إكراهات القراءة في ظل الثقافة ومقتضيات الرقمنة

رغم ما أتاحته الانترنت من سهولة الوصول إلى المعرفة، ما تزال المجتمعات العربية تعاني من ضعف في القراءة نتيجة تراكم تاريخي وثقافي معقد ما يعمق التفاوت بين الأدوات الرقمية المستوردة والوعي المجتمعي بكيفية توظيفها في بناء ثقافة قرائية فعالة.
زوهير النبيه
الدار البيضاء

خلقت الرقمنة أساليب جديدة للكتابة، وبما أن الكتابة مرتبطة بشكل عضوي بالقراءة فإن أنماط هذه الأخيرة ووثائرها لم تسلم هي الأخرى وبالضرورة من التجديد، حيث أصابتها رياح التغير التقني التي هبت منذ زمن ليس بالبعيد. ونشهد اليوم "ثورة" رقمية يزداد تسارعها يوما بعد يوم، مما أسهم في إنتاج كم هائل من المعارف، وأسهم كذلك في تسهيل الولوج إليها. ولم تعد المعلومة حكرا على "مقاولي المعرفة"، بل أصبحت متاحة بنسب ليست باليسيرة بمجرد بعض النقرات على جهاز الحاسوب. لقد فتحت المجلات العلمية المحكمة مسطحاتها لمن أراد وردا، ووضعت العديد من المؤسسات العلمية إصداراتها من مؤلفات وبحوث رهن إشارة العموم لأجل التصفح أو التحميل.

في ظل هذا الطوفان المعرفي الرقمي لا تزال المجتمعات العربية وكما تبين الإحصائيات -التي يجب التعامل معها بحذر شديد- تتخبط في مشكلات مرتبطة بالفعل القرائي بمكونيه الاثنين: القارئ والنص. فالقارئ العربي رغم ارتباطه لساعات عديدة في اليوم الواحد بالشبكة العنكبوتية لا يقرأ إلا لملما مقارنة مع القارئ في مجتمعات أخرى غربية بالخصوص، وإنتاج النص العربي ضعيف من حيث الكم مقارنة مع الأعداد الكبيرة التي تصدرها دولة واحدة مثل اليابان أو كوريا الجنوبية أو تركيا.

 فماهي الأسباب الثاوية في هذا العزوف عن القراءة رغم وفرة العرض الرقمي وسهولة الولوجية إلى الكتاب الإلكتروني؟ أم أن كثرة المعرفة تقتل المعرفة؟ وهل للرقمنة دور في العزوف عن القراءة؟ وهل هناك عوامل مساعدة كالتربية والتعليم تسهم في تعزيز النفور من القراءة؟ أم أن الثقافة العربية مكتفية بذاتها لا تحتاج بشكل كبير لكتابة نصوص جديدة وقراءتها في الكتب والألواح لأجل البقاء؟ أسئلة سنحاول إيجاد عناصر إجابة لها عبر الغوص في موضوع الثقافة العربية من منظور سوسيو-أنثروبولوجي، مع التأكيد أنها ملاحظات واستنتاجات أولية تعتمد في مجملها على إحصائيات من إنتاج هيئات غربية بالأساس، وملاحظات مباشرة للواقع القرائي في وطن محلي صغير ضمن الوطن العربي الكبير.

ارتبط تطور البشرية بتاريخ الطباعة، فمنذ 3000 سنة قبل الميلاد وفي مصر القديمة ظهرت البوادر الأولى للكتاب. ويعد ابتكار الصيني باي سين (Bi Sheng) للمطبعة ذات الحروف المصنوعة من الطين بين سنتي 1041 و 1048 ميلادية، ثم تلاه ابتكار الألماني يوهان غوتنبرغ في النصف الأول من القرن الخامس عشر للمطبعة الميكانيكية ذات الحروف المعدنية المنفصلة، منعطفا مهما في تاريخ الإنسانية. ويُبرز تاريخ الطباعة والكتابة أن اهتمام الشعوب بتدوين ثقافاتها مرتبط بشكل وثيق بمدى وعيها بذواتها. والمعادلة واضحة لا تحتاج كثيرا من التمحيص، فكلما ارتقت الحضارة دعا رقيها بحكم الضرورة إلى إنتاج أساليب لتدوينها والحفاظ عليها. ويدعو التدوين والكتابة بشكل تلقائي إلى القراءة، فما أهمية الكتابة إن لم تجد قارئا يطلع عليها؟

 إن استجابات المجتمعات والأفراد لأشكال جديدة للكتابة والقراءة كان دائما من بين العوامل الحاسمة في التقدم، الأمر الذي يشهد عليه كتاب "الإلمام بالكتابة والقراءة والتطور في الغرب" للمؤرخ الإيطالي كارلو سيبولا (Carlo Cipolla). ويبرهن سيبولا على إسهام المعرفة بالكتابة والقراءة في تحول المجتمعات الغربية إلى الصناعة التي أدت بدورها إلى التقدم والحضارة. وتقدم المجتمعات رهين بمدى انسجام الثقافة المادية والثقافة اللامادية، فلن تقوم الابتكارات بالأدوار المنوطة بها إن لم تجد حاضنة اجتماعية تتحرك فيها بشكل مفيد، "ولا شك أن التقدم الغربي كان محصلة للتقدم التكنولوجي من جانب، والدعم الاجتماعي لهذه التكنولوجيا من جانب آخر" كما جاء في كتاب آسا بريغز وبيتر بورك. وبالمقابل يرجع تخلف العالم العربي بشكل كبير إلى التفاوت المزمن الحاصل بين الثقافة المادية التي تكون في غالبيتها مستوردة، والثقافة اللامادية التي غلب عليها طابع التهجين.

