أم كلثوم .. كبرياء مهذب

ماذا لو سمع ابن الرومي صوت صاحبة العصمة "كوكب الشرق" ماذا كان سيقول؟
ما يدعو إلى الإعجاب في السيدة فضلا عن صوتها الخالد هو شخصيتها
صوت السيدة سيبقى مشرئبا متطامنا إلى أذن الزمان يردد عليه آيات الفن والفكر والشعور

كان لقائي بصوت السيدة أم كلثوم في باريس في صيف عام 1990 دلفت إلى جناح الموسيقى في المركز الثقافي جورج بومبيدو في باريس ورحت أتصفح أسطوانات الفونغراف في قسم الموسيقى الشرقية. انتبهت لواحدة لأم كلثوم عليها صورتها بنظارتها السوداء وكبريائها المهذب وقد تدلى قرطان من أذنيها يكشفان عن ذوق فني وإحساس بالجمال وايتسامة في خفر. أعربت للقائمة على ذلك القسم عن رغبتي في سماع أغنية لأم كلثوم واخترت واحدة عنوانها "ودارت الأيام" وجهتني إلى مخدع وهي تشيعني بابتسامة رقيقة، بدأت في الاستماع لكلمات مأمون الشناوي شقيق الشاعر كامل الشناوي الذي مات في ميعة العمر وهو صاحب القصيدة الحزينة التي قالها في عيد ميلاده ومطلعها:
عُدت يا يوم مولدي** عُدت يا أيها الشقي                                        
لكن مأمون ربما ابتسم له الحظ فلم يكن متشائما مثل أخيه كامل، فأبدع هذه الكلمات الجميلة التي لحنها الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب. حين بدأت في الاستماع أخذني الصوت من أقطار نفسي وألقى بي في دنيا عجيبة صوت يتفوق على الآلات الموسيقية  ولا يستر عواره بها، لكأنه قاطرة والآلات عربة من ورائه تأتمر بأمره ذكرني بقول ابن الرومي في وحيد المغنية:
تتغنّى، كأنها لا تغنّى ** من سكونِ الأوصالِ وهي تُجيد
وقلت ماذا لو سمع ابن الرومي صوت صاحبة العصمة "كوكب الشرق" ماذا كان سيقول؟
وامتد بي الخيال إلى تراثنا العربي عن المغنيين في الحجاز والعراق والذين احتفظت لنا كتب الأدب بأسمائهم، ابن سريج، إسحاق الموصلي، حنين الحيري، زرياب، ابن عائشة، ومعبد المغني كما هي مذكورة في تلك الكتب. وأسفت لأننا عرفناهم وعرفنا القصائد التي غنوها والتي كانت لفحول الشعراء وغنوها في بلاط الخلفاء عادة ولم نسمع أصواتهم لكأنه خيال بلا جسم وشذا بلا أكمام وضياء بلا هالة ومعنى بلا كلمات وميناء بلا عقارب.
انتشيت غاية الانتشاء بالأغنية صوتا وكلمات، وصار دأبي كلما ضاق بي الحال وضقت ذرعا بباريس في كسلها الصيفي حثثت الخطى إلى مركز بومبيدو واستمعت إلى أغنية أخرى. ومن ذلك اليوم وأنا مدمن على صوت السيدة أم كلثوم حتى أن ابنتي مريم تناديني أحيانا بأبي المكلثم.
العظماء عادة ينبغون في بيئة بسيطة وشعبية، ويعانون تقتير الدنيا عليهم لكن الموهبة لا تقتلها الحياة العسيرة بل تشحذها حتى يقيض الله لتلك الموهبة شخصا آخر يكون بداية التألق والمشوار، فطه حسين قيض الله له أحمد لطفي السيد، ومحمد عبدالوهاب أمير الشعراء شوقي، وفيروز الإخوة الرحباني، وقيض الله لأم كلثوم شخصين متألقين فنا وثقافة هما أبو العلا محمد في المبتدأ الذي اكتشف موهبتها فعمل على تعريف الأوساط الفنية القاهرية بها، بعد أن كانت منشدة مع والدها وأخيها في الموالد، ثم تعهد فنها الراقي رجل الاقتصاد طلعت حرب وتهيأت لها كوكبة من الشعراء الراقين كأحمد رامي وأحمد شوقي وإبراهيم ناجي وعبدالله الفيصل وحافظ إبراهيم، فاجتمع الصوت العذب الخالد بالكلام الرائق الحلو الخالد، وأتاحت هي لشعراء بالبروز فإبراهيم ناجي ما كان ليشتهر لولا قصيدة "الأطلال"، فشعراء "أبولو" كثر ومأمون الشناوي كذلك، لكن قصتها مع أحمد رامي خالدة لقد شكلا ثنائيا عجيبا فلا تذكر أم كلثوم بدون أحمد رامي "شاعر الشباب" ولا يذكر رامي بدون أم كلثوم، ثم كوكبة من الصحفيين اللامعين من أمثال الراحل مصطفى أمين، وأدباء كبار مدمنون على سماع غنائها أبرزهم العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهم، كما عرفت الساحة الفنية تألق ملحنين كبار عملوا مع أم كلثوم أبرزهم محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي الذي تفتقت عبقريته مع السيدة، ومحمد عبدالوهاب وبليغ حمدي وانتهاء بسيد مكاوي.

