'أولا حارتنا' جدل اللاهوت والسياسية

الروائي المصري نجيب محفوظ لا يخفى على المتابع له أنَّ خطه في الكتابة الروائية يتجددُ باستمرار ويستمدُ زخمهُ من روافد التاريخ والواقع والفلسفة والعلم.

منطقة الإبداع الروائي مترامية الأطراف ومتشابكة مع الحقول المعرفية، وما يقعُ ضمنَ طبقات جوفية للفكر البشري، وبقدر ما يكونُ هذا الفن مرنا يبدوُ بالقدر نفسه متصادما مع المتواضع عليه اجتماعيا وسياسيا ولا هوتيا. وذلك لأنَّ أخلاق الرواية هي المعرفة والاكتشاف وبالتالي ما يرمي إليه المبدعُ هو الزيادةُ في إمكانية التفكير من خلال ما يضمرهُ في اللغة من الأسئلة الانفجارية بشأنِ المواضيع الخلافية.

هنا اللغة الإبداعية تفوق اللغة الفلسفية أهمية لذا تنصحُ آيريس مردوك الفلاسفة بتمكين أدواتهم التعبيرية من إضاءة مناطق تقبع في الظلام أسوة بالأديب الذي يتخذ من لغته مثابةً لإعادة التموضع وتشكيل الخطاب واختيار معتركه، كما فعل ذلك الروائي المصري نجيب محفوظ فقد عاصر مؤلف "كفاح طيبة" مرحلة النهوض الفكري والأدبي في العالم العربي، تابعَ ما يمور به المشهدُ من التجاذبات بشأنِ الفن الأحدث نقصد الرواية. والرهان المعقود عليها، إذ عبر نجيب محفوظ عن رأيه بوضوح حين كان النقاش قائما عن الجنس الأدبي الأصلح لتلبية متطلبات العصر ومواكبة التحولات في الرؤية والمذاق.

فالقصة هي الفن الأنسب بنظر محفوظ لأنها تجمعُ بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه القديم إلى الخيال، أما على المستوى الشكلي يرى نجيب محفوظ بأنَّ للرواية فرصة لتطويع صفات المسرح والسينما والفنون الأخرى في شكلها الخاص. طبعا هذا الكلام يكشفُ عن السبق في إدراك مواصفات الرواية ومرونتها وما يعني التحركُ في هذا الملعب الإبداعي.

عين العاصفة

ولا يخفى على المتابع أنَّ خط نجيب محفوظ في الكتابة الروائية يتجددُ باستمرار ويستمدُ زخمهُ من روافد التاريخ والواقع والفلسفة والعلم. ويكمنُ في ذلك سرُّ التنوع في حصيلته الإبداعية.

لا شكَّ أن خلفيته الفكرية لعبت دورا كبيرا في ضخِ نصوصه بالشحنة الفلسفية والانتقال بها نحو منحى سجالي وهذا ما يتجلى في رواياته الذهنية، ولاسيما بباكورة أعماله "أولاد حارتنا" الحلقة الأولى لهذه المرحلة.

ومن المعلوم أنَّ الرواية كان لها دوى كبير وضعت صاحبها في عين العاصفة وفتحت عليه الجبهة من كل حدب وصوب، وأثارت جدلاً حادا، وإلى الآن لا يوجدُ ما يوازها في الرواية العربية حمالةً للتأويل. الأمر الذي حدا بـ"أولاد حارتنا" بأن تكون بالمشهد.

ومن جانبه بادر الكاتب والصحافي محمد شعير لمتابعة حثيات ما رافق الرواية بدءا بنشرها متسلسلة في الأهرام مرورا بقرار الحظر ولا نهاية بالتألب على صاحبها ومحاولة اغتياله في كتابه الاستقصائي "أولاد حارتنا سيرة الرواية المحرمة".

