"أيام هستيرية" كُتبت بأعصاب تحترق وعقل متوقد

ناصر عراق: فكرة رواية "أيام هستيرية" انبثقت في ذهني فجأة بشكل مشوش وغامض في أحد أيام يناير 2020.
"الأنتكخانة" تتناول منطقة غامضة إلى حد كبير في تاريخنا الحديث
عراق يتناول في روايته الجديدة الواقع الحالي
كتابة "أيام هستيرية" جاء في ظل اجتياح فيروس كورونا للعالم

انطلاقا من الواقع واضطراباته التي ألقت بظلالها على الأفكار والعلاقات، ودخول العالم الافتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى دائرة التأثير في تشكيل الأفكار والعلاقات الاجتماعية خاصة، تأتي رواية "أيام هستيرية" للكاتب والروائي ناصر عراق الصادرة أخيرا عن دار الشروق، حيث تأخذنا في رحلة اجتماعية عبر بطليها نبيل ونسمة، الأول كاتب شهير، مُطلِّق، وعلى مشارف الستين، تتعرض شقته لحريق وهو بمفرده في المنزل، يدفعه الخوف من الوحدة للزواج من "نسمة"؛ وهي أربعينية، عذراء، أنانية، مدمنة للحبوب المهدِّئة"، ليضعنا في مواجهة الكثير من الأسئلة منها: كيف يمكن أن يتقاطع عالمان مختلفان في علاقة بدأت بعرض زواج عبر الفيسبوك دون أن يرى كلٌّ منهما الآخر وجهًا لوجه؟ 
وفي حوارنا معه المزيد من الإضاءات حول فكرة وكتابة وأسئلة الرواية.
يتناول عراق في "أيام هستيرية" الواقع الحالي، لذا انطلق من سؤال: هل هجر أجواء الرواية التاريخية التي حقق فيها نجاحات لا بأس بها مثل "الأزبكية" التي حصدت جائزة كتارا الكبرى للرواية العربية في 2016؟ 
قال "لعلك تعلم أن لديّ إحدى عشرة رواية منشورة، منها ثلاث روايات فقط اتكأت على استلهام التاريخ، وهي بترتيب الصدور "الأزبكية 2015"، و"دار العشاق 2018"، و"اللوكاندة 2020"، أما باقي الروايات الثمانية، فكلها تدور في الزمن الحالي، فرواية "العاطل"، على سبيل المثال، الصادرة عام 2011 تجري وقائعها حتى عام 2010، وقد وصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر العربية عام 2012، ورواية "نساء القاهرة. دبي" التي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة "أرى روايتي 2018" التي تنظمها مؤسسسة أبوظبي للإعلام، والصادرة عام 2014 ينتهي زمنها مع ما حدث من صراعات في شارع محمد محمود بالقاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وهكذا. ورواية "اليلاط الأسود 2017" تنتهي وقائعها مع ثورة 30 يونيو/حزيران 2013. باختصار مشروعي الروائي، إذا جاز القول، ينهض على أفكار ورؤي أومن بها، بغض النظر عن الزمن الذي تدور فيه أحداث هذه الرواية أو تلك. 

