'أغورا' رسالة فنتازية تعالج العلاقة بين السياسة والدين
تونس - انطلق عرض فيلم "أغورا" (Agora) للمخرج علاء الدين سليم في القاعات السينمائية التونسية، حيث استقبلت قاعة سينما الريو بتونس العاصمة، الجمعة، العرض ما قبل الأول للعمل الذي سيكون متاحا في القاعات للجمهور ابتداء من السادس عشر من أبريل/نيسان الجاري.
و"أغورا" هو ثالث أفلام المخرج علاء الدين سليم الروائية الطويلة بعد فيلمه الأول "آخر واحد فينا" الذي حقق أصداء إيجابية عند عرضه في عدد من المهرجانات السينمائية، وتوج بجائزة أسد المستقبل في مهرجان البندقية السينمائي في العام 2016، وفيلم "طلامس" الذي تم اختياره ضمن أسبوعي المخرجين في مهرجان كان السينمائي في العام 2019.
ويرسخ المخرج التونسي الشاب منذ عرض "آخر واحد فينا" و"طلامس"، نفسه كصوت سينمائي تونسي متفرد ومولع بالتجريب ومنشغل بالهوامش وبالكائنات المعزولة التي تمشي على تخوم الوجود.
ويعمق المخرج في فيلمه الجديد "أغورا" وهو إنتاج تونسي سعودي فرنسي مشترك أنتج العام الماضي، هذا المشروع الجمالي ويذهب فيه إلى أقصى مدى من العبث والغموض والرؤية النقدية عبر سرد فني يجمع بين البوليسي والفلسفي والأسطوري في آن واحد.
ويتناول الفيلم مسألة الذاكرة الجماعية، وتأثيرها على الشعوب وتذكر بإخفاقات المسؤولين في الدولة. ويعالج العمل السينمائي هذه المسألة من خلال توظيف الرموز والقصص الفرعية التي تجسد التوترات الاجتماعية والسياسية في المجتمع.
ففي مدينة معزولة، حيث يعود بعض الأشخاص المفقودين بمظاهر غامضة، مما يخلق حالة من التوتر والقلق بين سكان المدينة. يتدخل "فتحي" مفتش الشرطة المحلية سعيا لكشف غموض عودة هؤلاء الأشخاص بمساعدة صديقه الطبيب "أمين". تتعقد الأمور عندما يصل مفتش الشرطة "عمر" من العاصمة لاستجلاء الأمر، مما يؤدي إلى انقسام بين سكان المدينة بين من يرحب بعودة المفقودين ومن يعتبر عودتهم لعنة.
ويبدأ الفيلم من فرضية بوليسية تتمثل في ثلاثة أشخاص يفترض أنهم ماتوا منذ سنوات، لكنهم يعودون فجأة إلى مدينتهم الصغيرة في ظروف غامضة. وفي العمل لا يهتم المخرج بالتحقيق بقدر ما يهتم بخلخلة الأحداث وخلق أجواء من التوتر والاضطراب، وهؤلاء "الراجعون" جعلهم علاء الدين سليم لا ليجيبوا عن سر عودتهم المفاجئة وإنما ليزيدوا الأسئلة كثافة، فهم لا يتكلمون كثيرا ولا يطالبون بشيء، حتى إن وجودهم في حد ذاته هو الاتهام، فهم ماض لا يموت وذاكرة لا يمكن دفنها.
وهذا المنطلق البسيط نسبيا للفيلم سرعان ما يحوله المخرج إلى بنية معقدة يتداخل فيها الزمان والمكان والحلم والواقع والعلم والخرافة والسياسة والدين لتصير المدينة كلها مسرحا لاختبار جماعي لهوية مشروخة ماضيها مر وحاضرها مختنق بالصمت والنكران والنسيان الجمعي والانفصال المؤلم بين السلطة والشعب.
ولذلك جاء عنوان الفيلم "أغورا" محملا بالتناقضات، فالأغورا هنا لم يكن يحمل معنى تلك الساحة العامة عند الإغريق حيث تجمع الناس وتعقد الاجتماعات العامة بل كان رمزا للانفصال وانعدام الحوار بين السلطة (السياسية والدينية) وعامة الشعب من الكادحين والمهمشين.
ويجسد الأدوار الرئيسية في الفيلم الممثل ناجي القنواتي في دور المحقق الأمني وهو رجل بدا يائسا أكثر منه صارما، إذ يتعامل مع عودة "الراجعين" كحالة شاذة يريد احتوائها. ويرافقه صديقه الطبيب الذي تقمصه الممثل بلال سلاطنية وهو الذي بدا أكثر إنسانية لكنه لا يقل ارتباكا. وحين تعجز السلطات المحلية عن السيطرة على الموقف، يتم إرسال محقق من العاصمة هو الممثل مجد مستورة الذي ظهر في ثوب شاب عصري محنك لا يخلو من الكاريزما، فيبدأ مهمته بثقة زائفة سرعان ما تتحطم أمام لا منطقية ما يحدث. وبدلا من أن يطمئن سكان المدينة يزيد من اضطرابها إلى أن تصل طبيبة سامية تجسدها سنية زرق عيونه في محاولة يائسة لإعادة النظام أو بالأحرى فرض رواية رسمية تقفل الملف، لكن الجميع يضيع، فالفيلم لا يقدم حلولا ولا يطرح نهاية، بل يكشف أن كل شخصية مهما بدت عقلانية أو قوية تحمل بداخلها خوفا دفينا من مواجهة الحقيقة.
