الكتابة الداخلية.. كتابة الاضطرار في 'دخول' لعبدالفتاح صبري
من اللافت للنظر أن جميع نصوص/ فصول/ لوحات الكتاب السردي المعنون بـ "دخول"[1]، قد جاءت بضمير المتكلم الصريح الواضح الذي لا يتعدى حدود الذات/ رؤيتها/ مشاهداتها، أو متخيلها الذي تقوم عليه عملية السرد المتقاطعة مع الحكي في كتابة تلتمس الحميمية الدافئة والمتدفقة من وعي السارد، وتتسم بتلك الانطلاقة غير محددة الاتجاه أو منتظمة الإيقاع الزمني، إلا أن الإيقاع السردي يأخذ شكله/ نمطه المغاير من خلال ما يعالج به السارد/ الكاتب تلك الإشكالية التي تتماهى مع كينونته، من خلال تشظيها لتمثل وجوده، وهو ما يدفع في كثير من الأحيان إلى اعتماد الكتابة على أنها كتابة شبه سيرية، أو حتى ربما "سيرة غيرية" ينتهجها الكاتب بضمير المتكلم عن آخرين، باستخدام نفس النمط أو تقنية الكتابة الكاشفة المضمخة بالاعتراف، ذلك الالتباس المقصود على مستوى رؤية الكاتب، والذي يعتمد عليه في طرح قضايا الذات التي تؤرقها وتضغط عليها..
وهو ما يجعل من فصول الكتاب كمقتطفات من سيرة بمختلف تقنيات التعامل معها سواء من خلال الرصد المشهدي/ الرؤيوي، أو السرد المباشر عما تعتلج به النفس، وبما يسمح لخلخلة أساليب الكتابة لتتراوح بين اللقطة السردية بشكل عام مفتوح، واللقطة القصصية التي تبرز فيها سمات القص القصير وكثافته ولهاثه ووحدته الزمنية، وبين النفس الروائي الذي يمكن الكاتب من احتلاب المشهد، وتقطيره ليشبه زمن الرواية في طوله وقفزاته الزمنية واستدعاء الأماكن التي تبعد عن حيز اللقطة القصصية..
هذا الالتباس الذي يجعل الكتابة عابرة للتصنيف السردي الدقيق، لتكون عابرة لتلك الفواصل والفروقات بين تنوعات فروع السرد، وهي الطاقة الإبداعية المنفتحة على النص من أوسع أبوابه وزواياه، لتغوص في عمقها الفلسفي الذي ينبثق من توجه/ خبرات الشخصية الساردة/ الذات، التي يتقمصها السرد، لتضع النصوص/ اللوحات علامات استفهام وجودية، وضاربة في عمق العلاقات الإنسانية للسارد الذاتي.
التكتلات السردية، والدخول في معترك النص/ الواقع
تبرز من خلال النصوص الأولى إشكالية دخول غمار التجربة الإنسانية، من خلال تلك التكتلات السردية/ اللوحات المتوالية المتكاملة والمترابطة برؤيتها الخاصة، التي تكتمل فيها ومن خلالها وجهة نظر السارد ورؤيته التي يؤكد عليها، كحلقات قصصية متصلة بالتوحد النفسي منفصلة بطقوسها وتفاصيلها الخاصة كل على حدة، وتأكيدًا على الموقف - الفكري الذهني المرتبط بالذات والمؤرق - الذي لا ينتهي من خلال حلقة واحدة والتي تمتد في عمق تجربة حياتية واشية - ومصرحة في الآن ذاته - عن سمات تلك الشخصية الساردة بتوجهها نحو واقع غريب ومخاتل، ومليء بندوب الروح، من بعد زمن طويل، على المستويين النفسي والمادي للسارد، وكجزء غير محدد التوقيت من تاريخه الذي يسرده عبر لوحاته، ومن خلال هذا الضمير الواحد الذي التزمته الكتابة دلالة على الاتصال لا الانفصال بين حبات عقد النصوص.