novel
رحلة اجتماعية

كتابة "أيام هستيرية" جاء في ظل اجتياح فيروس كورونا للعالم، وهنا رأى عراق أن "العالم لم يمر بجائحة شاملة ملغزة قصمت ظهر الكرة الأرضية مثل هذه، ففيروس كورونا الوغد، كما وصفته في الرواية، أغلق نوافذ الكوكب كله في لحظة واحدة، الأمر الذي أثار مخيلتي الروائية بشكل كبير، فابتكرت حكاية تتكئ على مشروع زواج تم سريعًا عبر الفيسبوك بين رجل مصري بلغ الستين يعيش في دبي، وفتاة أربعينية تعيش في القاهرة، فلما جاءت لتقيم معه غزا الكوكب ذاك الفيروس السفاح وتعطلت حركة الطيران، حيث بات واضحًا منذ اليوم الأول استحالة استمرار الحياة الزوجية بينهما، نظرًا لعمق الاختلافات الحادة بينهما في كل شيء، وهكذا ظل الزوجان محاصرين داخل شقة في دبي طوال مئة يوم تقريبًا يمضغان النفور كل لحظة، ولا أريد أن أحرق أحداث الرواية أكثر من ذلك".
وأوضح عراق أن "فكرة الرواية انبثقت في ذهني فجأة بشكل مشوش وغامض في أحد أيام يناير 2020، عندما قرأت تقريرًا يقول إن هناك حالة طلاق واحدة تتم في مصر كل دقيقتين وإحدى عشرة ثانية عام 2019 وفقا لما ذكره الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وفي الوقت نفسه بدأ فيه يشيع خبر هذا الفيروس القاتل، ثم مضت فكرة الرواية تنضج داخل مخيلتي في الأسابيع التالية، وما إن اتضحت ملامحها العامة حتى شرعت في كتابة أول جملة في يوم 9 أبريل/نيسان 2020، أي مع فرض الحظر على الحركة والتنقل في دبي، حيث أعمل وأقيم، وهكذا انخرطت في الكتابة لمدة ثماني ساعات يوميًا، رغم أنني لا أجلس على مكتبي في الأيام العادية لأكتب رواياتي سوى أربع ساعات فقط. لكن من فوائد الجائحة، إذا صح هذا الكلام، أنها وفرت لي وقتا أطول للقراءة والكتابة ومتابعة الأخبار والتأمل، وهو ما كان. لذا يمكن القول إنني كتبت "أيام هستيرية" بأعصاب تحترق وعقل متوقد، وفي ظل "أيام هستيرية حقيقية"، كما أنني، كعادتي دومًا، أحافظ على الكتابة بشكل يومي، فلم يمر يوم منذ ربع قرن تقريبًا دون أن أكتب، وهكذا اختلط نهاري بليلي وأنا غارق أسابيع طويلة مع شخوص هذه الرواية التي أعدها أكثر رواياتي اختلافا من حيث الموضوع والصياغة والوقت، فقد انتهيت منها بعد مراجعتها غير مرة في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2020، أي أنها استغرقت مني ستة أشهر كاملة نذرت فيها خيالي وأعصابي ووقتي وذائقتي لأبطال هذه الرواية".

الكتابة أضحت بالنسبة لي مثل الماء والهواء لا يمكن الاستغناء عنها. وبالفعل، فقد أنهيت مؤخرًا روايتي الثانية عشرة واسمها "الأنتكخانة"

وأكد أن الرواية الناجحة هي التي تقص على القارئ حكاية جذابة ومثيرة في المقام الأول، ثم تتجلى براعة المؤلف عندما يوظف الأفكار والرؤى داخل نسيج الرواية بدون تكلف أو افتعال. بالنسبة إلى "أيام هستيرية"، فقد حاولت أن أناقش فيها أكثر من محور من خلال طرح عدة أسئلة مثل: هل يصلح الارتباط عن طريق السوشيال ميديا في تأسيس علاقات زوجية ناجحة؟ ما الذي يجعل علاقة زوجية تتمزق بعد ربع قرن من الاقتران رزق خلالها الزوجان بأربعة أبناء؟ هل أنانية الزوج أم الزوجة؟ هل تغيرت أفكار أي منهما بشكل جذري، حتى غدا استمرار الزواج عبئا ثقيلا على طرف أو عليهما معًا؟ وكيف نواجه ظاهرة التدين الشكلي التي تختزل الدين في الطقوس والأزياء فقط؟ ما الأثر السيء الذي قد تلعبه الحماة في استقرار الحياة الزوجية لابنتها أو ابنها؟ هل عمل المرأة وحصولها على راتب كبير يشجعها على طلب الانفصال عندما تختلف مع زوجها، مضحية باستقرار الحياة النفسية لأبنائها؟ وما دور الفن والأدب في تعزيز فضيلة التسامح لدى الإنسان؟ ولماذا يلجأ بعض الشباب من الجنسين إلى تعاطي الحبوب المهدئة؟ هل بلغ الإحباط في مصر إلى هذا المستوى البائس؟ وكيف نفسر ظاهرة النباتيين، الذي ينفرون من تناول اللحوم، والتي انتشرت إلى حد ما بين الشباب في مصر؟ ثم ما حجم الأثر السيء الذي يعتري الأبناء عندما ينفصل الوالدان؟ لقد تناسلت في الرواية هذه القضايا وغيرها بصورة طبيعية لا تكلف فيها ولا افتعال، أو هكذا حاولت، بحيث تخرج الرواية إلى النور محكمة البناء، ممتعة، مثيرة للأسئلة. أقول هكذا حاولت، والحكم على نجاح هذه المحاولة يعود إلى القارئ الكريم والناقد الحصيف".
عند الاطلاع على روايات عراق، جميعها، يلاحظ القارئ أنه حريص كل الحرص على كتابة الحوار بين شخوص الرواية باللغة العربية الفصحى، رغم أن هناك دعوات كثيرة للكتابة بالعامية حتى تغدو الرواية أقرب إلى الواقع، فالناس في بلادي لا تتحدث مع بعضها بعضا إلا باللهجة العامية، حول هذا الأمر قال "هذه قضية بالغة الأهمية، لأنني لاحظت أن كثيرًا من الروائيين، كبارًا وشبابًا، يجرون الحوار على ألسنة أبطالهم باللهجة العامية، وأظن أن هذا المنطق غير موفق بالمرة، لماذا؟ لأن الفن في المقام الأول ليس انعكاسًا مباشرًا فجًا للواقع. إنه لعبة جميلة تستهدف الإمتاع والإفادة. وسأضرب لحضرتك مثلا بسيطا: عندما نشاهد عبدالحليم حافظ يغني في فيلم بعض الأغنيات مثل: "أول مرة تحب يا قلبي"، أو "مشغول وحياتك" أو "بتلوموني ليه" أو "في يوم في شهر في سنة".. إنه يغني مع نفسه أو أمام حبيبته، فمن أين تأتي الموسيقى؟ لا توجد فرقة موسيقية في المشهد، ومع ذلك يدرك الجمهور تمامًا أنه أمام لعبة فنية جميلة اتفق خلالها الطرفان، الفنان والمتلقي، على تجاوز "المنطق أو الواقع" من أجل إبداع أغنية لطيفة معبرة.

