخلق على أساس التواصل مع الآخر، هذا الآخر الذي يبقى حاملاً تنبؤاته الخاصة وهو يتابع مخلوقاته / أعماله في مستوياتها كافة، الذي يبقى حاملاً تخييلاته الخاصة مع ما يصاحبها من مشاعر مشحونة بالطاقة الإنفعالية حتى تكتمل البهجة، ويكتمل الإستمتاع بتلك الخبرات التي يجلبها من خلال عمله، والتي تجعل من المشاهدة القريبة له مفاتيح بيد متلقيه وهو يغور في جذوره المبكرة، فأعماله إنطباعية كردستانية بإمتياز يصوغها بغنائية لونية قادرة أن تعيده إلى إيقاعات المكان الخاصة به حيث حيوية اللمسات/لمساته تكون في ذروتها، تصنع فيه الإنسان/الفنان الذي سيأخذ الحالات كسيمفونية واحدة تعزف لحناً واحداً يكتمل مع ذاته الخارجة من الضوء، من ظلالها الداكنة والمتقاطعة مع الفصول حين تلامس الملامح المشبعة بأشياء لا حدود لها .
كلحي محمد لا يفتش كثيراً عن مفاتيح العالم المحيط به، فهي مرمية في طريقه الذي يسير فيه، ما عليه إلا إلتقاطها حتى تبدأ تصوراته لذلك العالم بالهطول، راسماً إياها وبماهيتها وبكل ما تكمن روحها جوهرية تجربته الفنية، التجربة التي لا تنقل طبيعة بلاده إلى ألوان تزخرف فضاءاته، بل هي كشوفات جمالية تحمل سماتها المكانية التاريخية ويوثقها فنياً بخصائصها الإيجابية إلى درجة الذهول.
 فتصويراته هي تفصيلات عميقة ونفاذة إلى عوالمها الداخلية المتخمة بموضوعية التعبير التي ستشكل فلسفته في ترجمة هذه الحياة، هذا العالم، هذه الطبيعة، هذا الإنسان .