إسلامويّة الدولة غيرُ إسلامويّة الحركة

الباحث التونسي علي الصالح مولى يرى أن الدستور الإيراني لم يأتِ إلا لتثبيت موقع الوليّ الفقيه وشرعنة سلطته قانونيّاً.
أحداث إيران الفريدة طرحتْ راهنيّةَ ظاهرة جديدة، على الأقلّ بالنسبة إلى نهاية القرن العشرين
لا يستطيع الباحثون في الإسلامويّات السنّيّة موضوعيّاً أنْ يعودوا بها إلى أبعدَ من ابن تيميّة

أكد المحاضر في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، صفاقس، تونس، د.علي الصالح مولى أنّ الإسلامويّة الشيعية الإيرانية التي تتبنّى المذهب الاثني عشريّ أصبحتْ تتحكّم في مصير العدد الأكبر من جمهور الشيعة باعتبار أنّ هذا المذهبَ هو الأوسعُ انتشاراً بينهم. وقال "لمّا كانت هذه الإسلامويّة إسلامويّةَ دولةٍ لها سلطة ونفوذ وقرار في محيطها الإقليميّ وفي الفضاء الدوليّ، ما كان مستغرباً أنْ تدخل في تنافس مع مركز الإسلام السنيّ (المملكة العربيّة السعوديّة) لتنمية قابليّة المسلمين للاندراج في ما يُمْكن تسميتُه بحروب المذهبيّات الإسلامويّة. وها هنا تكتسب الإسلامويّة وظائف أخرى، منها أنْ تكون ذراع فتنة وفوضى وانتقام تحتَ تصرّف هذه الدولة أو تلك".
وقارب مولى في كتابه "الإسلاموية الشيعية.. السياق والأسس والخصائص"، هذه الإسلامويّة من جهة مصطلحاتها ومرجعيّاتها وسياقات نشأتها ومسارات تطوّرها ومنزعها التأويليّ والمآل الذي انتهتْ إليه، ليجئ الكتاب الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، في أربعة فصول: توجّه الأوّل إلى البحث في شبكة المصطلحات التي تَنتظم داخلها مجموع الأفكار والتصوّرات والمبادئ والقيم التي نَعدّها الأعمدة المركزيّة التي قامت عليها الإيديولوجيا الشيعيّة عموماً واستثمرتْها على نحو فعّال الإسلامويّة الاثنا عشريّة، وبنتْ بها معمار أطروحتها في العقيدة والسياسة والدولة. 
وانصرف النظر في الفصل الثاني إلى الإحاطة باتّجاه هذه الإسلامويّة التأويليّ والبحث في مستنداتها والكيفيّات التي انتصرتْ بها على الاستضعاف والانتظار التاريخيّيْن والعقائديّيْن في آن. حيث كان العمل في هذا الفصل مُوَجَّهاً نحو الفقه الشيعيّ المجدّد. ولم يكن بالإمكان إلّا تخيّر كتاب الخمينيّ "الحكومة الإسلاميّة" لرصْد مقدّمات التجديد ومادّته وأهدافه. فهذا الكتاب معدود عند المختصّين أبرزَ ما أنتجتْه التأويليّة الإسلامويّة الاثنا عشريّة. 

