الراحل هيثم الزبيدي شاهد على العَصرِ الرابع في نقد الحاضر والسؤال عن المستقبل

معضلة الثقافة تبدأ في ترفها وتنتهي بعجز المثقف وهزيمته.

نحن أمام كتاب لا يبحث عن تعريف القارئ بهيثم الزبيدي الذي رحل عن عالما قبل أسابيع، بقدر ما يقربنا أكثر من طريقة تفكيره، لأنه من الصعوبة بمكان تعريف هيثم الزبيدي، ففي النهاية كل تعريف يصل متأخرا وعاجزا، فهيثم عقلية هندسية بحثية لكنه في الجانب الآخر مشاهد حذق للظواهر والمعضلات الأدبية والسياسية والمجتمعية عندما يصنع أفكاره من المزيج الصحيح من الأفكار والبلاغة معا، لكنه أيضا ناقد جريء ويمكن أن يكتب في التاريخ والموسيقى والنقد التشكيلي مثلما يكتب عن متراجحة رياضية وحساب كمية وتأثير الضغط في مبادلة حرارية أو وعاء عالي الضغط.

هذا الكتاب الاحتفالي الذي صدر قبل أيام بعنوان "شاهد على العَصرِ الرابع: في نقد الحاضر والسؤال عن المستقبل" عن منشورات "رامينا" بثلاثمئة صفحة، هو خلاصة لما أطلقه الزبيدي من تساؤلات مثيرة للفضول والشغف والاستياء والبحث وأكثر من ذلك في مقالات نشرها على مدار سنوات في مجلة "الجديد".

قيمة الكتاب تكمن في أنه سيبقي أفكار الزبيدي تحت مدونة التاريخ النقدي ويمكن العودة إليها مستقبلا ومقارنتها مع ما يطرأ على الثقافة والمجتمع. حيث يُقدم نقدًا موضوعيًا للواقع الثقافي العربي، مع التركيز على ضرورة تجديد أدوات المثقف وتفعيل دور الثقافة في مواجهة التحديات المعاصرة.

مقالات هذا الكتاب في أقسامه الستة دعوة صريحة لإعادة النظر في العلاقة بين الثقافة والمجتمع، وتأكيد على أن التغيير الحقيقي يبدأ من الوعي والمعرفة.

ولا يعزو الزبيدي تراجع الاهتمام بالثقافة إلى الأزمات الاقتصادية فحسب، بل يُرجعه أيضا إلى غياب الوعي بأهمية الثقافة في حياة الفرد والمجتمع. كما ينتقد النظرة السائدة التي تعتبر الثقافة ترفًا، مؤكدًا على أن المشكلة الأساسية تكمن في عدم الاهتمام وليس في نقص الإمكانيات المادية.

فأزمة المثقف العربي تتلخص في أنه وجد نفسه عاجزًا عن تفسير التحولات العميقة في المجتمعات العربية، خاصة مع صعود التيارات الدينية المتشددة، بعد أن وجد أدواته الفكرية التقليدية لم تعد كافية لفهم الواقع المعقد، الأمر الذي يدعو إلى ضرورة تطوير أدوات جديدة تُمكّن المثقف من التفاعل مع المتغيرات الراهنة.

متن كتاب الراحل الزبيدي "شاهد على العَصر الرابع" يشتمل على ستة أقسام. ففي تحولات المثقف والهوية أطلق الزبيدي الأسئلة الأكثر طلبا من دون أن يكون بمقدور المثقف العربي اقتراح الإجابة الشافية، وعندما يُشرّح ما يكتنف الثقافة والإعلام والفضاء الرقمي، فهو يتحدث عن نفسه بوصفه شاهدا يعيش أمراض هذا الوسط ويشعر بآلامه.

ويعود الزبيدي إلى مغتربه اللندني الذي قارب أربعة عقود في قسم الذاكرة الحية والعزلة، كما لا يمكن أن ينقذ نفسه من المجتمع والسياسة حيث هو جزء منهما. كما نتعرف على الجانب الشخصي من هيثم الزبيدي في القسم الخامس، بينما يعرض علينا في القسم الأخير مراجعاته الفكرية كمراقب وقبل كل شيء كقارئ، أكثر منه كمنظّر وناقد أدبي.

هزيمة المثقف

يطالب الزبيدي من دون أن يضع لنفسه وظيفة اعتبارية أو نقدية، أو أي مزاعم أخرى عن تخويل اجتماعي أو تنظيري، غير أن يكتفي بدور المتابع والقارئ، يطالب المثقف العربي بالاعتراف بأنه تعرض لهزيمة كبيرة خلال السنوات الماضية. كانت هزيمته منهجية بكل ما تعنيه الكلمة من دلالات.

