محمد الههياوي: شاعر الفكاهة والنقد الوطني في مصر الحديثة

الشاعر والناقد مصري البارز في مطلع القرن العشرين جمع بين الوطنية والفكاهة وسخّر قلمه للدفاع عن القضايا الاجتماعية والسياسية، خاصة خلال ثورة 1919.، ووجه عبر شخصيته الساخرة "إياه" نقدًا لاذعًا للنخب الحاكمة مستخدمًا الشعر الساخر كأداة للتنوير والمقاومة.

يُعد محمد الههياوي واحدًا من الأصوات الأدبية والوطنية البارزة في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، حيث برز كشاعر وصحفي وناقد اجتماعي وسياسي، استخدم قلمه كأداة للدفاع عن القضايا الوطنية والاجتماعية. اشتهر الههياوي بقصائده الفكاهية التي نشرها تحت الاسم المستعار "إياه" في مجلة الكشكول، حيث تناول بجرأة الأحداث السياسية والاجتماعية، منتقدًا السلطة والنخب السياسية بأسلوب ساخر ولاذع. من خلال كتاب "الأعمال الشعرية للشاعر محمد الههياوي.. من خطباء ثورة 1919 وكتابها"، الذي جمع ودُرس وتحقق بقلم د.نبيل بهجت، يمكننا استكشاف إبداع هذا الشاعر ودوره في تشكيل الوعي الوطني. في هذا الموضوع، سنستعرض حياة الههياوي، دوره الوطني، فكره الأدبي، وأهمية فكاهته في سياق مصر الحديثة، مع الاستعانة بإضافات من الكتاب لإثراء النص.

حياته ونشأته

وُلد محمد بن مصطفى الههياوي عام 1883 في مدينة ههيا بمحافظة الشرقية، مصر، ونشأ في بيئة أزهرية، حيث كان والده من كبار علماء الأزهر. تلقى تعليمه الأولي في الكُتّاب، حيث حفظ القرآن الكريم، ثم التحق بالمعهد الديني التابع للأزهر في مسقط رأسه، ومن بعده بمدرسة دار العلوم، حيث حصل على الشهادة العالمية عام 1907. هذه الخلفية التعليمية، التي جمعت بين الدراسة الدينية والأدبية، شكلت أساسًا متينًا لفكره وإبداعه، كما يوضح د.نبيل بهجت في مقدمته للكتاب الصادر أخيرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. ويشير إلى أن الههياوي تمرد على التقاليد الأزهرية مبكرًا، مفضلاً الانخراط في الحياة الأدبية والوطنية، مما عكس روحًا متمردة وطموحة.

احترف الههياوي الصحافة، فعمل محررًا في جريدة وادي النيل، وأسس جريدة المنبر عام 1906، كما تولى تحرير جرائد مثل الأمة، الأفكار، مصر الفتاة، البلاغ، السياسة، الأهرام، اللواء، الدستور، الجريدة، السيف، والكشكول. وتنوعت كتاباته بين السياسة، الأدب، الأديان، والفكاهة، مما جعله صوتًا مؤثرًا في الساحة الثقافية والسياسية. انتمى إلى الحزب الوطني، وكان من خطباء ثورة 1919، حيث ألهب حماس الجماهير بخطبه الثورية. توفي عام 1943 في القاهرة عن عمر 60 عامًا، تاركًا إرثًا أدبيًا ووطنيًا غنيًا، تم توثيقه ودراسته بعناية في هذا الكتاب.

الدور الوطني

نشأ الههياوي في بيئة ريفية، مما منحه رؤية واسعة لمعاناة الفلاحين والطبقات الشعبية، وهو ما انعكس في كتاباته التي تناولت قضايا العدالة الاجتماعية والدفاع عن حقوق العمال والموظفين. يوضح بهجت أن هذه النشأة ساهمت في اتساع رؤيته وقدرته على تصوير المعاناة الاجتماعية بدقة. كان دوره الوطني بارزًا خلال ثورة 1919، حيث شارك كخطيب ألهب حماس الجماهير في الإسكندرية. وثّق سيد علي محمد في مذكراته خطبة الههياوي في 17 مارس 1919، مشيرًا إلى أنها "أوقدت قلوب الطلبة نارًا" وحفزتهم على المطالبة بالاستقلال.

في كتابه مصر في ثلثي قرن بين الماضي والحاضر (1919)، قدم الههياوي نقدًا حادًا للاحتلال البريطاني، مفندًا مزاعمه حول إصلاحاته في مصر. أشار إلى تدهور الزراعة، الصناعة، التجارة، التعليم، والإدارة تحت الاحتلال، مستشهدًا بأرقام وتقارير تثبت تراجع هذه القطاعات مقارنة بعهد محمد علي. على سبيل المثال، أوضح كيف انخفضت إنتاجية الفدان الزراعي، وهُدمت مصانع السفن والذخائر، وتدهورت الصحة بسبب سوء الإدارة البريطانية، مستشهدًا بأزمة الكوليرا عام 1883. كما انتقد استهداف اللغة العربية وتقليص ميزانية التعليم، مؤكدًا أن "القضاء على لغة أمة قضاء على قوميتها". دعا إلى الاستقلال التام، مؤكدًا أن الأمة المصرية تمتلك القوة الروحية والعسكرية لتحقيق ذلك، وهو ما يبرزه بهجت كوثيقة ثورية عكست وعي الههياوي السياسي وانتماءه الوطني.