novel
وصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر العربية عام 2012

ويضيف "الأمر نفسه ينطبق على الحوار في الرواية، حيث أزعم أن اللغة الفصحى الرشيقة البسيطة هي التي تمنح الحوار رقيًا وسموًا، ولا تنتقص من واقعيته "الفنية" إذا كان الروائي يملك المهارات الكافية للتعبير بهذه اللغة الفصحى عن طبيعة كل شخصية ومستواها الاجتماعي والثقافي. ثم أن التاريخ يؤكد لنا أنه لا يحفظ أي نص نثري باللهجة العامية، وإنما يحتفظ بالمئات من النصوص النثرية المصوغة باللغة الفصحى من أول كتابات الجاحظ والنفري حتى روايات طه حسين ونجيب محفوظ. "لا أتحدث عن الأغاني العامية التي تحتاج إلى دعم كبير يتمثل في اللحن والصوت كي ينصت إليها الناس". 
تبقى نقطة أراها بالغة الأهمية في مسألة رفضي لإجراء الحوار باللهجة العامية في رواياتي، ذلك أن هذه اللهجة ليست لها قواعد علمية معروفة، والفن الحقيقي هو الذي ينهض على قواعد مستقرة، ثم يأتي الفنان الواعي بهذه القواعد ويحاول تطويرها أو البناء عليها، واللغة الفصحى كما نعلم لها قواعد نحوية وصرفية معروفة، وبالتالي يمكن تطوير تراكيبها وتفجير طاقاتها المكنونة حتى تؤتي ثمارًا لغوية ذات مذاق أكثر جمالا وروعة.
وكشف عراق عن مشاريعه الروائية أخرى لافتا إلى أنه يكتب يوميًا مهما كانت الظروف معاكسة، إلا إذا اعتراني مرض أصاب جسدي بالإنهاك وعقلي بالتشويش، ولا أتوقف يومًا عن ممارسة هذه الهواية الفاتنة، فقد أضحت الكتابة بالنسبة لي مثل الماء والهواء لا يمكن الاستغناء عنها. وبالفعل، فقد أنهيت مؤخرًا روايتي الثانية عشرة واسمها "الأنتكخانة"، وستصدر مع معرض القاهرة الدولي للكتاب المزمع إقامته في يناير/كانون الثاني 2022.
واعتذر عن كشف الفكرة الرئيسة في "الأنتكخانة" مؤكدا أنه لا يفضل الحديث عنها قبل صدورها، لكن يمكن القول إنها تتناول منطقة غامضة إلى حد كبير في تاريخنا الحديث، الأمر الذي استلزم مني قراءة مراجع وكتب عديدة حتى أستطيع أن أعيش أجواء تلك المنطقة الغامضة، فأبتكر حكاية آسرة ممتعة ومفيدة.