تجتمع النصوص الأربعة الأولى: (دخول، في الداخل، لما دخلت، لما دخلنا) في عناوينها الدالة على الاقتحام لتلك الحالة من الترقب والخوف والتوجس كمشاعر نفسية تفرض نفسها على وعي السارد، على فعل "الدخول"، وهو توظيف دلالي مهم في توجيه روح الكتابة نحو هدف مرتبط بالذات التي تواجه ذاتها من خلال فعل الكتابة الاضطراري اللازم لإزالة حاجز كل تلك العلامات النفسية التي كانت تجهد الروح، ومن خلال التباس مشهدية الرواية، وحبكة الموقف القصصي في حاجزه الزمني المحدد، حيث تأتي حالة التدوين التي تميز السرد في النصين الأولين، وباعتمادها على التفاصيل الدقيقة التي تستدعي الغرابة والدهشة والدخول في عوالم غير متوقعة محفوفة بالخطر والاتهام:
"ساعة من المواجهة والأسئلة بين إنسان ترتجف فرائصه ودواخله دون أن يبين، يتصنع التماسك مستقويات بأدعيتي المكتومة أمام الرجل المبتسم في خبث، الجاثم على صدر مكتب فخموخلفه تعلو صورة السيد الرئيس في بسمته العريضة"[2]
ذلك المشهد الذي يطل من الذاكرة ليجدد مشاعر الخوف والاضطراب والانعزال، ومن ثم الاستلاب لشخصية منطوية لا تستطيع اجتراح ما يجعلها تكون قيد هذه المحاكمة القسرية، والتي تبرز من وعي/ تاريخ الشخصية، والذي لا يفضي في النهاية إلا إلى الخروج/ الهروب شبه الآمن، والالتحام بالجموع التي تتسم بفقدانها لذاتها أو بوصلة وجودها وتوجهها، دلالة على التوحد في تلك الحالة من المساءلة والمحاكمة التي يفرضها الواقع على الجموع، فهنا تعميم وانطلاق من أزمة الفرد إلى أزمة المجموع:
"انتشلني الهواء المبلول في الخارج. الشمس في كبد السماء تزفر لهيبها يتعامد على رؤوس الناس، لكنها أرحم من هذه السهام العينة في الأقفية.. الناس يجرون في كل الاتجاهات ذاهلين يبحثون في الأفق عن شيء غير معلوم"[3]
وهو ما يمتد به حس الوجود الدائم في حضرة اختلاس اللحظات التي ربما ينزع فيها الفرد إلى استلهام النور/ الضياء، بتعدد الزوايا التي يلج منها النص السردي إلى عالم الذات المتوجسة دائما والتي تطرح ملامح وأبعاد هذا الاغتراب/ الاستلاب الذي يمارسه معها الواقع بكل قيوده الحاكمة التي تبرز التوتر والتردد والخوف كأبرز السمات الدالة على انغماس الوعي العام بهذه السمة/ الاضطراب، فيقول في نص "لما دخلت" الذي يستمر في اللعب على تيمة القلق والتوتر والانغماس في اصطياد اللحظة الفاتنة ثم الهروب منها شأنها شأن اللحظات الصعبة المصاحبة للذات، بتلك المشهدية:
"لما قادتني قدماي إلى حيث موعدنا في ليل الشتاء البارد. لا ضياء في الحارات الضيقة والشوارع الترابية كي أهتدي إلى مسارب دربي نحوها سوى أصوات صراصير وهام الليل التي تنشر غلالة من موسيقى ليل القرية المعهودة، تحفني في حركتي. أرهف السمع متحسسا حفيف غيري في الظلمة الداكنة"[4]
