إعلانات فاشلة تثير الازدراء


ما سوقه المرشحون في الانتخابات في الدول العربية على مدار الأسابيع الماضية مجرد صابون سياسي رديء عاجز عن تنظيف الفساد السياسي، وربما تفسر المقاطعة الكبيرة للانتخابات شيئا من ذلك، كان فشل الإعلان الانتخابي تعبيرا عن فشل المرشحين أنفسهم.

إنهم يعرضون هشاشتهم، في حين أنهم يقومون بالإعلان عن أنفسهم! إعلانات انتخابية فاشلة تثير الازدراء، تلغي مشاعر القبول وتميت فكرة التعاطف، ذلك ما حصل تماما في كل الحملات الدعائية لمرشحي الانتخابات العراقية واللبنانية على حد سواء، الدرس القديم الذي تكرر ببشاعة مازال يحطم فكرة الإعلان كفن صحافي تاريخي يتطور بسرعة مذهلة ويدرس مزاج الجمهور ويمس المناطق الحساسة في الدماغ.

لكن دماغ المعلن كان متوقفا بطريقة متحجّرة في كل إعلانات الترويج التي شاعت على مدار الأسابيع الماضية في الشوارع والمحطات التلفزيونية اللبنانية والعراقية ودفعت من أجلها مبالغ هائلة، لم تستطع أن تتقدم خطوة قصيرة في فلسفلة الإعلان.

وعلى الذين حصلوا على أصوات الناخبين ألا يعتقدوا أن الإعلانات الرديئة والفارغة من جلب لهم الأصوات، لسوء الحظ، العراقيون انتخبوا بغريزة الانحياز الأنانية ولم تؤثر فيهم الإعلانات الدعائية وكل ما بث في وسائل الإعلام. أما اللبنانيون فمازالت الغالبية منهم تسير وفق فكرة التقسيم التي لم ترتق في يوم من الأيام إلى الوطنية.

لا توجد أي صورة مفردة أو إعلان تجاري معين يلخص الانتخابات التي جرت في لبنان والعراق. كانت فوضى شكلية مليئة بصور الأشخاص وخالية من الرموز التعبيرية المؤثرة على خيار الجمهور ورغباته.

لقد أخذت اللغة العربية مئات السنين لتتحول إلى لغة غنية ومعقدة، فيما تطورت الصورة لتصنع إيحاءات مؤثرة وتصيب العين برغبة عارمة من الشغف، هكذا يصنع الإعلان اليوم من فلسفة اللغة وشغف الصورة، ولسوء الحظ مات هذا الثنائي في كل الإعلانات السياسية المستمرة، لأنها ببساطة تفترض سذاجة الجمهور وتصديقه لكل ما يرسل إليه من وعود فارغة، بينما فلسفة الإعلان الوصول إلى مناطق الرغبة في دماغ المشاهد، وهو أمر مختلف عن فكرة اختراق العقول التي تعمل عليها وسائل الإعلام، فالأول فكرة إغرائية مشجعة على اقتناء السلع والدفع باتجاه الترويج لها وحث النفس والآخرين على القبول بالأفكار المعروضة، بينما اختراق العقول تختصره فكرة القبول بالأكاذيب على أنها حقائق.

اليوم الإعلان يصنع تفوقه من معيار الشعارات المحيرة وغير المتوقعة، ولم يستطع أي من صناع الإعلان الانتخابي، كما حصل في العراق ولبنان في الأسابيع الماضية، التفوق في فكرة بناء الشعار، التكرار كان سمة مميزة في اللغة وهذا ما يقتل فكرة الإعلان، ثم استخدام الجمل السائدة وهي طريقة فاقدة لجدواها، لأن المستخدم لا ينتظر جملة يسمعها يوميا في الأسواق والمقاهي. بل ينتظر ما يشد انتباهه في جديد مبهر ومبسط.

لقد غابت اللغة تماما في صناعة إعلان انتخابي، لأن صناع الإعلان لم يجدوا عند المرشحين ما يحفزهم على إبداع إعلانات مبتكرة، فضلا عن تأخر أساليب صناعة الإعلان في العالم العربي.

أما الصورة فكانت ميتة بشكل مثير للملل، لم تجد العدسات غير زاوية مستقيمة في صناعة المشهد، وكأنها أمام كتلة جامدة.

لقد بقي الصناع الإعلاميون حائرين في إيجاد فكرة تعبر عن برامج المرشحين الانتخابية التي لا تحفز على أكثر من الوعود المجردة إلا من الفراغ! ووصل الحال بمراسل وكالة الصحافة الفرنسية في بغداد إلى وصف الشعارات الانتخابية الغريبة بأنها محط سخرية العراقيين، واختار الإعلان الذي يطالب العراقيين “بانتخاب أنوار هاشم العويلي ابنة عم صاحب محل إطارات في أستراليا” أنموذجا للرداءة، واصفا إياه بواحد من أغرب الدعايات الانتخابية التي أفردت لها صفحة كاملة في جريدة عراقية، على غرار مرشحين كثيرين وصموا أنفسهم بشعارات مثيرة للسخرية، ظنا أنها تحشد لهم الأصوات.

مثل هذا الأمر دفع دومينيك كامينجز قائد حملة مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، إلى التعبير عن احتقاره لعالم الإعلانات. بقوله إنها “ضلت طريقها تماما” وأنها “مليئة بهراء الدجالين”.

أما الإعلانات التجارية المتميزة التي تشد الجمهور على الشاشات العربية، فهي نسخ مترجمة عن إعلانات عالمية، ويمكن اكتشاف السطحية المريعة عند مقارنتها بإعلانات عربية. هذه السطحية كانت سمة واضحة لكل الإعلانات الانتخابية العربية.

سبق وأن عرف الباحث لويجي دجينجاليس في دراسة مشتركة مع مجموعة من الباحثين الثقة بأنها “رأس المال الاجتماعي” لكن للأسف الثقة غائبة عن الإعلان كفن صحافي في وسائل الإعلام العربية، هذا الفن الضائع يجب أن يدفع الوكالات الإعلانية إلى إعادة التفكير بهذه الصناعة، فلنعد إلى جملة شركة أبل التي أطلقتها عام 1997 Think Different، منذ ذلك الحين تغيرت الأمور بشكل مذهل، يمكن الحكم على إعلانات الأجهزة الإلكترونية والعطور المبهرة، أما إعلانات الشكولاتة فهي تؤثر على أدمغة أشد الناس عدائية للحلوى.

في عام 1979 استاء دينس هيلي، وزير المالية البريطاني آنذاك، من لوحة إعلانية كتب عليها “حزب العمال فاشل”، واتهم حزب المحافظين “ببيع السياسة وكأنها مسحوق صابون”.

وما سوقه المرشحون في الانتخابات في الدول العربية على مدار الأسابيع الماضية مجرد صابون سياسي رديء عاجز عن تنظيف الفساد السياسي، وربما تفسر المقاطعة الكبيرة للانتخابات شيئا من ذلك، كان فشل الإعلان الانتخابي تعبيرا عن فشل المرشحين أنفسهم.

لقد تراجع العالم الديمقراطي عن اللوحات الإعلانية، بينما طرقات بيروت وبغداد كانت مشوهة بإعلانات فاشلة، انقض عليها الناس بعد ساعات من إغلاق صناديق الانتخابات كتعبير عن الحاجة التي عجز عن توفيرها المرشحون، فكانت وقودا للفقراء والمشرّدين.