مقالات هذا الكتاب في أقسامه الستة دعوة صريحة لإعادة النظر في العلاقة بين الثقافة والمجتمع، وتأكيد على أن التغيير الحقيقي يبدأ من الوعي والمعرفة

ويقول "المشاكل التي واجهها المثقف من الحكومات المتسلطة تبدو جروحا سطحية إزاء ما ناله من ضربات عميقة أمام الاجتياح الفكري الخطير الذي هز منطقتنا في المرحلة الراهنة".

هكذا عجزَ المثقف العربي، وفق الزبيدي، عن تقديم التفسيرات الفكرية أو حتى القدرة على وصف ما يحدث في المشهد الدامي.

تعثرت أدوات المثقف التي استخدمها لأكثر من خمسين عاما، منذ عهد الاستقلال. اكتشف أن هذه الأدوات، التي لم تكن من ابتكاره أصلا، كانت معدة لمناقشة وتحليل ظواهر فكرية وسياسية غربية ليبرالية، أو شرقية ماركسية، ولكنها بالتأكيد لا تصلح لتفسير التشظي الديني والسياسي الذي صار واقع حال المنطقة.

ومثلما فرضت السياسة واقع "عصر ما قبل الدولة"، فإنها أيضا فرضت واقع "عصر ما قبل الثقافة العربية الحديثة". وهكذا يصل الزبيدي إلى وصف المشهد العربي اليوم بمشهد حرب أهلية – كونية في آن.

على مستوى آخر لم يتوقف الراحل هيثم الزبيدي عن المناداة بالحاجة الماسة إلى المثقف "الجديد" المستنير. ويقدم تعريفا جوهريا لهذا المثقف كي يصنع أدواته ويطورها بنفسه في محاولة تفسير نكبات المنطقة، ويجهد في استخدامها لبناء ثقافة وفكر جديدين.

ويكتب "استعارة أدوات الآخرين صنعت غربة المثقف عن الناس، وما قادت إلا إلى ابتعاد المثقف القديم عن الواقع وابتعاد الناس عنه. أتى 'السذج' وحلوا محله".

لكنه لا يكتفي بكل ذلك النقد الجوهري عندما يقترح علينا الوصايا العشر للمثقف العربي، فالمثقف والمفكر لا يتطوران لأسباب "تسويقية" بل يجب أن تكون هذه الأسباب حقيقية. هناك الكثير من الأدوات المعرفية المتاحة مما يؤهل لقيام ثورة فكرية وثقافية في مجتمعاتنا تُبنى على الأسباب الحقيقية. ويعبر الراحل الزبيدي عن استغرابه من عجزنا مرات ومرات عن التقاطها. ويقول بنوع من "التشاؤل": ربما لم يحن الوقت بعد!

الاغتراب الأدبي

عندما يصل إلى الكاتب المغترب وهو جزء منه يشكك إن كان بوسعنا الاستمرار في استخدام مصطلح "الاغتراب الأدبي".

ويبرر ذلك بتجربته الحياتية والثقافية في الاغتراب التي مرت عليها أربعة عقود، حيث يستطيع أن يدّعي أن الأدب في الغربة كائن غير موجود.

الزبيدي ينتقد النظرة التي تعتبر الثقافة ترفًا، لأن المشكلة الأساسية تكمن في عدم الاهتمام وليس في نقص الإمكانيات المادية

ويقول "هذا لا يعني أني خبير بالإنتاج الأدبي سواء المستوطن أو المهاجر. ولكن عندما تمر كل هذه العقود من دون أن تستوقفك الظواهر، فيصير من حقك أن تتساءل أين هذا الاغتراب الأدبي".

أين المشكلة إذن؟ يتساءل الزبيدي: كل عناصر الأدب موجودة. هل يحصل أدبنا على باسبورت بريطاني أو فرنسي ليصبح مغتربا مثل أصحابه؟

المشكلة أن أصحاب هذا الأدب ليسوا مغتربين. هم منزاحون جغرافيا لأسباب شخصية وسياسية ومادية. يقرأون بالعربية ويشاهدون الفضائيات العربية ومؤخرا صاروا يغردون على المنصات الاجتماعية بالعربية عن قضايا عربية، وينشرون بوستات بالعربية عن هموم وقضايا أوطانهم الأصلية.

ويفسر ذلك بصراحة مخجلة بقوله "كثير من الأدباء والمثقفين لم يحاولوا حتى معرفة -ولا أقول إتقان- اللغة في البلد الذي يقيمون فيه. في كيس مفرداتهم 500 أو 1000 كلمة تساعدهم في التسوّق وزيارة الطبيب. غير هذا هم متشرنقون إما في مجاميعهم في التسعينات ومطلع الألفية، أو في الشبكات الاجتماعية بعد ازدهار عصر الكمبيوترات اللوحية والهواتف الذكية".