ما يدعو إلى الإعجاب في السيدة فضلا عن صوتها الخالد هو شخصيتها، فقد كانت ذواقة للشعر وللأدب العربي القديم تقرأ في أمهات كتب الأدب ودواوين فحول الشعراء وتنتقي ما يعجبها، هكذا غنت "أراك عصي الدمع لأبي فراس"، و"ولد الهدى" لشوقي، و"رباعيات الخيام" بتعريب رامي وغيرها، ثم ترفعها وتعففها ومحافظتها على أداء الصلاة وقراءة القرآن ومشاركتها في أعمال البر فلم تكن تقبل بالغناء في مكان تدور فيه الخمر أبدا. ولم تكن تقبل بحذف بيت نال إعجابها، ومن ذلك لما غنت قصيدة شوقي الشهيرة في مدح النبي عليه السلام:
ولد الهدى فالكائنات ضياء ** وفم الزمان تبسم وثناء
طلب القصر الملكي إسقاط البيتين اللذين يقول فيهما شوقي:
الإشتراكيون أنت إمامهم ** لولا دعاوى القوم والغلواءُ
داويت متئدا وداووا طفرة ** وأخف من بعض الدواء الداءُ
ورأى في ذلك دعوة صريحة إلى الاشتراكية في مصر الملكية لكنها رفضت وأصرت على البيتين وانتصرت وغنتهما  مع الأبيات الأخرى.
لكنها في المواطن التي تغني لفحول الشعراء وترى في الشعر ما يخل بالذوق والخلق والتربية الدينية السليمة تعدل بما يتفق مع شخصيتها وتربيتها وخلقها ورسالتها ومن ذلك لما غنت "رباعيات الخيام" بتعريب أحمد رامي حيث يقول الخيام:
سمعت صوتا هاتفا في السحر ** نادى من الحان غفاة البشــر
هبوا املأوا كأس الطلى قبل أن ** تفعم كأس العمر كف القـدر
وواضح دعوة الخيام إلى الخمر الصريحة من خلال كلمتي "الحان "و"الطلى" لكن أم كلثوم أبدلت الحان بكلمة "الغيب" وكلمة الطلى بـ "المنى" ووجدت حلا لما يخالف ذوقها ورسالتها الفنية.
ستمضي أجيال وأجيال وتطويهم الأحقاب جميعا لكن صوت السيدة سيبقى مشرئبا متطامنا إلى أذن الزمان يردد عليه آيات الفن والفكر والشعور وستمضي هذه الجعجعة العصرية إلى هوة النسيان بالرغم من توفر وسائل التسجيل في معظمها إلا النادر النادر،  لكن صوت السيدة سيظل خالدا كأبي الهول ونهر النيل يجمع القلوب والآذان على الصوت الخالد والكلام الراقي الشاعري الذي خلدته كتب الأدب ورددته الأجيال.