إبراهيم الطنبولي: لا أفتعل اللوحة وكل تجلياتها تظهر لي أثناء عملي فيها

الفنان التشكيلي المصري عانى الكثير كونه خارج القواعد والتقاليد المدرسية والأكاديمية.
الطنبولي يحصد الجائزة الكبرى لبينالي شرم الشيخ الدولي للفنون في دورته الثالثة
فترة الدراسة بكلية التجارة قضيتها في مرسم الجامعة، وحصلت على الجائزة الأولى على مستوى الجامعات المصرية في النحت

تشكل تجربة الفنان التشكيلي إبراهيم الطنبولي إضافة فريدة للتجارب التشكيلية المصرية والعربية، حيث تهيأت الظروف للفنان منذ نعومة أظافره أن يشتبك بصريا وجماليا وفكريا مع عالم الفن التشكيلي نتيجة لنشأته في أسرة فنية، وقد حرصت هذه الأسرة ألا ينافس الفن في حياة ابنهم شيئا آخر، وألا تقيده قواعد وتقاليد وتيارات ومدارس فنية بعينها، أو أن يرتبط الفن عنده بالاسترزاق والتكسب، فأصروا على ألا يلتحق بكلية الفنون الجميلة، وأن يلتحق بكلية التجارة، وأن يعمل لينفق على فنه لا أن يسترزق منه أو يتكسب، وهو الأمر الذي أكسبه تأصيل الحرية في رؤاه الفنية من مرحلة إلى مرحلة، وأن يكون حريصا على الاختلاف والإضافة في خطوطه وألوانه وتكويناته ومعالجاته لتجليات الأفكار والرؤى. 
عانى الطنبولي الكثير كونه خارج القواعد والتقاليد المدرسية والأكاديمية، أخلص لفنه مجددا ومطورا لأدواته ومتابعا عن كثب للتجارب المحلية والعالمية، يقرأها ويتأملها ويعرف موضع ريشته وخطوطه وأفكار في هذا العالم الثري بالفن والجمال، واستطاع أن يقدم ما يزيد عن ألف لوحة لا تتشابه كل منها مع الآخر، وأن يجول العالم غربه وشرقه لتلقى أعماله الاحتفاء والتقدير الذي لم يحظ به في وطنه بسبب الشلليلة والتكتلات والتحالف هنا وهناك داخل الأوساط الفنية التشكيلية.

فكرة بينالي شرم الشيخ الدولي للفنون، فكرة إصرار من الفنانين الذين يرفضون ما يحدث داخل الحركة التشكيلية من تكتلات وشللية