علي الصالح مولى: دولة الفقيه أفرزها استفتاء شعبيّ
علي الصالح مولى: دولة الفقيه أفرزها استفتاء شعبيّ

وتكفل الفصل الثالث تجريبَ تلك المدوّنة واعتمادها قاعدة تشريعيّة. حيث تابع الباحث تصريف ما تضمّنه كتاب "الحكومة الإسلاميّة" في "دستور جمهوريّة إيران الإسلاميّة" بعد أنْ نجحت الإسلامويّة الشيعيّة الاثنا عشريّة في السيطرة على مقاليد السلطة. لتكون أسسُ الدولة الدينيّة ونظامُ عملها والقيمُ المنتجة لها ومستقبلها مَطالبَ أساسيّة يحاول أنْ يقدّم في شأنها بعض الإجابات. وفَرَض مَنطق الدولة الإسلامويّة تخصّيص الفصل الرابع للجغرافيا السياسيّة والعلاقات بين الدول، والاهتمام بالتنازع بين الحوزة والدولة في المجال العراقيّ - الإيرانيّ، وانشغلنا بالولاء المذهبيّ أَيكون للدولة أم للمرجعيّة. وفي الأثناء تم التعامل مع مسألة تصدير الإسلامويّة انطلاقاً من هذا السؤال: إلى أيّ مدى يُمكن إنتاج مرجعيّة شيعيّة وطنيّة؟
وأضاف مولى "لئنْ كانت إيديولوجيا الانتظار التي فَرَضَها فقدانُ الإمام الثاني عشر قد أوقعت الناسَ في سلبيّة أوشكت أنْ تُخرجَهم من التاريخ، فإنّ بعض المحاولات للخروج من مأزق الغيبة وتفتيت معقوليّتها آتتْ شيئاً فشيئاً أُكلَها. كان ثمّة اتّجاه تأويليّ لصالح الجماعة الشيعيّة المحتاجة إلى مَنْ يُجيب عن أسئلتها اليوميّة، ويُشعِرَها بأنّ الانتظار ينبغي ألا يكون ظُلماً يُضافُ إلى الظلم الأوّل. وكانت ولادة الفقيه بمنزلة الثورة في نظام الفكر الشيعيّ الإماميّ الاثنيْ عشريّ". 
ورأى أن "كلّ ذلك كان تاريخاً انتظمتْ مادّتُه الوفيرة في سرديّة مُتْقَنَة الصناعة، غيْرَ أنّه لم يكن مُجرّدَ تاريخ تُسْرَدُ وقائعُه فحسب؛ فالتاريخُ في الإيديولوجيا الشيعيّة حاضر ومستقبل. ولذلك نودّ أنْ نؤكّدَ أمراً هو أنّ الإسلامويّة الشيعيّة الاثنيْ عشريّة، على خلاف الإسلامويّات السنّيّة، هي نفسُها تقريباً المذهبُ الاثنا عشريّ خاصّة في شقّه الاجتهاديّ المنتهي إلى أطروحة ولاية الفقيه المستوطن في إيران اليوم". 
وأوضح مولى "لا يستطيع الباحثون في الإسلامويّات السنّيّة موضوعيّاً أنْ يعودوا بها إلى أبعدَ من ابن تيميّة (1263-1328)، وإنْ توسّطوا جعلوا محمّد بن عبدالوهّاب (1703-1791) مَرجِعاً لها. وقد يَحْرمها بعضهم من أيّ نسبة إلى التاريخ فيجعلها بلا أصل، سوى أنّها منتوج هذه المؤامرة الدوليّة أو تلك. وهي، فوق ذلك، إسلامويّات نشأت نشأة احتجاجيّة على مجتمعاتها وحُكّامها. وليس هذا شأنَ الإسلامويّة الاثنيْ عشريّة. فقد نشأت، منذ أنْ نشأتْ، حافظةً وجود الشيعة، قائدة لهم، مُجسّدةً انتظاراتهم وقدْ أقامتْ لهم دولتهم التي استعادوا بها حقّهم المسلوب".