فحالة الاغتراب/ الاستلاب التي تواجه السارد وبقوة وجوده غير الفاعل في محيط يجهله – كالنصوص السابقة - وبيان مدى قهر الحاجة/ العجز الذي يعاني منه في وجوده ربما كان مختلفا هنا، ولكنه مرتبط نفسيا بحالة الانقياد التي تحدث من خلال أكثر من جهة واتجاه/ حالة احتياج نفسي وجسماني/ شبقي للتعامل مع الواقع، فالسارد دائما مكبل أيضا ولا يستطيع البوح، ودائما ما يتكيء – في عديد من النصوص – على جملة: "يغفو الكلام على لساني ولا ينبت على الشفاه" دلالة على الانعزال والتقوقع والوقوف خلف كل المسافات التي تبعده عن تلك العلاقة مع الأنثى/ الغواية التي أصبحت هنا ذات سلطة ربما توازت مع السلطة المتمثلة رموزها في النصين السابقين، وبالنهاية المتماسة/ المتماهية في كل الحالات، والتي تعمق من مدى استلاب الواقع للشخصية التي تكرس للهروب وعدم القدرة على المواجهة انتصارا لتلك الطقوس القديمة المترسبة في الذات من قمع وعيب وانحصار في ركن منزو من الذات والعالم، بنظرة بائسة محترقة دائما:
"خطواتي تحملني نحو الباب، نسمات الخارج تلسعني.. تلفحني.. تعلن انتهاء الحريق"[5]
في حلقة جديدة من حلقات النصوص/ اللوحات يبدو في نص "تلصص" الأثر النفسي لحالة الخوف والتجذر والتي تؤدي إلى وجود نزعة تتبع أثر المخبوء من خلال الصور التي تتداعى أمام الذات الساردة/ الرائي/ الكاشف بعين وعي طفل لمشهد تعانق الحياة، وتجسيد العلاقة الفطرية الجسدية بين رجل وامرأة، ومحاولة فهم سر الحياة وسبر أغوارها، وكغواية ملء الذهن بتلك المشاهدات التي ستظل محفورة في الذاكرة والوعي لتؤسس لذاك الحس الفطري وتزرعه في وعي الذات الساردة/ الطفل، والذاكرة البصرية ومن ثم المعرفية له، ومن خلال ما يناهض ظواهر العيب والحلال والحرام، ويأتي ذلك من خلال حالة التلصص المتسلل، والتي تقابلها حالة الترصد والرقابة القمعية الصارمة من سلطة الأب (مثلا) التي تقابل تمتع الطفل بمشاهدة العملية التي يعتمد الجزء الأكبر منها على التخييل والإيهام..
"أخلع رأسي من مكمنه بالشباك وأبتعد وأرفع عيني عن ثقب التواصل، وإذا به يلجم جسدي ومشاعري بلكمتين على كتفي الذي انهار من الألم والمفاجأة، وسألني لماذا أتلصص على الناس، فقلت لا شيء بالداخل أصلا.. لكنه مال بجسده ونظر فلم ير شيئا، صدقني وانصرف"[6]
وكذلك يستفيد نص "بدايات" من استدعاء بدايات العلاقة مع الجسد برغم التكتم والحذر والحصار المفروض على الشخصية، من ناحية العيب كملمح أنثروبولوجي في المجتمعات المغلقة التقليدية التي تفرض حصارا شديدا على أخلاقيات ترتبط بالوعي الغريزي المرتبط أساسيا بالوجود في الحياة، ومن ثم فهمها فهما واعيا لا بد منه للاستمرار وتوكيد العلاقات الصحيحة والصحية الواجبة:
"في زمن التكون الأول.. وإحساس التغيير يرجنا.. وبدايات من جموح يعتلي المفاصل ويفكك أسئلة حارقة عن مجهول ينتعلنا ويفتح لناطاقات ومساحات من ذهول.. وجنون ويمنحنا تخبطا في سلوكنا وعلاقتنا بالأشياء وبأجسادنا ورغبات لا ندري كيف نحققها لأنها هي ذاتها مجهولة ولا نستطيع وصفها أو شرحها أو التعبير عنها، ولا أحد يجيبك...."[7]
يبين الأثر المتراكم على المستوى النفسي والتربوي الذي لا يساعد في النمو الطبيعي للمدارك والمشاعر والأحاسيس ذلك الذي يزرع الخوف والتخبط ويصنع شخصيات تنازعها الرياح، ثم ارتباط ذلك كله مع النصوص السابقة في حتمية علاقة تمنح السرد السيري المتصل مشروعية وجوده، وتذهب كثيرا نحو تثبيت اللحظة القصصية ثم التغور في حالة نفسية شارحة للماضي.