وأخيرا حصل الطنبولي على الجائزة الكبرى لبينالي شرم الشيخ الدولي للفنون في دورته الثالثة، وكان لنا معه هذا الحوار حول حياته وبداياته وفنه. 
يقول الطنبولي "تجربتي بدأت منذ الطفولة قبل تعلم القراءة والكتابة حيث كنت أرى الحروف والكلمات التي يكتبها أفراد أسرتي كأشكال دون أن أفهم معناها، فكنت أمسك بالورقة والقلم و"أشخبط" معتبرا أن هذه الأشكال التي أشخبطها كتابة.. لقد نشأت في أسرة فنية فعمي الفنان لطفي الطنبولي وهو واحد من الفنانين المتميزين، وكانت أعماله تعرض في صالون باريس وكان يقام بالقرب من بيت الأسرة بينالي الاسكندرية الدولي في مجمع الفنان حسين صبحي للمتاحف (متحف الفنون الجميلة بالاسكندرية)، فالبيئة التي نشأت فيها كانت دائما محل احتفاء بأعمال الفن التشكيلي، هكذا شغفت بالفن وبدأت أتابع المتاحف والمعارض والفنانين، ووجدت أن تاريخ الفن التشكيلي أنجز فيه كل شيء، وتساءلت ما الذي يمكن أن أضيفه لهذا التاريخ الإنساني العظيم الذي قدمه الفنانون التشكيليون في أعمالهم، هذا التساؤل كان شغلي الشاغل عندما بدأت الرسم، ماذا يمكن أن أضيف للحركة التشكيلية في مصر وفي العالم كله؟".
ويضيف الطنبولي "فكرت ما الذي يمكن إضافته والتميز به، فكان الفن مركزا فنيا لحياتي انطلاقا من المرحلة الاعدادية ثم دخولي القسم الأدبي في المرحلة الثانوية رغم تميزي في الرياضيات لأن القسم الأدبي يدرس الرسم في صفه الثاني، حيث لم أكن أتخيل أن أتخلى عن الرسم، وكنت أخطط لدخول كلية الفنون الجميلة، وللأسف لم يتم ذلك رغم نجاحي في امتحان القدرات الذي يؤهلني للالتحاق بكلية الفنون الجميلة، رفض والدي دخولها وقال لي: لو أردت أن ترسم فلا تجعل الرسم مصدر رزقك، لأنك لو انتظرت أن تعيش من وراء الرسم لن تصبح فنانا متميزا وقادرا على الإضافة، سوف تحاول إرضاء الجمهور لكي تبيع لوحاتك وتحصل على المال لتعيش، لكن لو أنك تريد أن تكون فنانا حقيقا فلا بد لك من مصدر دخل وتمارس فنك وتبدع فيه بحرية دون انتظار شيء من أحد. وقد اقتنعت بفكرة والدي والتحقت بكلية التجارة".
ويلفت إلى أن "فترة الدراسة بكلية التجارة قضيتها في مرسم الجامعة، وحصلت على الجائزة الأولى على مستوى الجامعات المصرية في النحت، وهكذا لم أتوقف عن ممارسة الفن، واستمر الأمر حتى الآن حيث أفصل ما بين عملي وبين ممارستي الفن إلى أن تفرغت تماما للفن منذ حوالي تسع سنوات، وهو ما أتاح لي ألا أتقيد بمدارس أو اتجاهات فنية بعينها، بل أسعى للتمرد عليها وتجاوزها، ومن ثم انطلقت لأشكل عالما خاصة بي يعتمد على أفكار ورؤى تتماس مع وجودي الإنساني ككل. وبشكل يومي أنتهي من عملي وأذهب إلى مرسمي لأعيش للفن وحده".

