إبراهيم حميد وإشباع التوقعات المثارة

الفنان السوري يضيف مفردات جديدة لإستكشاف فضاءات تشكيلية جديدة، جامعاً بين الأسطورة والواقع.
عشتار سيدة الفرات هي أمي التي غادرتني هي حبيبتي تداعب وجهي
الهروب نحو الأمام بمثابة الحل الوسط بين الرغبة الحرة، والوجع العميق الجذور

هي عشتار سيدة الفرات 
هي أمي التي غادرتني
هي حبيبتي تداعب وجهي 
في التراب والضباب 
هي كلمات قالها إبراهيم حميد (1959 - البوكمال) في لوحته عيشة سيدة الفرات، بل هي لوحة أخرى رسمها بالأحرف، لوحة لا تقتصر على مواجهته لتلك الحالات التي تسهم في حجم حركيتها، بل تنطلق من ذلك الجزء الكبير الذي له أثره الكبير في الإنتشار العمقي / العامودي في أروقة الذات وما تحمله من ذهنية تزأر حنيناً لتلك الأشياء التي تضفي على ملامحه صورا إنسانية فراتية والتي باتت تتمثل في أعماله على نحو كثيف، متخطياً بها مجموعة الحالات بقيمها الظرفية، دافعاً عجلة تجربته وفقاً لتتابع حركي وفضاء مفتوح غير مكتفي بتلك الخيارات القائمة على التسجيل الخطي والشكلي، فهو يضيف مفردات جديدة لإستكشاف فضاءات تشكيلية جديدة، جامعاً بين الأسطورة والواقع، بين المسائل الشكلية وبين رؤياه الخاصة، مصطبغاً بشيء من الرمزية والخيالية، معبراً بقوة مشاهده التعبيرية، آخذاً بها نحو أبعاد جديدة بعناصر تصويرية تكرس إهتماماته بحقول جديدة لا يتعذر الحرث فيها بوسائله التقنية والتي بها يواجه هواجسه البصرية وفق عمليات الإدراك البصري في أقصى تسجيلاتها، وهذا يعني أن العملية الإبداعية لديه تكتسب إحدى خصائصها الجمالية المرجوة من خلال تلك المواجهة، وحميد يولي ذلك ما تستحقه من إهتمام.

إبراهيم حميد مدفوع بثقة رصينة في التعامل مع المكان، فهو الذي يزوده بخرائط معرفية بها يمضي إلى أنهاره المتدفقة ويعوم فيها ليجرها إلى خرائطه تلك بشمولية تصوراته ومناحيها المختلفة، دون أن يتخطى تلك العلاقات الداخلية بين مختلف سطوح اللوحة، محتفظاً بتلك التناغمات الغنائية التي تلد من حشرجاته اللونية، برموزها التراثية، بإنتماءاتها الترابية، ودون أن يتخلى عن البعد الثالث أو ما يسمى المدى الفضائي مستخدماً اللون القاتم منطلقاً نحو الإختزال الذي يحول عمله الفني لا إلى مجرد مفاهيم متجانسة فحسب، بل إلى بنية تأليفية لا تكون الأفكار فيها العنصر الأساسي والأهم، وإنما التحولات الشكلية في مجالاتها الأساسية وما تخضع للتأويل وإعادة البناء هي التي ترتسم بأبجديته هو، وتكتسب حضوراً ذي دلالات وإشارات يمكن قراءتها مهما كانت مبهمة.
قلت إن إبراهيم حميد مدفوع بثقة رصينة في التعامل مع المكان دون أن تعيق رؤياه تلك الجغرافية المتموجة إرتفاعاً أو إنخفاضاً، المغلقة جزئياً، المفتوحة من أكثر جوانبها المرتبطة بالدعوة على إستكشافاتها، ولهذا حميد غارق في فراته وباديته، في وجوهه الترابية التي تضفى عليها إيقاعات سائدة في التاريخ، بنغماتها الصغيرة أو الكبيرة، بأشكالها المنزاحة لتلك التآلفات النغمية، غارق في التوقعات اللحنية التي تنبثق من هيولى ألوانه وأحزانها، بنبضها المتسارع في إستجاباته المناسبة للنقرة الإيقاعية لفرشاته، فحميد وبعمليات مفاجئة تبدو هي الآلية الجديدة التي منها تنطلق معظم نشاطاته أقصد أشكاله، يتتبع المراكز النغمية بعملياتها التي يقوم المتلقي معه بالإستماع إليها، نعم يقوم حميد بإشباع التوقعات المثارة في داخل عمله محققاً متعة جمالية يعيشها ويعيش معه متلقيه أيضاً، لكل فسحة منها أهميتها وهذا ما يسر متلقيه محركاً فيه مشاعر المتعة أو الألم تبعاً ما سيؤول إليها إشاراته من تأويل، فالأمر متعلق بالتمثيل الداخلي الخاص لكل منهما المتلقي والعمل الفني معاً، وحينها قد يبدأ نوعاً من التناغم بينهما، الفاصل فيه هو الحكم الجمالي وتلك الإحالات التي تتضمن إحساساً ما بالإرتياح والرضا والنابع من الشعور الخاص وهو إزاء الشيء / العمل الفني، والمرء في حرم اللوحة يتملكه خشوع وحال من التأمل، قد تزداد مشاعر البهجة والحب، أو مشاعر الخوف والرعب تبعاً لما يحدث بين الإتجاهين العملي والجمالي (المتلقي واللوحة) وتبعاً للطقس الذي يحوم في مسافاتهما، إن كان ضباباً كثيفاً أو كان حزيناً داكناً مزمناً، أو كان متنوعاً مصحوباً بالإبتهاج، فحميد يمكن أن يحدد الطريقة الخاصة بذلك، وقد يستخدم أسلوباً مفتوحاً غير متوتر لتوثيق الصِّلة بمفرداته مهما كانت درجة إنبعاثها، ويتركها تتوالى بحركيتها في هدوء منها ينبعث ويسترسل ما يريده حميد في مستوياتها الخاصة، وما يحب أن يفعله معتمداً على الرؤية الحسية الموجودة بداخله والتي لا يمكنه الإستغناء عنها.

وجوه فراتية، الراهب / الفرات العظيم، وشيج البنفسج / على الجانب الآخر من النهر، طفلة من فرات، فتاة فرات، وجوه في النهر، الميدوسا وشقيقاتها / دهشة فراتية، عناوين لأعمال إبراهيم حميد تكاد توجز بنيات التخيّيل الشعوري واللاشعوري لديه، وتحيلنا بدورنا ومن خلال الوسائل الخاصة إلى مشاهده المتخيلة والمتماثلة إلى حد ما مع حلمه إلى الإستجابة لها كقراء لدراساته وتفسيرها وربما إلى إعادة إنتاجها موضوعياً، فهو يسرد حكايا الأجداد بسيرهم وعجاجهم، بمشاهدهم المملوءة بالرغبات والطاقات والحياة التي تحدث في النهار أو في الحلم، بمشاهدهم ذي العلاقات الخاصة المندفعة بهويتهم في الطين والحزن الدفين، وما الإسناد على الفرات الذي يمارسه حميد إلا هروباً بإتجاهم فيغرق أحدهما في الآخر هم والنهر، ويبدأ خريرهما بالتدفق والجريان يشكلان مجرىً واحدا تضمهما متعة ومعنى، هماً ومدى، ويكون هذا التعبير أشبه بالهروب بهما نحو الأمام بمثابة الحل الوسط بين الرغبة الحرة، والوجع العميق الجذور.