أمازون تحطم الفكرة التاريخية: من راقب الناس صار ثريا


ذكاء أمازون يكاد يستحوذ على أمزجتنا، إن لم يسيطر عليها أصلا، فخطط الشركة تذهب دائما باتجاه الاقتراب من سيكولوجية البشر إلى درجة تلاصق فيها تحركاتنا ورغباتنا.
أمازون مثل فيسبوك تسيء استخدام قوتها الاحتكارية، لكن بيزوس يدافع عن استراتيجية شركته باعتبارها "دولاب الموازنة"

أشعر أن شركة أمازون أذكى من جميع الإمبراطوريات التكنولوجية التي تسيّر العالم أكثر مما تسيره أنظمة الحكم السياسية، أذكى من فيسبوك وغوغل، أذكى من كل أنظمة المخابرات وهي تضع الخطط الاستباقية لصدّ المخاطر الأمنية.

بالطبع يمكن أن نعزو ذلك إلى ذكاء الرئيس التنفيذي لشركة أمازون جيف بيزوس، وإلّا لما وصل إلى هذه الدرجة من الثراء كأغنى رجل في العالم! بالمناسبة بدأ يقترب من مقدار ثروته رجل الأعمال التكنولوجية، إيلون ماسك عندما بلغت ثروته الأسبوع الماضي 128 مليار دولار.

في يوم ما قال بيزوس إنه قاد شركة ناشئة مبتكرة، وحولها إلى إمبراطورية لا يمكن اختراقها! كانت تلك الكلمات آنذاك رسالة قوة رقمية للحكومات، وما علينا نحن المستخدمون إلا تأمّل دلالتها.

الذكاء يصنع الثروة، وهذا لا يمنع من وجود أغنياء أغبياء. لكن ذكاء أمازون يكاد يستحوذ على أمزجتنا، إن لم يسيطر عليها أصلا، فخطط الشركة تذهب دائما باتجاه الاقتراب من سيكولوجية البشر إلى درجة تلاصق فيها تحركاتنا ورغباتنا وماذا نشتري يوميا، لتحدد لاحقا ما نحتاج إليه وتعرضه علينا في رسائل براقة مغرية مقابل ثمن. الأكثر من ذلك أننا مرتبطون بها رقميا ويستحيل علينا التخلي عن خدماتها.

أمازون بمثابة حديقة خلفية لملايين المواقع باستضافتها 23 مليون موقع، لو نقاطع خدمتها نجد أنفسنا نقاطع كل هذه المواقع. كل ذلك دفع معدّو تقرير لمجلس النواب الأميركي إلى استبعاد أن تشكل أيّ شركة تهديدا لهيمنة أمازون في المستقبل القريب أو البعيد.

أمازون في حقيقة الأمر تراقبنا بطريقة أورويولية تفوق خيال جورج أورويل. لكن المهمة التي وجد بيزوس نفسه فيها لا تشبه ما قام به الأخ الأكبر في رواية “1984”، لم تكن مهمة وضيعة وقاهرة وفق الحكمة التاريخية؛ من راقب الناس مات همّا، فالرجل يزداد غنى وشركته توثق أمزجتنا، بينما ننصاع لها بكل سرور ونمنحها بياناتنا الشخصية بأريحية وقبول مستمر.

بيد أن تريستان هاريس المؤسس المشارك لمركز التكنولوجيا الإنسانية، ينبهنا إلى أنه قبل أن تتغلب التكنولوجيا على نقاط القوة البشرية فإنها ستطغى على نقاط الضعف البشرية. وهكذا تراقب الخوارزميات المتطورة أين تكمن نقاط ضعفنا العاطفي وتستغلها من أجل الربح بطرق خبيثة.

ولأنها لا تتوقف عن الاستفادة من احتياجاتنا، استثمرت شركة أمازون ركود العالم بعد تفشي فايروس كورونا، وصنعت بنك أدوية لتزيد من استحواذها على شبكة الاستهلاك. أمازون لا تتوقف عن الانتقال إلى أسواق أكبر تلبي حاجة المستهلكين وقبل ذلك تزيد من سطوتها ورصيدها.