ويؤكد الطنبولي أنه آمن أن الفن موهبة قبل أن يكون دراسة أكاديمية "الدراسة الاكاديمية ضرورة حتمية لمعرفة مفردات لغة التشكيل وهي التي تثقل وتنمي الموهبة، ومع ذلك درست بنفسي دون التعرض لأي تأثيرات من أي جهة، أرى وأتأمل وأفكر وأناقش، لذا كثيرا ما أنصح شباب الفنانين أن عليهم أن يروا بأنفسهم وأحاسيسهم ويقرؤون ويتأملون ويناقشون، فالأكاديمية في رأيي أسست لتعلم لغة الفن ومفرداتها للتعرف على التجربة والتجارب السابقة لكنها لا تعلم الفن نفسه، الفن نفسه يكمن في أسرار موهبتك وتطورات أفكارك ورؤاك، 
وهذا ما فعلته في رسمي، لقد أضفت تجربتي بصدق وأمانة، وتجربتي هذه لم يعشها أحد غيري ومن ثم لا بد أن تشكل إضافة من خلال الممارسة والتجريب تصقل الموهبة وتصبح هناك قدرة أكبر للوصول إلى ما تريد التعبير عنه وقوله دون أية معوقات، هذه المعوقات واجهتني في البدايات عند استخدام الخامات وتوظيفها وإخراج نتائج، لذا فإن التجريب أمر مهم لأنه يساعد على تطور وتجدد الروح الفنية. كانت وجهة نظري أن أعمل على مشروعي الفني دون افتعال وبتطور طبيعي وبحرية تامة، وقد كان التمسك بهذه الاستقالية في الرؤية غاية في الصعوبة خاصة وأننا في مصر لدينا مسطرة أو قواعد أو مقاييس مدروسة أو تقليدية نقيس بها جودة هذا العمل الفني من رداءته، ومن ثم الخروج على هذه المقاييس المرتبطة بمدارس أو اتجاهات أو فنانين كبار كان يعني الرفض لهذا العمل أو ذلك. 
عانيت كثيرا في مصر من هذا الأمر، حيث لم يستطيعوا تصنيفي أو إدراجي في اتجاه أو تيار فني بعينه مدروس لديهم، حتى كان عام 1991 كان لدي بعثة لدراسة اللغة الالمانية اشترطت أن أذهب إلى مدينة أستطيع أن أقيم فيها معرضا فنيا، واخترت مدينة مورناو بجنوب المانيا والقريبة من مدينة ميونخ العاصمة الثقافية لألمانيا والتي كانت موطن الدكتور شميت مدير معهد جوته بالاسكندرية، وتعرفت على عدد كبير من فنانيها، فوجدت رؤية مختلفة للفن، وأتيح لي زيارة إحدى كبار الفنانات ألمانيا وعالميا، في كل مكان في ألمانيا كنت أجد لوحاتها، عندما طالعت أعمالي استضافتني عندها، ووجدت تقديرا غير عادي للوحاتي، وقالت لي إنني لو قررت العيش هنا في ألمانيا ستصبح خلال فترة وجيزة من أشهر فناني أوروبا، ولمجرد احتفائها بأعمالي تم حجز قاعة لي لعرضها، وقد استقبلت أعمالي في المعرض بتقدير واسع، بعكس ما كان يجري لأعمالي في مصر من رفض لها. 
وحتى اليوم لم أدعَ إلى المشاركة في معارضها المحلية أو الدولية ممثلا لمصر، على الرغم من أن أعمالي عرضت في مختلف دول العالم من استراليا إلى أوروبا إلى كندا والكثير من الدول العربية ولدي مقتنيات لدى المتاحف بمصر والاردن وتونس وكذلك مقتنيات لدى المؤسسات والشركات و البنوك والافراد في مختلف دول العالم، والجميع يعلم ذلك.
ويتساءل الطنبولي أين القوى الناعمة المصرية التي كانت يوما ما تشكل ريادة عربية ودوليا، القوى الناعمة تعني الحضارة والثقافة والفنون، أين الاهتمام بذلك؟ إن الفنانين والمثقفين مهمشون على الرغم من أنهم يمثلون قوة المجتمع ماضيه وحاضره ومستقبله. ومع ذلك لم أقلق من هذا الوضع لأنني لم أكن أنتظر شيئا لا من الدولة ولا من مؤسساتها المنوط بها رعاية الفن التشكيلي ولا من الأوساط التشكيلية، فالمهم دائما عندي أن أبدع وأن أواصل الإبداع برؤى متجددة، هذا هو دوري، أما الترويج لأعمالي وتقديمي فهو مهمة جهات أخرى.
ويقول الطنبولي "حالتي النفسية والروحية تتجلى في لوحاتي، ففي ساعات الصفاء تتجلى البهجة والفرحة في أفكار ورؤى وألوان لوحاتي، وحين أكون في أجواء القلق ينعكس ذلك على لوحاتي، حتى أن اللوحة التي أرسمها في هذه الأجواء تصيبني بالاكتئاب، لكني دائما ما أحرص على ألا تجلب لوحتي الاكتئاب للناس فدوري أن أسعدهم وأدخل البهجة إلى أرواحهم، لذا لا أرسم إلا في حالة من الفرح والبهجة والصفاء، حتى القضايا والمشكلات الكبرى أعالجها بلوحة جميلة لتصل إلى جمهور المتلقين ويتفاعلون معها. فاللوحة لا بد أن تحمل البهجة في خطوطها وألوانها. ومن جانب آخر للموسيقى علاقة أصيلة وراسخة بلوحتي، فالأنغام ألوان تتشكل منها العوالم، ولا أشتغل إلا على أنغام الموسيقى الكلاسيكية وأغاني كبار المطربين والطربات، وغالبا ما يكون لهذه الأغاني ظلالها الواضحة في بدايات عملي على اللوحة. 

