إدوارد سعيد وطارق علي وجها لوجه

النص الكامل للحوارات التي أجراها الكاتب البريطاني من أصول باكستانية طارق علي مع إدوارد سعيد المنظر الأدبي الفلسطيني.
إدوارد سعيد: لم أشعر يوما بالانتماء إلى أي نظام قائم أو تيار مهيمن
معركة سعيد كانت ضد الوضع السياسي والثقافي الراهن في الغرب، وضد حكومات العالم العربي

يضم هذا الكتاب "إدوارد سعيد.. حوار مع طارق علي" النص الكامل للحوارات التي أجراها الكاتب البريطاني من أصول باكستانية طارق علي مع إدوارد سعيد المنظر الأدبي الفلسطيني وأستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن والتاريخ والمفكر الذي أنشأ مدرسة فكرية هي "ما بعد الكولونيالية". وهي حوارات تتطرق في جانب منها لمسيرة سعيد الحياتية والعلمية وآرائه في العديد من القضايا الفكرية والسياسية والثقافية والمجتمعية. وقد سجلت الحوارات في شقته الكائنة بريفرسايد درايف بنيويورك، في يونيو/حزيران من عام 1994 قبل عشر سنوات من تمكن السرطان منه، وقتذاك مثلت هذه الجلسات / الحوارات موضوع الفيلم التسجيلي "حوار مع إدوارد سعيد"، إنتاج "باندونغ فيلم" لحساب التليفزيون البريطاني.
يقول طارق علي في تمهيده للحوارات التي صدرت عن دار الكتب خان بالقاهرة "كانت معركة سعيد ضد الوضع السياسي والثقافي الراهن في الغرب، وضد حكومات العالم العربي، مهيمنة على بيوغرافيته. غيرت حرب الأيام الستة التي جرت في عام 1967 حياته ـ قبل هذا الحدث، لم يكن لديه أي التزام سياسي. والده مسيحي من القدس هاجر إلى الولايات المتحدة في عام 1911، وهو في سن السادسة عشرة، هربا من التجنيد العثماني والحرب ضد بلغاريا. أصبح مواطنا أميركيا وبالتالي خدم في جيش الولايات المتحدة في فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى. ثم رجع إلى القدس، التي ولد فيها إدوارد عام 1935، لم يزعم سعيد فيها أبدا أنه لاجئ في إطار حل معين كما ردد عدد من الذين شنعوا عليه لاحقا. 

ظللت فترة من الزمن مكرسا وقتي للأفكار التي نشرتها فيما قبل. لم أؤثر أبدا على المريدين ولا على المدارس. كان من الصعب على قراءة ما كتب ضدي. حتى عندما كانت الكتابات إيجابية

ويضيف "رحلت العائلة للإقامة بالقاهرة التي أسس وديع سعيد فيها مكتبة لبيع الأدوات المكتبية. وهكذا أرسل إدوارد إلى مدرسة أنغلوفونية خاصة بالنخبة. كان وحيدا في مراهقته تحت سلطة الأب ذي العقلية الفيكتورية، ذي العينين اللتين تريان ضرورة أن يكون الصبي واقعا تحت نظام ثابت وتحت حياة استثنائية بلا أصدقاء. ولذلك حلت روايات ديفو وسكوت وكيبلنغ وديكنز ومان محلهم. أطلق عليه إدوارد تيمنا بأمير الغال. رغما عن سلطة الأب المطلقة، لم يرسل إلى بريطانيا العظمى للدراسة وإنما إلى الولايات المتحدة في عام 1951. بعد ذلك كتب سعيد أنه كره إقامته الداخلية "الطهرانية والمرائية" (الجامعة) نيوإنغلاند: كانت مدمرة ومحيرة". إلى ذلك الحين رغب أن يعرف بالضبط وضعه مرفوقا "بصور ضعفه المعنوي والجسماني". في الولايات المتحدة كان عليه أن يغير كل شيء دفعة واحدة "لكي يندمج في النظام".
في حوارهما حول المثقفين والسياسة، يقول إدوارد سعيد "تعاطفي يتجه نحو اليسار وبالنظر إلى ذلك، أنشغل دوما بفهم العالم كما صاغه من أسميهم المثقفون التقدميون المنتمون إلى اليسار، ولكن من المؤكد أن هناك على السطح التاريخي أشخاصا مثل ويندام لويس، أو تي. أس. إليوت، وهم من مثقفي اليمين، تبنيا هذه النظرية والتزما بها على نحو دقيق. لا أعتقد أن هذا الشأن يخص اليسار فقط ـ ولكنه يوجد في كل ما يثير اهتمامي، إيثاري، تعاطفي، ولكنه يوجد لدى اليمين كما يوجد لدى اليسار".

