أم كلثوم وأخوان السودان

عروبة أم كلثوم كانت أصلا من أصول شخصيتها كما كانت مصريتها جذرا بعيد الغور في ثقافتها وفنها ووجودها.
أم كلثوم وجه عربي مشرق مثله مثل البارودي وشوقي في بعث الشعر العربي ونهضته باستلهام نماذجه العليا في عصور ازدهاره ورقيه
ومصر الرياض وسودانها ** عيون الرياض وخلجانها

انت عروبة أم كلثوم أصلا من أصول شخصيتها كما كانت مصريتها جذرا بعيد الغور في ثقافتها وفنها ووجودها منذ أن تكحلت عيناها بتراب مصر حتى رحيلها في الثالث من فبراير/شباط العام ١٩٧٥.
هي مصرية السمت ومصرية الهوى ومصرية الرؤية وهي عربية اللغة وعربية الدين وعربية القدوة والمثل الأعلى. فمثل الإنسان الكامل لديها هو محمد خاتم المرسلين وهي على صواب، ومثل المرأة لديها خديجة زوج الرسول رضي الله عنها. أول امرأة آمنت به وصدقته ورعته وحفظته وواسته وعطفت عليه وأحبته حبا لا مراء فيه ولا هوى ولا غرض. نعم المثلان: الرسول وزوجه، ونعم المقتدي بهما. 
أم كلثوم ابنة القرية المصرية في نهاية القرن التاسع عشر التي فتحت عينيها على حروف القرآن الكريم وكلماته وآياته فحفظتها وأتمت حفظها للقرآن مجودا وهي ابنة السنوات العشرة.
أم كلثوم المصرية التي تجذر في وعيها عشق العروبة، كان شاعرها الأقرب إلى وجدانها الشريف الرضي من عترة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكان مهيار الديلمي تلميذ الشريف وربيبه من أحب الشعراء إليها. وكان شوقي شاعرها المفضل الذي لم يفارق ديوانه وسادتها. 

omkalthoum
هذه ليلتي

ولم يكن غريبا أن يكون طه حسين أقرب الكتاب إلى ذوقها فقرأت له "الأيام" ورأت في كتاباته شعرا يفيض على جوانبها ولغة تعود بها إلى زمن جمال العربية وصفائها. وتزودت أم كلثوم بزاد الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني لما فيه من تجارب الغناء والمغنين وما له صلة بالشعر وطواعيته لفن الموسيقى والغناء. ومعروف أن كتاب الأغاني بأجزائه الكثيرة حسب كل طبعة من طبعاته يعد دستور الغناء العربي بأصواته ومقاماته التي أحصاها فارمر في كتابه عن المقامات العربية.
فأم كلثوم وجه عربي مشرق مثله مثل البارودي وشوقي في بعث الشعر العربي ونهضته باستلهام نماذجه العليا في عصور ازدهاره ورقيه، بعثت أم كلثوم فن الغناء العربي الرصين من مرقده وأعادت إليه عزته وبهاءه وجماله وجلاله حين قرنت الكلمة الشعرية الراقية بالنغمة المستقاة من وجدان الناس وحين خاطبت الوجدان الديني المشحون بعواطف الحب والشوق إلى الله ورسوله وجميع رسله وأهل الطريق القويم.
هذا الوجه وعى رسالته نحو وطنه الممتد في أرجاء المحيط العربي وجسد هذا الوعي حين دعا الداعي إلى توحيد الكلمة وتجميع الصفوف بعد وقوع كارثة النكسة. زارت أم كلثوم بلادا عربية كثيرة، ومن بين البلاد التي زارتها السودان في الخامس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول لعام ١٩٦٨. واستقبلها أهل السودان بالحب والشوق والدموع والقبلات وأمضت أم كلثوم بينهم ثمانية أيام لم تكن من الزمن وغنت أم كلثوم في حفلتين أغنية "الأطلال" وأغنية "هذه ليلتي" الأولى لناجي وموسيقى السنباطي والثانية لجورج جرداق وموسيقى عبدالوهاب.
غنت أم كلثوم كما لم تغن من قبل واستعادها الجمهور السوداني المتعطش للغناء الأصيل وبلغ به الطرب والشجن مبلغا فاق كل التوقعات. أحس هذا الجمهور أن مسرحا تغني فيه أم كلثوم هذا الغناء الأسطوري هو أرض مقدسة فصلى فيها وبكى وفرح وطرب وخشع وخف وزنه فطار في المكان وحلق في كل أجوائه.
السودان غنت له أم كلثوم من شعر شوقي:
ومصر الرياض وسودانها
عيون الرياض وخلجانها

في هذا الأفق العربي الاحتفالي هاجمت صحيفة" الميثاق" الناطقة باسم الإخوان غير المسلمين في السودان أم كلثوم وناصبتها العداء لأنها تصدر عن حس مصري قومي ممزوج بحس عربي وحدوي وترفع معا راية العروبة والإسلام والإخوان لا يؤمنون بالقومية المصرية، ولا يؤمنون بالعروبة، ولا يريدون من الإسلام إلا أن يكون خصيما للعروبة وللهوية الوطنية. هم يخشون من حضور أم كلثوم وقدرتها على حشد الجماهير بكل أطيافها في مسار الهوية القومية والعروبة.
لقد تلاشى الوطن عندهم في حفنة من تراب واختزلوا الإسلام في حلمهم العقائدي العقيم الذي يفرق بين مسلم ومسلم من جهة وبين المسلم وغير المسلم من جهة أخرى وبينهم وبين العالم كله. لقد عادوا كل الأصوات الغنائية الكبرى مثل عبدالوهاب وعبدالحليم وفريد في مصر، كما عادوا غيرهم في كل البلاد العربية وما دروا أنهم كرهوا الجميل والجمال، وأساءوا للدين قدر ما أساءوا إلى تاريخ العرب والمسلمين.