tamboli
مصر تملك فنانين تشكيليين على أعلى مستوى

ويرى الطنبولي أن المرأة شيء مهم جدا "هي تدخل في لوحتي بكامل حريتها وأنوثتها وأوجاعها وهمومها كوسيلة تعبير، المرأة هي الأرض والخصوبة، وهي الأم والحبيبة والأخت والابنة، هي رمز الوطن والحرية، تتجلى عليها كل الأحاسيس على اختلافها. المرأة ليست شكلا جميلا أو أنوثة وجنس بل وسيلة تعبير، وفي تاريخ الفن الكثير من الأعمال الجميلة فيها المرأة مشوهة كتعبير عن قضية أو مشكلة أو أزمة، فالشكل حالة إنسانية وليس تشخيصا لشخص امرأة أو رجل، وفي كل لوحة لي ستجد الشخصيات حاملة لحالة لا تتكرر من لوحة إلى أخرى، ومن بين ألف لوحة أو يزيد من أعمالي لا تجد لوحة مكررة فثمة دوما حالة جديدة ولغة لونية وإنسانية جديدة، اللوحة تتجلى لي ولست دخيلا عليها".
وحول تأثير الإسكندرية عليه يقول الطنبولي "كل أعمالي تنتمي للإسكندرية ببحرها وسمائها وشواطئها وآثارها وأهلها ومقاهيها ومهنها، والبحر بشكل خاص يمثل عشقي وطفولتي وشبابي وحياتي كلها، لذا فإن حضوره وحضور الإسكندرية كمدينة صاخبة وجميلة أمر طبيعي في أعمالي، لكن للأسف ما يحدث للاسكندرية الآن من تشويه يشكل جريمة لا تغتفر".
ويشدد الطنبولي على أن لوحته تتشكل في روحه ووجدانه وتتجلى على المسطح الأبيض لاستكملها "أنا لا أفتعل اللوحة، كل تجلياتها تظهر لي أثناء عملي فيها، فقط أعمل مثير لي وما أراه هو ما أؤكده وبمجرد الانتهاء منها، أتأملها كمتلق، وأبدأ في ترجمتها، لأصل أنها بالفعل تعبر عن الحالة التي كنت فيها أثناء عملي بها. إنني أستخدم كل الألوان ومع كل عمل جديد وأبدأ في تجربة وأعمل مثيرا، دائما ما أستخدم "باليت" جديدة أبحث فيها لأرى النتائج التي ستخرج منها، لذا لا أركز على لون خاص، لكن معظم ألواني تميل للموفات والأزرقات وألوان البحر التي أرتاح لها".
وحول كونه يجمع بين النحت والتصوير يقول "أول جائزة حصلت عليها عن عمل نحتي، فالنحت عشق خاص، وهو رؤية كتلة مع فراغ، وهو مهم جدا لأي رسام، وهناك رسامون كثيرون أصبحوا من أعظم النحاتين، والنحاتون تجدهم مميزون في لوحاتهم مميزون جدا، لا يمكن الفصل بين النحت والرسم، بل ليس هناك فصل بين أشكال التعبير الفنية التشكيلية، فأنا أشتغل نحت وخزف ورسم وتصوير فوتوغرافي، كل هذه وسائل تعبير بالشكل يمكنها أن تحمل رؤيتك وتشكل إضافة جديدة، بل ويمكنها العمل متجاورة في لوحة أو عمل نحتي أو.. إلخ. 
ويرى أن مصر تملك فنانين تشكيليين على أعلى مستوى، لكن البيئة التي يعيشونها غير صحية تماما، فهناك غياب تام للدولة ووزارتها للثقافة وإعلامها، هناك إهمال جسيم في رعاية الفن التشكيلي وفنانيه في مصر، مشاكلنا كثيرة ومع ذلك نحن نبدع ونلتقي ونتحاور. ومما يؤسف له أنه ليس لدينا حركة نقدية وإنما كتابات مجاملة، وأحيانا كتابات غامضة غير مفهومة، إن الناقد ضلع من مثلث الحركة التشكيلية لكن للأسف نحن نفتقده تماما.
ويختم الطنبولي مؤكدا أن فكرة بينالي شرم الشيخ الدولي للفنون، فكرة إصرار من الفنانين الذين يرفضون ما يحدث داخل الحركة التشكيلية من تكتلات وشللية، فحاول د.جمال مليكة أن يقول إننا نستطيع فعل عمل عالمي يليق بمصر وفنانيها، وذلك دون دعم من وزارة الثقافة أو هيئتها المنوط بها ذلك أقصد قطاع الفنون التشكيلية، ولكن بدعم من محافظ جنوب سيناء اللواء خالد فوده ورجل الأعمال صاحب المنتجع السياحي الذي استضاف إقامة الفنانين وفعاليات البينالي. والحمد لله هذه الدورة الثالثة لبينالي شرم الشيخ وقد حصلت على الجائزة الكبرى لها وقد فاز في الدورة الاولى والثانية فنانين رائعين من ايطاليا كما شارك في البينالي الحالي نخبة من الفنانين الكبار بايطاليا وانجلترا ومصر وكان لي الشرف في الحصول على الجائزة في هذه الدورة لتأكيد أن مصر تستطيع.