يضع الزبيدي المثقف المغترب أمام اختبار في غاية السهولة والواقعية بالقول: جرّب أن تجري محادثة مع مثقف عربي باللغة الإنكليزية مثلا في لندن. حتى لو كان يعيش في المدينة لسنوات طويلة، سيصدمك بضحالة لغته. سيأتيك بين حين وآخر يتحدث عن أديب غربي سمع عنه. ستنصت، ثم اتركه شهرا أو شهرين واسأله عنه. في الغالب لا يتذكر اسمه ولا موضوعه. لن يتذكر -أو لم يعرف أبدا- اسم وزير خارجية بريطانيا.

وإذا كان الإعلام هو الجزء الحيوي من الثقافة سواء ما كان منها عاليا أو واطئا وفق التصنيف الإنجليزي للثقافة، فإن الزبيدي كان مشغولا بالإعلام أكثر بكثير من الثقافة نفسها، ويقف حائرا أمام الثقافة التلفزيونية تحديدا، فثمة موقف عدائي متأصل لدى المثقفين ومنهم الأدباء من هذه الثقافة، لا ينكرون انتشارها وشعبيتها ولكنهم لا يحبونها، ومع أن الزبيدي يعزو ذلك إلى أسباب نفسية وتاريخية وعملية، إلا أن التجربة علمتنا أن "الأديب العربي" وهو يمارس دور الضحية باطني عندما يرفض علنا ما يتوق ويذل نفسه عليه باطنا!

تكنولوجيا متقدمة في أيدٍ متخلفة

يقترب أكثر مؤلف هذا الكتاب الذي صدر بعد أسابيع من رحيله الموجع، من المنصات الاجتماعية ويرفض القول بوجود مرشد أعلى في صفحات فيسبوك، ولا زعيم تقف الدنيا عنده بكل وقار وإجلال، ولا رئيس للمكتب السياسي لحزب المتجمعين من أجل السعادة أو الغضب أو حقوق النحل. الكل سواسية كأسنان المشط.

الراحل هيثم الزبيدي لا يعزو تراجع الاهتمام بالثقافة إلى الأزمات الاقتصادية فحسب، بل يرجعه أيضا إلى غياب الوعي بأهمية الثقافة في حياة الفرد والمجتمع

وفي عقول سطحية لا تستطيع التركيز في عصر فيسبوك، يرى أن الكثير منّا لا يستطيعون التركيز على الأفكار كما كنّا نفعل قبل عشرة أعوام أو عشرين عاما. ثمة تشويش كبير يحيط بالمجال الذهني للفرد اليوم يمنعه من التأمل في الأشياء. وفرة المعلومات وسرعة تواترها تمنعان التركيز على معانيها. ثمة تشبّع حقيقي يجعل من الطبيعي أن يزيح أحدنا ما في ذهنه أو جزءا منه، ربما كل ساعة أو ساعتين، ليفسح مجالا للقادم الوفير والمتجدد.

ويعزو الفوضى الفكرية والنفسية التي تعيشها شعوب الأرض اليوم، وليست شعوبنا فقط، إلى القفز بين أطراف معادلة مكسورة من دون تريّث. واختلاط أطرافها هو ما يعرقل الوصول إلى الاستنتاجات الصحيحة.

ويكتب بتشخيص جريء "كل أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية والفضائيات في العالم لن تستطيع تغيير قدرة وصول العقل السطحي إلى فهم صحيح طالما بقيت المقاربة قاصرة".

وفي هذا القسم أيضا يضع هيثم الزبيدي التشخيص الأروع عندما يقارب التكنولوجيا المتقدمة وهي تقع في أيد متخلفة وتخلق وهما كبيرا بالتقدم. يذهب البعض بعيدا إلى درجة المساواة بين التكنولوجيا والعلم. تجعل هذه المساواة الوهم حقيقة وتفترض أن توفر التقنيات في مجتمع هو وصفة للتطور والرقي.

ويقول إن قراءة خاطئة من هذا النوع تجعل من سائق السيارة أستاذا في الهندسة الميكانيكية فقط لأنه يستطيع التعاطي مع تكنولوجيا قيادة السيارات. كلنا يعلم أن هذا ليس صحيحا.

فالتكنولوجيا ليست وعيا، بل أداة. حاجتنا إلى الوعي، وفق الزبيدي، أكبر من حاجتنا إلى التكنولوجيا. الوعي هو ما يعيد الغرائز إلى قفصها. الشعوب الواعية تتعايش مع ذاتها قبل التكنولوجيا وبعدها.