ومن المعروف أن نجيب محفوظ قد صام عن كتابة الرواية لمدة خمس سنوات بعد قيام ثورة يوليو/تموز 1952 وهذا الفاصل الزمني قد أسماه بـ"سنوات اليأس" أو "سنوات الجفاف" وهو إلى جانب تحمل مسؤولية أسرته، إذ تزوج في عام 1954 وظلَّ الموضوع طي الكتمان إلى أنْ كشفت عنه مجلة "صباح الخير"، بعد عشر سنوات قد تكفل برعاية أمه وشقيقته التي توفي زوجها. والحال هذه فلا بدَّ من عملٍ يوفرُ له دخلاً إضافيا فوجدَ الحل في كتابة السيناريو كما كان ينشر القصة القصيرة. وكلما سُئلَ عن أسباب التوقف عن كتابة الرواية كان رده بأنَّ العهد الجديد يتطلبُ طريقة أخرى من التفكير وأن مرحلة ما بعد الثورة تستغرقُ وقتا واسعا قبل أن يفهمها الفنان ويتمكنُ من استبطان روحها.

الحدث

يطوي محمد شُعير شريط الزمن عائدا إلى أواخر سبتمبر/أيلول 1959 مُستقصيا العناوين التي تصدرت المطبوعات الصحافية في ذاك الوقت، فأغلبها كانت أخبارا سياسية تغطي أحداثا إقليمية، ودولية هذا إضافة إلى خبر عودة عبدالناصر عائدا مع مرافقيه من مدينة رشيد إلى القاهرة.

طبعا لم تغبْ أخبار فنية وأدبية في أقسام الجرائد لعلَّ من أهمها تلحين رياض السنباطي لـ"الحب كده" التي ستستفتحُ بها أم كلثوم موسمها الغنائي وإصدار ترجمة عربية لرواية "دكتور زيفاجو" بجزئين غير أنَّ الحدث الأبرز أدبيا هو نشر القسم الأول من رواية "أولاد حارتنا" في الأهرام، إذ سبق أن أعلنت الجريدة قبل أسبوع عن استقبال صفحاتها للرواية متسلسلةً. إذن وقعت الأهرام عقدا مع الكاتب بمقتضاه يكون للصحيفة حق لنشر القصة الجديدة مقابل ألف جنيه.

ومن الواضح بأنَّ الاحتفاء بعودة محفوظ إلى حلبة الرواية قد بدأ بإجراء حوار عن تجربته الإبداعية ودراسته للفلسفة، وحبه للموسيقى ومن ثمَّ يشيرُ خلال حديثه إلى روايته الجديدة.

وبذلك يتضحُ بأنَّ ما حسبه خمسا عجافا لم يكنْ إلا استراحةً وإعادة لترتيب الأوراق على طاولة الكتابة. ويُفهمُ من هذا الموقف أنَّ الروائي لا يمكنه إدارة دفة مشروعه صوب أراضٍ بكرة إذا لم يتأملْ تجربته مُغامرا بتطوير آليات علبته.

رافق عودة محفوظ التنافس بين الصحف والمجلات للفوز بحق النشر لروايته الجديدة الأمر الذي يؤكد ما يعنيه حضور الكاتب لأي منبر أدبي أو صحافي. استمر نشر حلقات "أولاد حارتنا" ولم يسجلْ ما ينبئ بكسر الهدوء إلى أن نشرت الحلقة السابعة عشرة، إذ بدأ الاحتجاج ضد الرواية وطالبت مؤسسة الأزهر بوقف نشرها ويصل كل هذا إلى عبدالناصر الذي يستفسرُ من محمد حسنين هيكل عن السبب لتصاعد أصوات ساخطة وما من هيكل إلا أن يقدم توضحيا لحيثيات الموقف، مؤكدا بأنَّ الرواية يجبُ أن يكتمل نشرها حتى آخر كلمة. يقفُ عبدالناصرُ مع قرار الاستمرار، لكن التوتر لا يهدأ واقترح هيكل تشكيل لجنة من الأزهر للبت في الموضوع. وذلك لم يكن إلا مناورة لكسب الوقت ونشر النص بأكمله.

تحالف ثلاثي

نجح هيكل من تمرير الرواية الإشكالية وحرص أن يُختمَ الحلقة الأخيرة بعبارة "انتهت الرواية" بدوره أراد محفوظ أن يمضي أبعد في الدفاع عن الرواية وطالب بترتيب لقاء بينه وبين الشيخ محمد الغزالي والشيخ محمد أبوزهرة والشيخ أحمد الشرباطي وتستدلُ مما يعرضهُ شعير بأنَّ الفكرة لم تنجح لأنَّ الشيوخ تخلوا عن الموعد.