وليس الخيال في فيلم "أغورا" هروبا من الواقع، بل هو وسيلة لفهمه. وقد وظف علاء الدين سليم عناصر من السرد الفانتازي والميتافيزيقي ليخلق واقعا تتداخل فيه العوالم حيث تتكلم الحيوانات وتمحى الحدود بين الحياة والموت، فالكلبة الزرقاء والغراب الأسود ليسا مجرد أدوات رمزية وإنما هما أصوات من خارج المنظومة البشرية وشهود على العبث الإنساني المستمر الذي تتكرر فيه الأخطاء نفسها تحت شعارات دينية أو سياسية قومية أو بيروقراطية.
واشتغل المخرج في "أغورا" على مسألة الذاكرة الجماعية في المجتمع التونسي وحتى العربي حيث لا تزال هذه المجتمعات تعاني من آثار العنف السياسي والقمع والانتهاكات والإفلات من العقاب. وتمثل الذاكرة الجماعية تهديدا حقيقيا للسلطة.
ويفضح الفيلم آلية الإنكار والصمت والمضي قدما دون مساءلة أو عدالة، فالشخصيات العائدة من الموت في الفيلم هي جراح ما تزال مفتوحة، فهناك امرأة قضت أثناء محاولة هجرة غير نظامية وشخصية أخرى ضحية تفجير إرهابي وعامل مفقود في منجم، كلها شخصيات مستوحاة من حالات حقيقية لم تفتح ملفاتها. وقد كانت عودة هذه الشخصيات مروعة للناس لأن لا أحد منهم يريد مواجهة حقيقة موتها.
ويعالج علاء الدين سليم في أحد أقوى أبعاد الفيلم، العلاقة الملتبسة بين السلطة السياسية والدينية، حيث يظهر كيف تتآمر المؤسستان على طمس الحقيقة تحت ذريعة "المصلحة العامة" أو "الاستقرار".
ويظهر رجل الدين الذي جسده الممثل نعمان حمدة في الفيلم كشخص عاجز ومتواطئ، في حين تتصرف السلطة السياسية ككائن بيروقراطي أعمى لا يسعى لفهم ما يحدث بل لاحتوائه ثم دفنه مجددا.
وينتمي فيلم "أغورا" إلى نفس النسق الجمالي الذي صاغه علاء الدين سليم في أفلامه السابقة، لكنه بدا أكثر نضجا وأكثر تشظيا في الآن نفسه. وقد تميز الفيلم بحركة بطيئة للكاميرا ولقطات طويلة وجاء الحوار مقتصد والإيقاع أقرب إلى التأمل منه إلى التشويق.
لكن هذا البطء وظفه المخرج بإتقان ليجعل المتفرج يعيش حالات التوتر والغموض كما الشخصيات دون أن يمنحه لحظة ارتياح. وفي لحظات الجنون الإنساني، بدت الحيوانات (الكلبة والغراب) أكثر عقلانية من البشر.
واختار المخرج إنهاء فيلمه بمغادرة الكلبة والغراب نحو مكان آخر أكثر هدوءا حيث وضعت الكلبة جراءها، وكأن المخرج جعل من مغادرة هذين الحيوانين الشاهدين على عبث الإنسان وموته الرمزي، انسحابا للوعي وانسحابا للتاريخ من مكان لم يعد يستحق البقاء فيه، فهذه المدينة كرمز للدولة والمجتمع تتحول إلى فضاء مسموم لا يتيح الحياة لا للبشر ولا حتى للحيوانات الرمزية.
وحول المخرج في ختام الفيلم، الكلبة من مجرد شاهدة على الأحداث إلى أم أي أنها تنقل ما رأته إلى الجيل القادم وإن كان في مكان آخر. وهنا يكمن البعد الأخلاقي للفيلم والمتمثل في أن الذاكرة يجب أن تنقل حتى وإن لم تسمع وأن بعض الذاكرة قد تبحث عن مكان يمكن أن تنبت فيه دون أن تقتل.
وفي أغسطس/آب الماضي، فاز فيلم "أغورا" في عرضه العالمي الأول بجائزة "باردو فردي" (Pardo Verde) ضمن فعاليات الدورة 77 لمهرجان لوكارنو السينمائي.
وقررت لجنة تحكيم المسابقة الدولية بالإجماع أن تمنح فيلم "أغورا" هذه الجائزة لجرأته الفنية ونزاهته وتوهجه البصري ودعوته الشاعرية إلى العمل لتفادي المزيد من الآفات.