وحول تساؤل عن صورة المثقف في الحياة السياسية وكونها على وشك التلاشي كل يوم أكثر من سابقه يقول إدوارد سعيد "يتبدى لي أن العالم ممتلئ بما أطلق عليهم خبراء أو محترفين، وليس بكثير من المثقفين ـ وهذا، بالنسبة لي، تهديد كبير للحرية الثقافية وللفكر. يمارس عليهم ضغوط رهيبة بهدف استعمال كفاءتهم ومعارفهم في مجال معين، كما في السياسة الخارجية مثلا. في السياسة الخارجية في أفريقيا، في الهند، أو في أميركا اللاتينية، أليس كذلك؟ وبذلك، كل من يمثل جزءا في جماعة من الخبراء ملزم ببيع تجارته حسبما النظام القائم. وليس الهدف الأول قول الحقيقة أو توضيح الطريق الصحيح للخروج من الدرب، وإنما على العكس المحافظة على الوضع القائم لإشباع حاجة العميل، والبقاء في الحقيقة في خدمة العملاء بدلا من خدمة القضية أو الفكرة القائلة بأن على المثقف القيام بالخدمة أو على الأقل عرض أفكاره. وبالتالي ليست المشكلة مشكلة تلاشي المثقفين في الحياة العامة ـ كيسنجر يمضي وقته كله على شاشة التلفاز، وكذلك بريزنسكي وبول جونسون. إنهم مثقفون يتحدثون بلغة السوق، يعبرون عن أفكار السلطة التي تحكم العالم الذي نحيا فيه.
وواصل طارق علي سؤاله: غير أن هناك مثقفين حسب نمط سارتر وبرتراند راسل؟ ورد إدوارد سعيد "بالضبط، أعتقد أن المثقف المنشق على وشك التلاشي، وهذا راجع في جانب كبير منه إلى أن النظام لا يريده، ولا يستطيع الاحتفاء به في آخر الأمر. ولهذا السبب، مثقف مثل "جون" جونيه مهم بالنسبة لي، جونيه لا يقوم بأي تسوية ـ ولكنها حالة صعبة. تشومسكي مثله. أحد ما صعب قبوله، على اعتبار أن كل ما يقوله أو يعرضه يثير ضجر النظام ببساطة وبالتالي يستبعده.
وقال إدوارد سعيد حول علاقته بالهوية وما إذا كان يشعر بأنه منفي أو مبعد "لا، أنا منفي، كما أعتقد. ولكن، بكل صراحة، سؤال الهوية، وبالأخص هويتي، يتبدى لي مضجرا للغاية، لا يثير اهتمامي حقا. وأقول بالنسبة لما تبقى لي من العمر، أنني سأحاول الابتعاد عنه بدلا من تعزيزه. أحب فكرة ـ ونيويورك تشجعني ـ تغيير الهوية أو الحصول على أكثر من هوية. أيا كان العدد والثمن. لدي القليل من الوقت لكي أهتم بالانضمام إلى جماعة قومية. وهذا لا يتبدى في نظري جذابا. على وجه الخصوص قليل الإثراء من الناحية الثقافية. أراه خداعا، وبالتأكيد يزيد الإفقار. عفوية الانضمام وليس النسل، هي الأهم لدي. الصداقة، العلاقة الثقافية والروحية بالآخر تجلب لي أكثر مما يتولد من هويتي الأصلية.

كل هذه الصور التي أعارضها تخدر الفكر
غيرت حرب الأيام الستة حياته

وفي إطار مناقشته لقضية الاستشراق تساءل طارق علي: بطريقة ما تريد أن تظل التلميذ الذي كنته في مصر، الذي يناضل ضد التيار المهيمن؟ وجاء رد سعيد "نعم، بالتأكيد، لم أشعر يوما بالانتماء إلى أي نظام قائم ولا إلى أي تيار مهيمن. أهتم بهذه التيارات، أغير منها، وأحيانا أحسد المنتمين إليها ـ لأنني لست منهم، بالتأكيد ـ ولكن بصورة عامة بالنسبة لي هم العدو. أرى أن كل ما يمثل السلطة، وبالمثل القوانين، الدوغمائيات، الأورثوذوكسية، النظام القائم، في الحقيقة كل ما نهدف إلي معارضته. على الأقل، كل هذه الصور التي أعارضها تخدر الفكر. أعتقد أن كل ما تحدثنا عنه للتو، هذا التمييز الجاري بين السياسة والثقافة، ينبجس حقا من الكسل العقلي. هناك نقد رسمي لتقرير دراسة هذا الموضوع أو ذاك، وذلك لأننا لا نمتلك الوقت ولا القوة الكافية لدراسة أي شيء في آخر الأمر. في الحقيقة يتم المحافظة على الوضع القائم المقيت والصعب تحمله، كما عرفت في آخر التحليل. وهكذا أقوم بالتحريض. أرى نفسي محرضا.
وداخله طارق علي: ولكنك تقوم بالتحريض ضد كل الأورثوذوكسيات وليس فقط أورثوذوكسية الوضع القائم؟ فقال إدوارد سعيد "أقوم بالتحريض على نفسي، لأنني بالنسبة لي المعركة الأولى ـ بمعنى أنني كاتب، مفكر، إلخ ـ تتأسس على عدم ترك نفسي منغلقا في قوقعة، غير قابل للتوقع، ولا متأثر، مثلا، بنتاجي السابق. ظللت فترة من الزمن مكرسا وقتي للأفكار التي نشرتها فيما قبل. لم أؤثر أبدا على المريدين ولا على المدارس. كان من الصعب على قراءة ما كتب ضدي. حتى عندما كانت الكتابات إيجابية. كل هذا يتبدى من خلال نفاد الصبر الذي يميزني، كما أعتقد، وأحاول المحافظ عليه.