لئنْ كانت إيديولوجيا الانتظار التي فَرَضَها فقدانُ الإمام الثاني عشر قد أوقعت الناسَ في سلبيّة أوشكت أنْ تُخرجَهم من التاريخ، فإنّ بعض المحاولات للخروج من مأزق الغيبة وتفتيت معقوليّتها آتتْ شيئاً فشيئاً أُكلَه

وأكد على فكرة أساسيّة في التجربة الإسلامويّة الاثنيْ عشريّة تتصّل بأطروحة ولاية الفقيه مفادُها كما أشار "أنّ التعمّق في بنية الفكر العقائديّ الإماميّ لا يترك أيّ إمكانيّة لزعم أنّ الدولة الإماميّة بإمكانها أن تكون دولة ديمقراطيّة. فحين تكون الولاية العامّة للإمام المعصوم حصراً، فذاك يعني أنّ المسألة السياسيّة لا تخرج عن سلطانه، وسلطانُه إنّما هو تنفيذ لِمَا يأتيه إلهاماً من الله كأنّه الوحي. وعمليّات الإنعاش التي قُدِّرَ بفضْلها للنظريّة الإماميّة أن تبقى حيّة لم تتجرّأ على أن تكون اجتهاداً يُبيحُ للوكلاء والنوّاب أنْ ينفصلوا عن ضوابط تلك البنية العقائديّة. وأمّا محاولاتُ الاختراق الجدّيّة القليلة، فلئن شهدنا لصالحها باعتبارها أنتجتِ الفقيه بديلاً للوكيل والنائب، لم تَرْقَ إلى مستوىً في الاجتهاد يضعها في تَعارُض مع مرتكزات البنية العقائديّة الإماميّة. إنّ أقصى ما قدّمتْه يتمثّل في تحرير النظريّة الإماميّة من مشكلتيْن كانتا، مع فارق بينهما، تمنعانها من الانعتاق: الانتظار حتّى يعود الإمام الغائب، والنيابة التي تَحُدّ من سلطات القائم بها. 
واعتبر مولى أن "دولة الفقيه، التي أفرزها الاستفتاء الشعبيّ العامّ عقِبَ الإطاحة بالحكم المَلكيّ، تجسيداً عمليّاً لنظريّة الحكم التي أقام قواعِدَها الاتّجاهُ الاجتهاديّ المنتصر لمبدأ أنّه لا يخلو زمان مِن إمام. وكان الدستور الذي بَلْور من الناحية التقنية قواعدَ التحكّم في السلطة مثالاً جيّداً على الطريقة التي يَبني بها العقل الدينيّ فلسفة الحكم ومصادرَ الشرعيّة. فقد رأينا أنّ "دستور الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة" لم يأتِ في المقام الأوّل إلا لتثبيت موقع الوليّ الفقيه وشرعنة سلطته قانونيّاً، بعد أنْ حظيَتْ باجتهادٍ فكّ عن الفقيه كثيراً من القيود التي كانت تمنعه من القيام بالوظائف المخوّلة للإمام دون سواه. 
وتابع: البحثَ ساقنا إلى الوقوف على علامات كثيرة إنْ مرَّ بها قارئٌ متعجّل هُيِّئَ له أنّها دالّة على انتماء هذه الدولة إلى الأفق الحداثيّ عامّة والديمقراطيّ خاصّة. فقد كان الإلحاح على الانتخاب آليّة متواترة في موادّ كثيرة من الدستور. وكانت قائمة الحقوق والحرّيّات المكفولة بنصّ الدستور مغريةً أيضاً، غيْرَ أنّ التأنّيَ يَنقُضَ هذا الوهم. فآليّة التعيين كانت القوّة الضاربة التي تَفْرِضُ أنْ تكون فلسفة الحكم وأدواتُه في قبضة المرشد الأعلى النائب عن الإمام المعصوم. وقد أدّى بنا ذلك إلى تقرير أمر وهو أنّ الدولة التي صنعتْها الثورةُ دولةٌ ذاتُ هويّة مُلْتَبِسَة، فهي من جهة مطبوعةٌ بطابَع حديث بدليل البنود الدستوريّة الكثيرة التي تصبّ في مصلحة حماية الحقوق العامّة والفرديّة، وهي من جهة أخرى مطبوعةٌ بطابَع ثيوقراطيّ يكبح كلّ نزعة للإفادة من تلك الحقوق ويضع دون الحالة المدنيّة خنادقَ جمّة. ولم تُغادِر أطروحة "السيادة الشعبيّة الدينيّة"، التي اقترَحَها علي خامنئي، فلسفة الحكم الدينيّ المُؤَلَّه، على الرغم من الزخْرُف الذي قُدِّمَتْ فيه. فقد تمّ تصنيعُها مِنْ سِجِلّيْن ذوَيْ مرجعيّتيْن متقابلتيْن: السيادة الشعبيّة والسيادة الدينيّة. وأغلبُ الجهد الذي بُذِلَ لترويجها اتّجه نحو شرعنة التركيب المُهَجّن بين مصدريْن للسيادة ونظاميْن للحكم: ديمقراطيّ وثيوقراطيّ. 