***
الاستيهام وفلسفة العلاقات الإنسانية
يرتبط نص "امرأتان"، بحالة استيهام وجود امرأتين قابعتين في وعي السارد تبدوان له في عمق الظلام، واللتين تمثلان ضغطا وثقلا وإلحاحا على هذا الذهن المنشغل في تفاصيل من الممكن أن تكون موجودة في قاع واقعه الماضي، وتم نسيانهما بفعل الزمن، وجاء هذا الصراع بين عملية التذكر من الذات، وعملية التفحص والتلصص التي تبدو من خلال تلكما الشخصيتين، ربما عن طريق الرؤية الحلمية أو المستهامة؛ فهي علاقة في عمق الذات التي تجاهد في البحث عن مفاتيح لطلاسم وجودها، وتستعيد تلك المشاهدات من خلال وعي مقبل على العيش على تخوم هذه الحالة، وكمحاولة للعلاج منها بنظرة تبدو فلسفية.. إلا أن تكرار تيمة الهرب في تلك الرؤية الواقعة بين الحلم والحقيقة، أو النوم واليقظة في وعي السارد، من خلال الانخراط في الناس في وهج الشمس/ الحقيقة، يمثل ملمحا نفسيا بالغ التأثير والتغور:
"انفرج الباب. انهمر الضوء النهاري الحار يفقأ العين بحقيقة الوضوح وغلبة الشمس القوية التي تسيطر على الخارج بحرارة بالغة وبعض رطوبة وكثير من الوضوح واليقين. أطأطيء رأسي. أغذ السير. السماء تظلني.. الشمس تعنفني.. البشر القادمون والعائدون يشكلون مشهد الحياة العادية في المكان"[8]
بهذه البلاغة اللفظية والتصويرية يتقابل الضوء النهاري كرمز للحقيقة مع العتمة التي كانت تحوي المرأتين في ظلام الداخل الذي لم يستطع السارد التعامل معه بهذا الحاجز النفسي، ليمثل فلسفة للتعامل مع هذا النمط الذهني الذي يجتاح السارد ومن ثم عملية البوح والتطهر التي يعاود بها السارد معالجة سرده السيري القائم على المفارقات التي يسوقها القدر، ومن ثم محاولولات التبرير وفلسفة الموقف والحالة التي ترتد دائما بالوعي في منطقة خصيبة من الذكريات والمتخيلات السردية أو التي تحدث من خلال الواقع في صور هذه العلاقات التي تقودها عمليات من الانتظار والترقب وتعتريها الصدف القدرية التي تشكل جزءا بالغ التأثير في تكوين الواقعن ومن ثم يطرح هنا السارد/ الكاتب فلسفته، ففي نص "الصدفة" ثمة نزوع إلى فلسفة الحالة المعيشة التي تأتي على محك الصدفة في العلاقات القديمة المتوالية على وعي/ ذهن السارد والقابعة في تاريخه ومدونته الذهنية التي تحتفظ بكل شيء، وهي التي يفلسفها السارد في قوله:
"وكيف لحيوات أخرى تموت وتصبح نسيا منسيا أو تصنف إلى الماضي ويظل ماضيا حيا دوما وإن كان مات بوصفه حاضرا.. كيف تتحول تلك الحيوات إلى ذاكرة فقط أو تضاف إلى خزانة الذكريات مكتوبة في عمق الروح أو مخبأة في تلافيف لفائف لن تستعاد إلا إذا أثيرت في لحظة ما وبسبب ما"[9]
ثم يقوم ببناء الحدث السردي الذي يعتمد فيه على العلاقة الأثيرة بين رجل وامرأة افتراضية والصراع بينها وبين امرأة أخرى بالواقع.. في صورة من صور الاستلاب المعنوي الذي يواصل سطوته على السارد، ففي نص "مواعيد" يمضي السارد على ذات الدرب من التبرير واستكمال فلسفتها القائمة على عملية تباديل وتوافيق بين الصور التي يعالج بها أزمة وجوده مع الواقع، في سلسلة ظهور للشخصيات الأنثوية التي تلعب دورها بكفاءة تكاد تكون متشابهة، أو نسخا مكررة من نموذج أثير ربما تراءى للشخصية الساردة أو كان بالغ التأثير على وعيها المختزن وتشبثها به على نحو الارتباط النفسي القديم، فتأتي فلسفة المواعيد، لتتواصل تلك المفاهيم القارة في الذهن في الارتباط بما سبقها من نصوص تمثل حتمية الاقتران بها والاتكاء على استكمال وتأكيد الفكرة السارية في تضاعيف اللوحة/ المقطع السردي/ القصة:
"من الأمور اللافتة أن هناك مواعيد لا نرتبها ومقابلات لا نقصدها، ولكنها تأتي وتتم مع أناس تجمعنا بهم رتابة فعل الوقت أو أننا نبرمج وقتنا من أجل الذهاب إلى العمل أو الدراسة إن كنت طالبا أو العودة إلى المنزل أو الدار .. وأنت لم ترتب، ولكن استدامتك على فعل الوقت والحركة هو الذي هداك إلى غيرك.. هنا ليس للصدفة حظ"[10]
يأتي التبرير بمواجهة الرتابة والتكرار، واستدعاء الشخصيات من سباتها وعدم وجودها الأصيل في الواقع المرئي والمادي للشخصية، ليؤسس للفعل الذهني الذي تقوم عليه كل العلاقات مع الشخصيات المستدعاة من خلال الذات كي تكمل به فراغ الوقت وفراغ العلاقة وقتل الحالة السكونية (الاستاتيكية) التي تقترن بالجمود والتحجر، ومن ثم فتح الباب نحو تحرير العواطف وإطلاقها برغم ما يعتريها من نهايات فاشلة تبوء بالهرب؛ فتأتي المواعيد وتلك العلاقات القدرية لتؤكد على ذات الكلام والفلسفة والمقصد ألا وجود للصدفة، فهي من فعل القدر
وهو ما يؤكد عليه نص "وجوه في الداخل" الذي يلعب أيضا على سمة الكتابة الداخلية/ الجوانية التي تنغلق على الذات وتحرر داخليا كل شجونها في هذا الحيز الذي يعمق من فلسفة وجودها، وتكرر معها نفس السمة: "وجوه غريب لا نعرفها، وأخرى ننفر منها ولا نحاول الائتلاف معها ونبعد عنها بلا أسباب أو مبررات معروفة أو حتى مجهولة.. لكن بالتأكيد هناك أسباب، لكنها ربما تعود إلى مشاعر طريق معرفتها معقد، منها ما هو مرتبط بالنفس والسلوك والقيم، وبعضها يعود إلى كيمياء لم تتحقق"[11]
الشخصية الروائية مكتملة الأبعاد
تلخص هذه الرؤية إلى حد بعيد، جانب من العلاقات الإنسانية المشتبكة وتعمل على تحليلها، ومن ثم توظيفها للتوافق مع بعض الأحداث أو الذكريات التي ينجر إليها السارد ربما كنتيجة لاستدعائها له من الجانب الباطني الذي ينبع من عملية الحرص الزائد والتكتم الذي يميز الشخصية نتيجة لتلك الممارسات القمعية والقدرية التي مارسها عليها الواقع في تاريخها السري الذي أصبح معلنا بسمة الاعتراف، وجاءت ظواهرها والتصريح بها على مدار النصوص وإن لم يكن كلها، لتميط اللثام عن أزمة الشخصية/ الفرد، مع الواقع من خلال حالة التجزر والتي نتجت عن الاستلاب والاغتراب والانحباس الذي كانت تعيشه الشخصية في ماضيها، لتبرز هنا كشخصية روائية مكتملة الأبعاد استطاع النص أن يبلورها من خلال تشظيها وتشظي الحالات/ الحلقات القصصية المتناثرة والملتبسة مع غيرها من طرائق التعبير بالفن السردي.
وهي في النهاية محاولة للإجابة على كل التساؤلات، وإن كان من داخل حدود الذات، وحالة تقمص شخصية الساردة لسبر غور الواقع المحيط بها، فالتسلسل الدرامي والنفسي يستمر ليكمل تلك الفراغات بالنصوص المرتبطة والمؤكدة على الفكرة ذاتها وملتحمة حلقاتها بها، وهو ما نجحت فيه النصوص إلى حد بعيد ملتحفة بلغة مجازية وتصويرية استطاعت كشف مخبوء الذات، وانعكاس الحالة النفسية سواء بالتصريح أو البوح الشفيف أو الرمز الدال، بالرغم من انغماس الكتابة في حالة سيرية لا يعتريها الغموض في غالبها، وإن استعانت بالمزيد من حالات التوافق في الشخصيات الأصلية أو المفترضة التي تقاطعت مع وعي السارد، بما يمثل صورة جلية من صور الكتابة الجوانية، أو كتابة الاضطرار، أو ما يشبه كتابة الاعتراف التي تضع السارد أمام مرآة سرده.
[1] دخول.. لوحات روائية.. عبد الفتاح صبري.. دار ميتابوك للطباعة والنشر بالتعاون مع النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر – الطبعة الأولى 2022
[2] الكتاب ص14
[3] الكتاب ص23
[4] الكتاب ص27
[5] الكتاب ص32
[6] الكتاب ص48
[7] الكتاب ص51
[8] الكتاب ص67
[9] الكتاب ص89
[10] الكتاب ص95
[11] الكتاب ص101