إسماعيل مظهر .. جدل العلم والدين والحرية

إسماعيل مظهر لم ينَلْ ما يستحقه من اهتمام مؤرخي الفكر العربي، بالرغم من أنه يأتي على رأس تيار يوصف بأنه التيار العلمي في الفكر المصري المعاصر.
مظهر تميز بذهنية عالية تُلْزم نفسها بصرامة العلم ومنهجيته ودقته
شارك في تأسيس "المجْمَع المصري للثقافة العلمية" عام ۱۹۲۷

القاهرة ـ من حازم خالد

لا شك أن الكاتب والمفكر إسماعيل مظهر (1891-1962) لم ينَلْ ما يستحقه من اهتمام مؤرخي الفكر العربي، بالرغم من أنه يأتي على رأس تيار يوصف بأنه التيار العلمي في الفكر المصري المعاصر، ذلك التيار الذي ينتصر للعلم ونظرياته ويبشر بإنجازاته. 
لقد لمع اسم مظهر في زمن لطفي السيد وطه حسين وعباس العقاد وسلامة موسى ومحمد حسين هيكل .. وغيرهم من المثقفين الموسوعيين العظام من مفكري الليبرالية المصرية، وإن تميز بينهم بموسوعيته التي مالت إلى نظريات العلم الحديث، الطبيعي والتجريبي، ثم إنه تميز بذهنية عالية تُلْزم نفسها بصرامة العلم ومنهجيته ودقته، فترك لنا تراثاً كبيراً. احتفل به بعض الدارسين في حقل الفلسفة، وإن لم يَلْقَ عناية كبيرة من جانب المؤرخي.
ونتيجة لاهتماماته المبكرة بقضية العلم والدين، وقضايا الحرية، أصدر ترجمة عربية لكتاب داروين "أصل الأنواع" عام 1919 وأعقبه بترجمة عدد من الكتب العلمية والأدبية عن الإنجليزية؛ خاصة وأنه كان يجيد الإنجليزية كأهلها، بعد أن درس في جامعتيْ لندن وأُكسفورد (1908-1914). وقد أسس، كما هو معروف، مجلة "العصور" (۱۹۲۷- ۱۹۳۰) كما تولى رئاسة تحرير مجلة "المقتطف" (1945-1949) التي كانت تُعني بالعلم ونظرياته عناية خاصة .

الكتاب يستعرض رؤية إسماعيل مظهر لبعض أهم مفاهيم الفكر السياسيّ الحديث "اللبرالية – الرأسمالية – الاشتراكية"، وعلاقة هذه المفاهيم بالإسلام لديه

وقد اشترك مع فؤاد صروف وعلي مُشرَّفة وزكي أبو شادي في تأسيس "المجْمَع المصري للثقافة العلمية" منذ عام ۱۹۲۷، وكان سكرتيراً له. كما عمل مظهر محرراً بمجمع اللغة العربية، ثم صار عضواً به عام 1961. وقبل رحيله كان قد أصدر مجموعات من مقالات صهره أحمد لطفي السيد مُصنَّفة في أكثر من كتاب. كما أنه شرع في كتابة سيرة ذاتية لنفسه، لم يُتمّ سوى جزء واحد يتناول فترة الشباب تحت عنوان "تباريح الشباب". لقد كان مظهر مؤمناً بوحدة المعرفة، وبأن الترجمة أساس لكل نهضة، وأن الموسوعات تُعدُّ من ركائز النهضة، وأن اللغة العربية هي مَلاكُ النهضة.
وكان مدافعاً قوياً عن حرية الفكر، ومن الرواد المبشرين العلميين في ثقافتنا العربية؛ لذلك جذبت شخصيته وكتاباته د. أحمد صلاح الملا، فقدم عنه كتابه "إسماعيل مظهر .. جَدَل العلم والدَّين والحُرَّيَّة" (الهيئة المصرية العامة للكتاب) الذي تناول فيه بالدراسة جدل العلم والدين والحرية عند إسماعيل مظهر؛ ليضعه في مكانته المستحقة من تاريخ الفكر العربي المعاصر.
ترسيخ المفاهيم
وقد سعى المؤلف للإحاطة بأهم جوانب فكر إسماعيل مظهر ، حيث كان من أغزر مثقفي جيله إنتاجاً، كما كان أيضاً واحداً من أكثر من تنطبق عليهم فيه صفة "الموسوعيَّة"، إذ بينما كانت بؤرة عمله - كما هو معروف - ترسيخ مفاهيم ونظريات العلوم الطبيعية الحديثة في الثقافة العربية والدعوة المتحمسة للنظرية الدَّاروينيَّة في النشوء والارتقاء، تنوع جهده أيضاً بين دعم قضايا المرأة ومحاولة بلورة رؤى متكاملة للنهوض بالتعليم، وكذلك لتطوير اللغة العربية بما يسمح لها باستيعاب مفاهيم ومصطلحات العلم الحديث.
وعلى مستوى آخر - كما يؤكد المؤلف - كانت لمظهر اهتمامات عميقة بالفكر السياسيّ الحديث، فدعم الحركة الكمالية في تركيا وكتب كثيراً عن اللَّيبْراليَّة والرأسماليَّة والاشتراكيَّة، من موقعه الفكري الذي التزم اللَّيبْراليَّة دائماً والعلمانية أحياناً !
ولَعلَّ من أبرز ما يلفت النظر في كتابات مظهر، فضلاً عن تنوعها وموسوعيتها، ما تميزت به هذه الكتابات من دقة وصرامة منهجية، بشكل بلغ أحياناً حدود التخصص الاحترافي الدقيق في كثير من المجالات التي كتب فيها الرجل. 