والأغربُ في الأمر أن أغلب العرائض التي وصلت إلى النيابة العامة كانت موقعة بختم الأدباء ضد الرواية.

ينقلُ محمد شعير عن سامي الشرف سكرتير الرئيس عبدالناصر بأنَّ الأمر باعتقال نجيب محفوظ قد صدر بعد نشر "أولاد حارتنا" كما تتحركُ قوة أمنية لإلقاء القبض على الكاتب بعد نشر رواية "ثرثرة فوق النيل" التي أثارت ثائرة عبدالحكيم عامر غير أنَّ عبدالناصر يحول دون وصول محفوظ إلى عتبة الزنزانة.

إذن تحالفت الأطراف الثلاثة عدد من رجال السلطة والأكليروس ومجموعة من الأدباء والمثقفين ضد صاحب "القاهرة الجديدة" والحملة تبدأُ أعنفَ عندما يتم إعلان فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل.

يذكر أنَّ محمد شُعير إلى جانب استقصائه لتبعات نشر رواية "أولاد حارتنا" يضمن جانبا من حوارات محفوظ وآرائه بشأن فن الرواية والدين والفلسفة في كتابه التوثيقي، وما يجدرُ بالإشارة هو نظرة محفوظ للعلاقة القائمة بين الرواية والفلسفة فهو ينفي بأنَّ يكون فيلسوفا أو أضافت روايته شيئا إلى الفلسفة الإنسانية لأنَّ كل ما يفعلهُ الأديب هو التعبير عما يأخذه من الفلسفة بشكل فني.

ويفردُ شعيرُ مفصلاً من الكتاب لرأي كبار الكتاب عن أدب محفوظ منهم طه حسين الذي يرشحَ روايات مواطنه للجمهور المغربي قائلاً: كتب نجيب محفوظ طائفة من القصص أعتبرها أنا أروع من أنتج في الأدب المصري الحديث، كذلك يتنبأُ عباس محمود العقاد بفوز محفوظ بنوبل وكان يراه متفوقا على جون شتاينبك في تصوير شخصياته والإبانة عن الروح الكونية في البيئة المحلية. ويكتب يحيى حقي بأنَّ نجيب محفوظ قد حقق برواية "أولاد حارتنا" ما عجز عنه غيرهُ من رصفائه.

لا يكتفي محمد شعير بتغطية أصداء الرواية وشهادات الكُتاب، بل يرصدُ الخريطة الجنية لـ"أولاد حارتنا" في "عبث الأقدار"، فالأخيرة برأي شعير بروفة لتأليف عمله اللاحق.

راقت لمحفوظ قراءةُ النص الديني من منظور جمالي، وهو يحتفي بـ"التصوير الفني في القرآن" لسيد قطب مخاطبا إياه بأنَّ العصر من الناحية الجمالية عصر الموسيقى والتصوير والقصة.

تنبسطُ على فصول كتاب محمد شعير معلومات قيمة عن شخصية نجيب محفوظ وتكوينه الفكري ومحطات فارقة في حياته الأدبية والمناخ الذي نشأَ فيه أكثر من ذلك فإنّ البعد التوثيقي للحياة الثقافية والحراك الفكري ملمح أساسي في منهج شعير.

وما يخلص إليه المتلقي من متابعة مسيرة محفوظ الإبداعية أنَّه ليس اصطداميا وكان مراقبا لحركة الواقع متأملاً الظواهر الاجتماعية ومتفاعلاً مع الفكر العالمي والدليل على ذلك هو المقال الذي يتناولُ فيه مستقبل فن الرواية مُعلنا فيه اختلافه مع رائد الرواية الجديدة آلان روب غريبه. وما يمتاز به النص الروائي وفق تحديد محفوظ أنَّه يخاطب الإنسان كفرد واعٍ مفكر دون أن يتوسل بالسحر على غرار الفنون الجماعية كالسينما والمسرح والدراما وهذا الرأي يتقاطع مع ذهب إليه ماريو بارغاس يوسا بأنَّ النص المقروء يجعلُ من المتلقي خلاقا في خياله، ولن يكون في ذلك محكوما برؤية خارجية.