الكاتب الواعي يؤثر إيجابيا في المجتمع حتى لو تمت طباعة صفحاته على ألواح الحجر أو الرصاص. الكاتب الخبيث سيجد في التقنيات الحديثة ضالته. السياسي الوطني يؤثر بالقليل من الناس ليخلق منهم كتلة حرجة تنطلق منها الإصلاحات نحو بقية الناس. لن يحتاج إلى الفتنة التي يبثها الوسواس الخناس عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

حتى يصل إلى أن وهْم التكنولوجيا كحل لمشاكلنا وهْم خطير لا بد من مواجهته مثل أي وباء يمكن أن يقضي على الناس. خدعة التكنولوجيا في أيدٍ متخلفة ما عادت تنطلي علينا.

أما في مراجعاته النقدية فيطالب هيثم الزبيدي النقد بألا يكون موضوعيا! فالقول بأن النقد يجب أن يكون موضوعيا، لا مجال له هنا. النقد غير الموضوعي ليس نقدا بالأصل، بل هو إما تحامل أو دعاية. الأهم أن يكون النقد علميا.

الزبيدي يعزو الفوضى الفكرية والنفسية التي تعيشها شعوب الأرض اليوم، وليست شعوبنا فقط، إلى القفز بين أطراف معادلة مكسورة من دون تريّث. واختلاط أطرافها هو ما يعرقل الوصول إلى الاستنتاجات الصحيحة

هذا مطبّ خطير. مبعث الخطر فيه أنه تسبب في قراءات نقدية غير موضوعية بتاتا قدمت فقط لأن قائلها إما متخصص في حقل علمي أو أنه قارئ غير متخصص قلب بعض الصفحات العلمية واستثارته بعض المفردات والمصطلحات فسعى إلى "تلوين" نصه النقدي بها.

في كل ذلك فإن هيثم الزبيدي ليس متحمسا للأدب، ربما تفكيره العلمي جعله يفضل الجدية البحثية على متعة الخيال الشعري، لكنه عندما يتطلب الأمر فإنه يكتب بثقة مثيرة لفضول القارئ كما يظهر في هذا الكتاب.

تأمل ما كتبه مثلا عن نزار قباني فدواوين هذا الشاعر الجميلة هي التسجيل الكامل لتاريخ ما لم يحدث في العالم العربي. هي تسجيل لخطورة الحلم ولنتائج ضياع الأمل. يا لها من قصائد جميلة تصف الكارثة. شاعر ناجح رحل حاملا معه الفشل إلى القبر.

ومع كل وجبة شعرية كان نزار يقدمها، كانت شهية المتلقين تزداد. صار جزءا من ظاهرة النهضة التي طبعت الخمسينات والستينات من القرن العشرين؛ كلام بسيط بلا عقد ولا تكلّف، كلام يتحدى ويستثير. كان نزار يريد أن يصبح شعره وصفة اجتماعية للتحرر والخروج من الظلم الاجتماعي للمرأة. كانت مراهنته كبيرة: نصف المجتمع على الأقل، ممثلا بالنساء، وجزء لا يستهان به من الرجال. لا بد أن زمنا مرّ على نزار، المصلح الاجتماعي، وهو يرى أن أحلامه في طريقها إلى التحقق.

لكن قدر الشرق الأوسط كان له ولنا بالمرصاد؛ تحطم كل شيء. شعر الأمل صار الآن شعر الكوارث.

حتى يصل الزبيدي إلى خلاصة تلخص حياة نزار قباني: صعود ونكبات واضمحلال جيل الأمل في الدولة العربية الحديثة. أما عندما يفتح المؤلف الراحل نافذة الرواية فيرحب بنا في عالمها الممل!

ويكتب "ثمة شيء لا يغري بمطالعة رواية عربية معاصرة، أو التوقف عن مطالعتها بعد عدد من الصفحات. من الصعب توصيف هذا الشيء، ولكن يمكن القول إن الكثير من الروايات العربية المعاصرة تبدو وكأنها في وادٍ آخر. الطريف في هذه المفارقة هو أنك ما تقرأ رواية إلا لكي تذهب بك إلى وادٍ آخر، ولكنه وادٍ غير الوادي الذي تأخذك إليه روايتنا العربية المعاصرة".

ويتساءل أين العيب إذن في الأعمال الروائية العربية المعاصرة بما يجعلها منفّرة أو على الأقل غير جذّابة؟

ويقترح الإجابة بقوله: تبدو الرواية العربية المعاصرة أسيرة قضايا محددة. يبدو عالمها وكأن عقارب الساعة فيه توقفت عند زمن معين، زمن الوعظ والإلقاء أكثر منه زمن الوصف والغور في الشخصيات. الغاية من السرد تبدو وكأنها بعيدة عن بناء مشهدية الرواية وشخصياتها، بل هي تقارب موقفا نفسيا للكاتب الروائي عادة ما يصبه في عدد قليل من الصفحات ويترك الباقي وكأنه تكرار أو حشو لا معنى له.