عمل محرراً بمجمع اللغة العربية
من مفكري الليبرالية المصرية

وبشكل أساسي، فإن ما تناوله الكتاب من منظور جديد، هو الآلية التي عمل بها عقل إسماعيل مظهر في جميع المجالات التي عُني بها، والقائمة على الجدل المتأرجح والمضطرب بين النقائض أحياناً، فعلى مستوى العلاقة بين العلم والدين أو العَلْمانيَّة والدين على سبيل المثال، أدى هذا الجدل المضطرب لدى الرجل – في كثير من الحالات- إلى قفزات مفاجئة بين الوسطيَّة الكلاسيكيَّة الحذرة والعَلْمانيَّة المادية الراديكاليَّة، وهو ما أربك أحكام بعض دارسيه السابقين وقادهم إلى تقييمات غير دقيقة لمشروع الرجل ومغزی دوره الثقافي العام.
وتم تقسيم الكتاب إلى تمهيد وثمانية فصول وخاتمة، وفي التمهيد حدد المؤلف الملامح الأساسية لحياة إسماعيل مظهر وتكوينه الفكريّ، وأهم العوامل التي صاغت هذا التكوين، وتناول الفصل الأول، رؤية مظهر للعلاقة بين العلم – في تجلَّيه التطوري الداروني بالذات - والدين، وأبرز الطابع المتأرجح والمضطرب الذي حكم هذه الرؤية عبر مسيرته الفكريّة كله.
وفي الفصل الثاني، تناول رؤية الرجل للغرب ومدنيَّته الحديثة، والتي تراوحت كذلك بين الإيمان بسلامة وصوابيَّة أسس الحضارة الغربية العلمية والعقلانية، والتشاؤم بمستقبل هذه الحضارة في ضوء ما أنتجته من أهوال ومآسٍ في الحرب العالمية الأولى.
واستعرض الفصل الثالث، رؤية الرجل لقضايا المرأة، والتي بدا فيها أكثر ثقةً وتفاؤلاً من الجيل السابق عليه، بفعل نجاحات المرأة في الواقع المَعِيش على امتداد النصف الأول من القرن العشرين، وكان موضوع الفصل الرابع، رؤية مظهر لقضايا التعليم، وهي رؤية توفيقية محافظة، يحكمها ملمح "قوميّ مِصْريّ" مميز.
وفي الفصل الخامس، تناول مساهمة الرجل في تطوير اللغة العربية؛ خاصة في جوانبها التقنية والاصطلاحية. أما الفصل السادس، فاستعرض رؤية إسماعيل مظهر لبعض أهم مفاهيم الفكر السياسيّ الحديث "اللبرالية – الرأسمالية – الاشتراكية"، وعلاقة هذه المفاهيم بالإسلام لديه.
وأوضح في الفصل السابع، موقف الرجل من الحركة الكماليَّة في تركيا بقيادة مصطفی کمال، وتتبع رؤيته لقضية العَلْمانيَّة وعلاقة الدين بالدولة.
أما في الفصل الثامن والأخير، فقد عرض لأهم ملامح رؤية مظهر لقضايا السياسة المصرية، سواء على مستوى التطور الداخليّ أم العلاقة بالاحتلال الإنجليزي، وفي ختام الكتاب قدم المؤلف خلاصة لدراسته البحثية، أشرت لأهم النتائج التي توصل إليها وأكدت على بعض قضاياها المنهجية الرئيسة. (وكالة الصحافة العربية)