وشدد مولى على أنّ وقائع الأرض ومحصول الدراسات المتخصّصة في هذا الميدان لا تمنح هذه الإسلامويّة الشيعية فُرصاً حقيقيّة للتمدّد عقائديّاً، غير أنّ تملّكها بالدولة وامتلاكها قوّتها الليّنة والصلبة في فضاء جغرا- سياسيّ غير مستقرّ جعلها تُنافِسُ دول الجوار من زاوية أخرى. ونظنّ أنّ هذه مسألة لم تَلْقَ الاهتمام اللازم من المتخصّصين في الدراسات الإسلامويّة، نقصد أنّ إسلامويّة الدولة غيرُ إسلامويّة الحركة. فإذا كان مَطلبُ الحركة هو الوصولَ إلى الدولة، فمطلبُ الدولة الإسلامويّة هو أنْ تَكُونَ مشروعاً لدولة العالَم الكبرى؛ أيْ دولة المهدي. وحين اقترحْنا الاشتغال بالحوزة في العراق، فلأنّها من العناصر الأساسيّة لدراسة سلوك الدولة وليس سلوك الحركة. 
وقد تمكنّا، في هذا الإطار، من بلورة التصوّرات الكبرى التي تحكّمتْ في العقليْن الحوزويّ والدولتيّ. وانتهيْنا إلى خلاصات منها أنّ العراق الغنيّ بتنوّع نسيجه المجتمعيّ لم ينخرط في مأزق "تطييف" وجوده الهُوَويّ إلا في السياق الجيوسياسيّ المعاصر حيث كان التنافس قويّاً من أجل التموقع في خارطة الخليج بين القوّتيْن العروبيّة - البعثيّة، والإيرانيّة - الفارسيّة. وقَدّرنا، في ضوء ما وصلْنا إليه، أنّ تحويل المذهب الشيعيّ الموجود وجوداً موضوعيّاً في العراق إلى مذهبِ طائفةٍ لا يُمْكنُ إلا أنْ يَدفَعَ به، وهو المعزّز بثقافة المظلوميّة، إلى الاحتماء بجماعته الكبرى ومرجعيّته العليا فيخرج من المذهبيّة إلى الإسلامويّة. وبهذا تتشقّق أركان الدولة ويتحلّل نسيج المجتمع. 
وختتم مولى معلقا على ما جاء على لسان داريوش شايغان: إنّ أحداث إيران الفريدة من نوعها في العالَم الثالث طرحتْ، بإلحاح استثنائيّ، راهنيّةَ ظاهرة جديدة، على الأقلّ بالنسبة إلى نهاية القرن العشرين. هذه: الانبعاث السياسيّ لطبقة الكهنة المغلقة، التي كان يُظَنّ أنّ العَلمانيّة المنتصرة في العالَم قد حاصرتْها إنْ لم تكن حيّدتْها. 
ويقول: مِنْ داخل سياق هذا القول المستفزّ، لا يُمكننا إلا أنْ نتساءل عن مآل تجارب التحديث التي خاضت غمارها حكوماتٌ عربيّة وإسلاميّة كثيرة مباشرة بعد تأسيس الدولة الوطنيّة: هل عصفتْ بها الأطروحات الإسلامويّة؟ وهل كانت دولة الفقيه الوليّ ثأراً باهظ الثمن من مسار العلمنة والتحديث الذي قادته المَلكيّة الشاهنشاهيّة؟ وهل سقط بسقوط المَلَكيّة كلّ الرهان الحداثيّ؟".