جدل العلم والدين والحرية عند إسماعيل مظهر

كتاب داروين وجّه مظهر نحو داروين نفسه، فقرأ بشغف كتابه الأساسي "أصل الأنواع" وقرر ترجمته إلى العربية.
مظهر اعتنق رؤية الفيلسوف الوضعي الفرنسي أوجست كونت المادية حول "الإرادات والأسباب"
تأسيس "المجمع المصري للثقافة العلمية" على غرار "مجمع تقدم العلوم" البريطاني

د. هند عبدالحليم محفوظ

لمع اسم إسماعيل مظهر (1891- 1962) في زمن أحمد لطفي السيد وطه حسين وعباس العقاد وسلامة موسى ومحمد حسين هيكل وغيرهم. ويأتي مظهر على رأس تيار يوصف بأنه التيار العلمي في الفكر المصري المعاصر. وقد أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب، كتابا تحت عنوان "إسماعيل مظهر .. جدل العلم والدين والحرية" للدكتور صلاح الملا يكشف ملامح التجربة الفكرية لمظهر وعمله المستمر الدءوب من أجل تبسيط المعارف الحديثة للقاريء العربي وخلق قاعدة مثقفة ثقافة علمية جدية – وخاصة في العلوم الطبيعية والفلسفة - بهدف تكريس المنطق العلمي وقيم العقلانية والتجريبية في البيئة المصرية والعربية.
ولد إسماعيل مظهر في 19 يناير/كانون الثاني 1891 في منزل جده لوالدته محمد مظهر باشا (مهندس القناطر الخيرية) بسوق السلاح بالدرب الأحمر في القاهرة وكان والده هو المهندس محمد بك عبدالمجيد ابن المهندس إسماعيل باشا محمد الذي كان رئيسا لمجلس شورى القوانين، أما جد أبيه لأمه فكان المهندس مصطفى بهجت باشا أول ناظر للمعارف في مصر.
ويذكر صديقه الكاتب الصحفي وديع فلسطين أن مظهر أخبره أنه تعلم على يد مشايخه في حي الحلمية الجديدة، كما اطلع مبكراً على أمهات الكتب في الدين واللغة والأدب العربي والفلسفة الإسلامية، وكان يذهب إلى الأزهر فيحضر فيه دروس الأدب واللغة على الشيخ علي بن حسن المرصفي. ويشير فلسطين إلى أن مظهر لم يتم تعليمه النظامي واستكمل تكوينه الثقافي بالتعلم الذاتي.

تولى مظهر رئاسة تحرير "الموسوعة العربية الميسرة" منذ العام 1959، وكتب يوميات الجمعة في صحيفة الأخبار المصرية منذ أواخر يناير/كانون الثاني 1961 حتى وفاته في 3 فبراير/شباط 1962

ويذكر ابنه جلال مظهر أن اهتمام والده بعلم البيولوجيا وبالنظرية الداروينية قد بدأ بالصدفة في مساء إحدى ليالي صيف 1911، عقب إطلاعه على إعلان في إحدى الصحف المصرية عن كتاب "فلسفة النشوء والارتقاء" للدكتور شبلي شميل. وقد زرع هذا الكتاب لدى مظهر بذرة الشك المنهجي والديني ورفض التقليد، وآمن بالطبيعة لكن رفض الرؤى المادية الصرفة. 
وقد وجه كتاب داروين مظهر نحو داروين نفسه، فقرأ بشغف كتابه الأساسي "أصل الأنواع" وقرر ترجمته إلى العربية، وظهرت ترجمته الأولى عام 1918 تحت عنوان "أصل الأنواع ونشوؤها بالانتخاب الطبيعي وحفظ الصنوف الغالبة في التناحر على البقاء". واعتبر مظهر العلم البيولوجي هو محور التقدم العالمي وطالب بضرورة التوفر على دراسته وتطبيقه وتفهم نظرياته العميقة.
كما اعتنق مظهر رؤية الفيلسوف الوضعي الفرنسي أوجست كونت المادية حول "الإرادات والأسباب" التي تؤكد أن عجز الإنسان عن تعليل ظواهر الكون يقوده إلى عزوها إلى قوى غيبية شبيهة بقواه البشرية.
وقد أصدر مظهر مجلة "العصور" عام 1927، وجعل شعارها: "حرر فكرك من كل التقاليد والأساطير الموروثة؛ حتى لا تجد صعوبة في رفض رأي من الآراء أو مذهب من المذاهب اطمأنت إليه نفسك وسكن إليه عقلك إذا تكشف لك من الحقائق ما يناقضه".
وفي العام نفسه اشترك مظهر مع مجموعة من المثقفين منهم فؤاد صروف ورضا مدور وعلي مشرفة وحسن صادق وغيرهم في تأسيس "المجمع المصري للثقافة العلمية" على غرار" مجمع تقدم العلوم" البريطاني، وقد انتخب مظهر عضواً دائماً به، ثم أصبح سكرتيره الدائم، وكانت أهم أهداف المجمع بث الروح العلمية في المجتمع المصري وتبسيط العلوم وتعريب المصطلحات العلمية. وفي هذه الفترة صدرت لمظهر مؤلفات عديدة منها: وثبة الشرق، معضلات المدنية الحديثة، تاريخ الفكر العربي، قصة الطوفان، الاشتراكية تعوق ارتقاء النوع الإنساني. كما صدرت له ترجمات: الضحية، نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر، بين الدين والعلم، نهضة فرنسا العلمية في القرن التاسع عشر، وغيرها.
ورغم تأييد مظهر للدين كاعتقاد "فطري" لازم لارتقاء الإنسان الأخلاقي والمعنوي، لم يكن يسبغ أي قداسة على الأفكار والمعتقدات الدينية السائدة إذا تصادمت مع حقائق ونتائج العلوم الطبيعية المثبتة عيانيا. ومن ناحية أخرى، رغم إيمانه بالأسس العقلانية العلمية للحضارة الغربية، فإن تحلل المدنية الغربية تحت وطأة أهوال الحرب العالمية الأولى جعل مظهر يتشاءم بمستقبل البشرية في ظل هيمنة المدنية الغربية، ويتشكك في المعنى الصاعد والمتفائل لعصر التنوير الأوروبي ونزعته المادية القوية. 