إعلان أمازون الأخير عن افتتاح صيدلية رقمية أدى إلى انهيار أسهم الصيدليات الكبرى، وزاد من أرباح أمازون بينما توقفت عجلة اقتصاد العالم في كساد غير مسبوق تحت وطأة فايروس كورونا المستجد.

لا ينبغي أن يكون ذلك مفاجئا نظرا لاتساع حجم البيانات الشخصية التي تستوعبها سيرفرات أمازون. يمكن رؤية مثال آخر على استيلاء هذه الشركة على رغباتنا وعرض تلبيتها بطريقة مثيرة عندما تطبق خدمتها الجديدة خلال أسابيع باستخدام طائرات مسيّرة لإيصال الطلبات إلى المنازل. وقبلها أعلنت عن طائرة صغيرة بقدر كف اليد تحلق في أجواء البيت وتصوّر كل شيء، وتنقله على هاتف صاحب المنزل أينما وجد.

وظيفة الطائرة أمنية للمراقبة عندما لا يكون أصحاب المنزل في داخله، يكفي لأميركي مثلا يقضي إجازته في منتجعات اليونان أن يراقب عبر هاتفه أجواء منزله في تكساس من المطبخ حتى غرف النوم عبر هذه الطائرة المتصلة بالإنترنت.

في حقيقة الأمر، إن الأميركي مثل أي شخص آخر يفرط في خصوصيته أكثر ممّا يراقب اقتحام اللصوص لمنزله.

ذلك ما دفع المحلل التقني والت موسبرغ إلى وصف أي شخص يشتري هذه الطائرة بالمجنون! في بلد لا توجد فيه قوانين تنظم الخصوصية الرقمية.

ونبه موسبرغ الذي يعمل في شركة غير ربحية معنية بتحليل طبيعة المنتجات التكنولوجية وأهدافها، إلى أن شركة أمازون نفسها تمتلك تاريخا من المشاكل بما يتعلق بالخصوصية.

هذا يعني أن طائرة أمازون المتصلة بالإنترنت والتي تصوّر ما يجري في إرجاء البيت، حاصلة بامتياز على لقب “كابوس الخصوصية”!

سبق وأن اعتبر المخرج جيف أورلوفسكي  علاقتنا مع أمازون “صفقة الشيطان” عندما نتصوّر جميعا أن التكنولوجيا ستتفوّق على فكرة المجتمع السويّ، ونتحدث عن السهولة التي نقضي بها احتياجاتنا وإن كنا مستلقين على السرير. لكننا في الواقع نعيش بالفعل في نسخة من عالم جديد سبق وأن شخّصه الكاتب البريطاني ألدوس هكسلي في رواية “العالم الطريف”؛ عندما نستمر بتسلية أنفسنا فنحن ندفع أدمغتنا إلى الموت!

لفهم تحطم خصوصيات الأفراد بشكل أفضل، من المفيد إلقاء نظرة فاحصة على الكيفية التي أصبحت بها أمازون تمتلك تلك القوة التكنولوجية الجبارة للاستحواذ على حاجيات ورغبات وأمزجة الأشخاص.

فهي لا تكتفي بإيصال الملابس والأدوات والكمبيوترات المتقدمة للمنازل، بل تسوق خدمات المراقبة لأقسام الشرطة والجهات الأمنية.

كما أن ملايين الشركات تنصاع لشروط أمازون عندما تفرض عليها المرور عبر شبكتها للوصول إلى السوق والتحكم في وسائل توزيعها. وتعمل أمازون كبنية تحتية أساسية لمجموعة مذهلة من الشركات وهذا يمنحها رؤية غير عادية لأنشطة تلك الشركات وقدرة لا مثيل لها على التلاعب بالأسواق لصالحها.

أمازون مثل فيسبوك تسيء استخدام قوتها الاحتكارية، لكن بيزوس يدافع عن استراتيجية شركته باعتبارها “دولاب الموازنة” فالزخم في دوران حركتها يخلق آلية تدور بشكل أسرع وتحرك بقية الشركات! وهي فكرة براقة لكن لا تأثير لها في سوق تفتقر إلى المنافسة.