فكاهة الههياوي ودورها النقدي

اشتهر الههياوي بقصائده الفكاهية التي وقّعها باسم "إياه" في مجلة الكشكول بين عامي 1924 و1939، وقد تم جمع وتوثيق هذه القصائد في الكتاب. هذه القصائد تناولت الأحداث السياسية والاجتماعية، موجهة سهامها إلى الزعماء السياسيين، رؤساء الوزراء، والنخب الحاكمة. يشير بهجت إلى أن قصائد مثل "المحمل"، التي أنشدها تحية للمحمل أثناء مروره بشوارع القاهرة، و"المحادثات والنيل"، التي عاتب فيها على إهمال دعوته للمشاركة في المفاوضات السياسية، و"قصيدة العمدة"، التي سخر فيها من الفساد السياسي، كانت تعبيرًا عن قدرة الههياوي على استخدام الفكاهة كأداة نقدية.

تتميز فكاهة الههياوي بكونها نصحًا واعيًا يهدف إلى الإصلاح، وليست مجرد سخرية تهكمية. يوضح بهجت أن الههياوي وازن بين الجد والهزل، موظفًا الفكاهة لمواجهة الفساد والخيانة، وكشف المسكوت عنه في المجتمع. في قصيدة "النطق بعد طول السكوت"، يرفض الههياوي الحياد، معلنًا أن نصيحته تأتي في مواجهة الخيانة، وهو ما يعكس رؤيته للفكاهة كفعل إيجابي لتحرير المجتمع من القيود الاجتماعية والسياسية. ارتبطت فكاهته بالواقع السياسي، حيث تناول قضايا مثل دستور 1923، مفاوضات الاستقلال، ووحدة مصر والسودان، معبرًا عن رفضه لتصريح 28 فبراير 1922 والمفاوضات التي أدت إلى معاهدة 1936.

مفهوم الشعر

في كتابه الطبع والصنعة في الشعر، قدم الههياوي نظريته حول الشعر، مؤكدًا أن الشعر العربي يتجاوز الوظيفة الجمالية ليصبح أداة لبناء الوعي القومي والثوري. ويلفت بهجت إلى أن الههياوي رأى الشعر "صفوة الكلام لصفوة المعاني"، ويجب أن يكون مرتبطًا بحاجات المجتمع، موجهًا لتحريك الشعوب نحو الحرية والاستقلال. يقسم الههياوي الشعر إلى ثلاثة أنواع: شعر الفطرة (الأصيل)، شعر الصنعة (المتقن فنيًا)، وشعر الغفلة (السطحي الذي يفتقر إلى الجوهر). يفرق بين الطبع والصنعة، معتبرًا أن الشعر المطبوع ينبع من إحساس الشاعر الذاتي، بينما شعر الصنعة يعتمد على التوليد والزخرفة اللفظية، لكنه يرى أن الشعر الأمثل يجمع بين الطبع السليم والصنعة الموفقة.

يؤكد الههياوي، كما يبرز بهجت، أن الشعر يجب أن يتفاعل مع ثورات الشعوب، مستشهدًا بشعر طاغور وإقبال كأمثلة لشعر يبني العقل والوجدان الثوري. يرى أن الشعر "فن اقتضته الفطرة"، ووسيلة لصلاح الأمة والوطن، مما يجعله ركنًا أساسيًا في الأدب.

"الشاعر إياه"

اختيار الههياوي للاسم المستعار "إياه" كان استراتيجية ذكية للتخفي، خاصة بعد تجربته القانونية عام 1923، حيث حُكم عليه بالحبس لمدة ستة أشهر بتهمة العيب في حق الملك، قبل أن يشمله عفو ملكي. يكشف بهجت أن هذا الحادث دفع الههياوي لخلق شخصية "إياه"، التي أتاحت له نقد السلطة بحرية دون تعريض نفسه للمساءلة. استخدم الههياوي تقنية الانتحال، حيث نسب قصائده إلى شخصيات سياسية مثل محمد نجيب الغرابلي، سعد زغلول، وتوفيق رفعت، ليخلق إبهامًا حول هوية الشاعر الحقيقي. كما ابتكر راويًا وهميًا يقدم القصائد ويشرحها، مضفيًا مصداقية على النصوص مع الحفاظ على التستر.

ويبرز بهجت أن الههياوي استخدم الانتحال بذكاء، فنسب قصائد إلى شخصيات مثل الغرابلي، وأحيانًا قدمها كمساجلات أو مراسلات، مثل قصيدة "حزان مكور" التي قدمها كمراسلات مترجمة بين زيور باشا وصحفي إنجليزي. هذه الحيل سمحت له بتقديم نقد ساخر يعكس تناقضات الواقع السياسي، مع الحفاظ على حجب هويته.