إسماعيل مظهر
بذرة الشك المنهجي 

وقد احترم مظهر نموذج الديمقراطية البرلمانية الإنجليزية، وهذا يفسر موقفه العدائي ضد الاشتراكية، حيث انتبه مبكراً للسمة الشمولية للتطبيق السياسي الشيوعي - ممثلاُ بالثورة الروسية - كما انتبه أيضاً للسمة المذهبية شبه الدينية للفكر الماركسي، وما يمكن أن تؤدي إليه هذه السمة من الجمود والتعصب. وكان منحازا للنظام الرأسمالي لاحترامه كمثقف لمفهوم الحرية ذاته في الاقتصاد، ولهذا انتقد بقوة إهمال الاشتراكية الحافز الفردي والطموح الشخصي، كما التقط ببراعة ملاحظة منهجية مهمة، وهي أنه رغم قدرة الفكر الماركسي على تشخيص كثير من جوانب الضعف والقصور في النموذج الرأسمالي، فإنه قد عجز عن إيجاد بديل سياسي واقتصادي أكثر كفاءة منه.
وتبنى مظهر آراء راديكالية تنزع للمساواة الكاملة بين المرأة والرجل حتى في قضايا ذات حساسية دينية معينة مثل: الحقوق السياسية والطلاق وتعدد الزوجات والميراث، وكان يرى قابلية هذه التشريعات للتطوير أو حتى إمكانية تجاوزها بحسب تطور شروط الواقع للوصول إلى أوضاع أكثر عدالة للمرأة.
كما قدم مظهر إسهاماً بارزاً في حقل المعاجم والموسوعات، فأصدر عام 1955 "قاموس النهضة" وهو أول قاموس علمي عربي في العصر الحديث والذي ضم كثيراً من المفردات العلمية الجديدة، كما قدم كذلك "قاموس الجمل والعبارات الاصطلاحية" و"معجم مظهر الإنسيكلوبيدي"، و"معجم الثدييات"، ولذلك استحق لقب "رائد الثقافة العلمية في المنطقة العربية قاطبة".
وبعد ثورة يوليو 1952، شارك إسماعيل مظهر في تأسيس الصفحة الأدبية في جريدة الجمهورية في بداية صدورها، وفي تلك المرحلة صدرت له عدة مؤلفات؛ مثل: الدين في ظل الشيوعية، الإسلام لا الشيوعية، التكافل الاشتراكي لا الشيوعية. كما صدرت له عدة ترجمات مثل: حياة الروح في ضوء العلم، وسير ملهمة، ونشوء الكون، وتاريخ العلم والإنسية الجديدة. 
وقد تولى مظهر رئاسة تحرير "الموسوعة العربية الميسرة" منذ العام 1959، وكتب يوميات الجمعة في صحيفة الأخبار المصرية منذ أواخر يناير/كانون الثاني 1961 حتى وفاته في 3 فبراير/شباط 1962.