أميركا في محاولة لإطالة الموت السريري لمؤسسات الأمم المتحدة

قبل السؤال عن الإصلاح ينبغي السؤال عن كيف وصلت الأمم المتحدة إلى وضعها اليوم.

لم تأت كلمات رؤساء وزعماء دول العالم على هامش أعمال الدورة 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة بجديد، فالحضور في هذا المحفل الدولي لا يعدو كونه مجرد تقليد سنوي ممل لا يجد البعض فيه مجالا سوى للتذكير بمواقفهم ازاء القضايا الدولية والإقليمية أو ربما قد يغتنمه البعض الآخر لتمرير رسائل سياسية. وقد تجد من الحاضرين من شد الرحال الى نيويورك أملا في اضفاء بعض من الزخم لجولاته الخارجية البعيدة في الأصل عن قضايا العالم ومشاكله المعقدة والتي لا يمكن أساسا أن تصلحها جمعية أفسدها الدهر شكلا ومضمونا.

جديد هذه الدورة كان في اعلان الرئيس الأميركي جو بايدن عن نضج الخطة الأميركية الرامية لتوسيع عضوية مجلس الأمن بخمس أعضاء جدد سعيا منها إلى استعادة الثقة في المؤسسة العالمية عبر الاعتراف بخريطة القوة حول العالم. لكن ما الذي ستقدمه هذه الاضافة اذا كانت مبنية في الاساس على عضوية منزوعة القوة ونقصد هنا حق النقض؟ وهل باستطاعة خطة التوسيع أن تقدم أو تؤخر في قرارات مجلس الأمن؟ وهل احتاجت الولايات المتحدة لنفوذ الوافدين الجدد حتى تمارس حصارا على الصين وروسيا؟ أم انها المرحلة الأولى من خطة ستمتد بدءا بمناقشة صيغة جديدة للتصويت خلافا لما يعتمده مجلس الأمن في اعتماد القرارات وابطال مفعولها عن طريق حق النقض، الى أن تصل لمراجعة النصوص المتعلقة بتعليق عضوية الأعضاء الدائمين من على النحو المنصوص عليه في الفصل الـ18، والذي يتطلب موافقة ثلثي الدول الأعضاء في مجلس الأمن؟

تدرك الادارة الأميركية حجم التحديات التي يشكلها عالم متعدد الاقطاب في وجه هيمنتها الاقتصادية والسياسية على النظام العالمي ومن منطلق مخاوفها تحاول أن تظهر تجاوبا مع الدعوات المنادية باصلاح المؤسسات الأممية بل أن تقود هذا الاصلاح بنفسها في حدود ما يسمح لها بضمان البقاء مهيمنة على المشهد ككل. لكن هذا الاصلاح الذي يأتي على مقاسها لا يمكن أن يكون سوى محاولة لوضع مساحيق التجميل في وجه نظام عالمي غابت عنه مبادئ العدالة والمساواة. هذه الاصلاحات التي فرضها الصراع بشكله الجديد وحجمه الكبير مع روسيا والصين، لا بد لها أن تقدم اغراءات داخل وخارج دائرة نفوذهما في الدول النامية كشكل من أشكال قطع الطريق أمامهما في مساعي تشكيل عالم متعدد الاقطاب.

وحتى وان سلمنا بوجود نوايا أميركية سليمة وتذهب في الاتجاه الذي يعيد بعضا من مصداقية هذه المؤسسات، أليست ادارة بايدن هي التي تحتاج بالاساس الى خطة لاصلاح الاختلالات وازدواجية المعايير التي ميزت وتميز السياسات الخارجية الأميركية ازاء ما ما يجري في العالم؟ ألا تحتاج الادارة الأميركية لأن تكون اكثر اعتدالا وأكثر اندفاعا في البحث عن الحلول بدل تعميق المشاكل؟ ربما كان من الواجب أيضا تذكير بايدن بأن بلاده كانت وراء اغلب مشكلات العالم تقريبا، وحتى عندما لا تنسب لها المسؤولية في احداث المشكلات والأزمات فستجدها دائما وراء تعطيل حلها.

في عام 2003 عندما تحركت الولايات المتحدة لغزو العراق كانت موافقة الامم المتحدة آخر شيء فكر فيه بوش الابن قبل أن يعلن بدأ الحرب، لم تتطلب العملية سوى بضعة أوراق استخباراتية مع صور أقمار صناعية وقليل من مكونات الجمرة الخبيثة التي حملها كولن باول الى مجلس الأمن لتضع الولايات المتحدة العالم أمام الأمر الواقع ولتباشر عمليتها العسكرية التي تستهدف اسقاط نظام صدام حسين والعراق معه ثم المنطقة برمتها في فوضى الإرهاب. هي واحدة من أقوى الأمثلة التي تذكرنا كيف داست أميركا على قرارات الأمم المتحدة وطوعت جميع مؤسساتها بما فيها مجلس الأمن لتنفيذ رؤيتها الخاصة في محاربة الارهاب ونشر قيم الديمقراطية حسب المفهوم الخاص بعائلة بوش.

قد لا تتحمل الولايات المتحدة المسؤولية الكاملة في اضعاف المؤسسات الأممية لكنها عرَضتها لاختبارات عديدة أفرغتها من محتواها وجعلت منها مجرد أداة وظيفية تمارس سلطة قانون يحدده الأقوياء على الضعفاء. وهي اليوم تحاول ادخال تعديلات على صرح بني على قاعدة هشة بمواثيق لم يعد بالإمكان لها أن تفي بالغرض الذي وضعت من أجله في ظل وجود ازدواجية صارخة في المعايير، ناهيك عن الثغرات الموجودة في ميثاقها والتي تسمح للأقوياء بتنفيذ اجنداتهم اما لحماية حلفائهم أو اضعاف خصومهم. لذلك فان الحديث عن محاولة احياء دور أجهزتها ومؤسساتها في ظل وجود نفس الأسباب التي أدت الى اجهاض دورها يعد كلاما فارغا وبدون مصداقية. في الواقع أوصلت الظروف والمتغيرات الجديدة التي افرزها صراع الأقطاب أجهزة الأمم المتحدة الى مرحلة شبيهة بالموت السريري لا تنفع فيها الدعوات والأمال والخطابات الرنانة بإعادة أدوارها الوظيفية بقدر ما ينفع التفكير في التوجه بصدق نحو بناء نظام عالمي جديد يحمي حقوق الجميع بعيدا عن الهيمنة والتفرد، تتمتع فيه الأجهزة الوظيفية باستقلالية تامة يكفلها ميثاق جديد يعالج جميع الثغرات التي أدت الى الغاء فاعلية العمل الأممي في خدمة حل الأزمات وتجنب الحروب والنزاعات.