أهمية إبداع الههياوي

تكمن أهمية إبداع الههياوي في قدرته على توظيف الفكاهة كأداة للنقد الاجتماعي والسياسي في فترة حرجة من تاريخ مصر. وكما يؤكد بهجت فإن قصائده في الكشكول، مثل "المحمل"، "المحادثات والنيل"، "قصيدة العمدة"، و"الزيارة"، قدمت رواية غير رسمية للأحداث، مسجلة مواقف وآراء لم تُوثق في التاريخ الرسمي. على سبيل المثال، في قصيدة "الزيارة"، سخر الههياوي من استبدال قصر الدبارة بـ"داوننج ستريت"، في إشارة إلى التبعية للاحتلال البريطاني. كما ساهمت كتاباته النثرية، مثل مصر في ثلثي قرن وترجمة القرآن الكريم غرض للسياسة وفتنة في الدين، في تعزيز الوعي الوطني وتفنيد الروايات الاستعمارية.

إرث الههياوي لا يقتصر على إبداعه الأدبي، بل يمتد إلى دوره كصحفي وخطيب شارك في تشكيل الوعي الثوري خلال ثورة 1919. كما يشير بهجت، كان الههياوي عضوًا مؤسسًا في جمعية الشبان المسلمين، ممثلاً عن رجال الصحافة المصرية، مما يعكس دوره البارز في الحياة العامة. كتاباته، التي جمعت بين الجدية والفكاهة، جعلت منه صوتًا فريدًا في الأدب العربي الحديث، يستحق إعادة اكتشافه وتقديره.

وأخيرا فإن محمد الههياوي ليس مجرد شاعر فكاهي، بل هو مبدع وطني حمل قضية الاستقلال والإصلاح في قلمه ووجدانه. من خلال قصائده الفكاهية باسم "إياه"، وكتاباته النثرية، قدم نقدًا عميقًا للواقع السياسي والاجتماعي، مستخدمًا السخرية كسلاح للإصلاح وتحفيز الوعي. إبداعه ـ كما وثقه بهجت في الكتاب ـ يمثل شهادة حية على حقبة حاسمة من تاريخ مصر الحديث. يستحق الههياوي أن يُعاد تقييمه ليأخذ مكانته اللائقة في تاريخ الأدب العربي، كصوت وطني وأدبي فريد، ساهم في تشكيل الوعي الجمعي ومقاومة الاحتلال بقلمه الساخر والمبدع.

قصيدة العمدة

وقف الشاعر "إياه" في نادي سيروس يوم الاحتفال بذكرى ما يسمى عيد الجهاد، لتنويم البلاد، فألقى من شاعريته الجبارة، وقريحته الفياضة الحرارة، قصيدة سماها قصيدة العمدة الذي ركب الحمارة، وخطف الخيارة، على كرسي الوزارة، في غفلة هذه الدنيا الغرارة، قال:

يا عمدةً ركب الحمارة

اليوم أنت فتى الوزارة

كنتُم قديمًا أهلَ بيتٍ

فيه للعليا إشارة

بيتَ السرور ومعهدَ الآ

نس الذي رفعوا منارَه

يا "زامرين" بمنزلٍ

لم يزعجوا بالزمرِ جارَه

و"مطبلين" تبرعًا

لم يأخذوا للطبل بارَه

لكم الأصولُ الصاعداتُ

إلى العلا والمستخارة

لكم البلاد حقيقةً

ولغيركم بالاستعارة

لكم البقاء مخلدا

بين الوزارة والسفارة

لكم الزراعة والفلاحة

والصناعة والتجارة

لكم "الخزانة" ليس تخرج

من "حنين" أو "بشارة"

لكم الخطابة والكتابة

والمشورة والإشارة

لكم الدعاية بالصحافة

والرماية بالحجارة

لكم الهتاف يشقُّ صرخةَ

الحشاشة والمرارة

لكم الحناجر طالعاتٍ

للخصوص بكل غارة

يذهبن تحت لواء سيدنا

الرئيس إلى الإغارة

ويَعُدْنَ تحت حماية البطل

الذي خطف الخيارة

ويَرُحْن "للعكَّام" يقبضن

الأتاوة والأجارة

وهناك مولانا الرئيس

يذيع في الجو انتصارَه

وكذاك مولانا الأخير

يُشيع في الدنيا افتخارَه

زر يدور على القفا

فكأنه ذيل الحمارة

يا سيدي إني أريد

لوجهك الضاحك ستارة

وجه أحب حَمَارَه

أبداً كما أهوى اصفرارَه

وأود لو ستروه من

عين الحواسد بالغرارة

لو كنتُ يومًا فأرةً

لأكلتُه لو كنت فارَه

"سيبك" من "البَلْف" الذي

سرنا به في كل حارة

واعلن صداقتك التي

زرنا بها قصر الدُّبارة

لا تذكر استقلالهم

واهدم على رؤوسهم جداره

واحفظ لنفسك منصبًا

واحفظ لنا كل العمارة

بيت المشورة هاتفٌ

لك كلما قاربت دارَه

إن كان فَشْرُك لا يجوز

فقل لهم هاتوا فِشارة.