إن واقع الكتابة والقراءة في العالم العربي اليوم ليس لحظيا كما يبدو للبعض، وليس فجائيا وليد حدث أو "ثورة" ما، كما أنه ليس معزولا عن السياق العام الذي تتحرك فيه الممارسة الثقافية، بل هو نتاج لتاريخ طويل من أحداث ووقائع وظواهر يغذي بعضها البعض ويتراكب فيها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي بشكل تراكمي. وبكلمات أخرى ملخصة: إن هذا الواقع يستجيب لسيرورة ثقافية مركبة من عمليات ممتدة في الزمن.

تميزت الثقافة العربية بالتداول الشفهي والاعتماد على الذاكرة. وإذ بدأنا من العصر الجاهلي مثلا، فلم يكن باستطاعة أكثر فطاحل شعراء الجاهلية لا الكتابة ولا القراءة. فهذا أشعر شعراء العرب طرفة بن العبد صاحب المعلقة المتميزة يموت بكتاب لم يستطع قراءته، حمَّله إياه الملك عمرو بن هند إلى المكعبر عامله على البحرين وعُمان يأمره فيه بقتله. ولم يكن العرب محتاجين للكتابة والقراءة بقدر احتياجهم لذاكرة قوية، فمن الوصايا التي كانت تقدم لمن أراد أن يصبح شاعرا حفظ ألف بيت من الشعر. ويحتفظ التاريخ العربي بحكايات جمة عن ملكة الحفظ والاحتفاء بالذاكرة القوية. ففي العصر العباسي عصر التدوين كما يسميه الجابري ويصفه بأنه "الإطار المرجعي الذي يشد إليه وبخيوط من حديد جميع فروع هذه الثقافة (يعني العربية)، وينظم جميع تموجاتها اللاحقة"، حكاية تروى عن أبي جعفر المنصور وجاريته وغلامه والأصمعي، وما جرى بينهم حول "صوت صفير البلبل" الذي هيج قلب الشاعر الثمل، وكيف يُعتمد على الذاكرة للحفاظ على أموال الدولة، وفي الآن نفسه استعمال الكتابة وحيلة حاملها للظفر بذهب بيت المال.

لا يمكن اعتبار الطابع الشفهي خصيصة تميز الثقافة العربية وحدها، ولكنه يمتد إلى ثقافات أخرى خصوصا في بداياتها، فأوروبا مثلا، وبالخصوص "أوروبا القرون الوسطى، شأنها شأن اليونان القديمة، كانت ثقافة شفهية في الأساس، لعب الوعظ فيها دورا مهما لنشر المعلومات.. حتى أن ما نسميه اليوم أدب العصور الوسطى أنتج في الأصل لجمهور من المستمعين وليس القراء" كما جاء في كتاب التاريخ الاجتماعي للوسائط. غير أن الثقافات الغربية بدأت شيئا فشيئا تتخلص من طابعها الشفهي وتتجه نحو الاعتماد على الكتابة انطلاقا من أواخر العصور الوسطى. ورغم بعض الأشكال المقاومة للكتابة، فقد اخترقت الحياة اليومية مشكلة بذلك نشأة الثقافة المكتوبة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.

هذا الانتشار البين للثقافة المكتوبة في الغرب قابلته مقاومة للطباعة في العالم العربي الإسلامي امتد إلى بدايات العصر الحديث. وأسباب المقاومة متعددة يغلب عليها طابع الخوف من تحريف الكتب الدينية خصوصا القرٱن الكريم. في حين ربط بعض المفكرين الغربيين منع الطباعة في العالم الإسلامي بالاستبداد. وقد أصدر السلطان سليم الأول بداية القرن السادس عشر قانونا يقضي بعقوبة الإعدام في حق كل من يمارس الطباعة. وفي العصر نفسه أنتجت المطابع الأروبية حوالي 13 مليون كتابا في حين أن عدد السكان لم يكن يتجاوز المائة مليون. كما كانت العاصمة الفرنسية وحدها تضم 181ورشة طباعة. ولا بد من أن هذا التفاوت المتراكم عبر تاريخ طويل من الاستفادة من ٱليات مبتكرة لتدوين المعارف كان له تأثيرات سلبية على ترسيخ الثقافة القرائية في المجتمعات العربية الاسلامية.

شهد العالم العربي والاسلامي بداية العصر الحديث تفاوتا بينا بين الثقافتين المادية واللامادية كما وضحناه بشكل جد مقتضب في الفقرات السابقة. ويعيش اليوم في عصر الثورة المعلوماتية والرقمنة نفس التفاوت وإن لم يكن على مستوى الشكل فإنه جلي من حيث المضمون. فالثقافة المادية الرائجة في المجتمعات العربية كما سبق ذكره غالبا ما تكون مستوردة، ويصعب على الأفراد مجاراتها واستغلالها بشكل مفيد. وكلما كان استعمال أدوات الثقافة المادية بشكل غير معقلن فهي تؤدي إلى توسيع دائرة الفصل بينها وبين التفكير الذي يشكل حجر الزاوية في الثقافة اللامادية. ونموذج الأدوات المعلوماتية  (الهاتف الذكي، الحاسوب، اللوحات الالكترونية…) الطارئة على المجتمع العربي تعطينا أمثلة صارخة على التفاوت الحاصل بين الثقافتين. كما يمكن توضح ميكانيزم تأبيد هذا التفاوت من خلال استعمال الأدوات الرقمية من طرف نسب كبيرة في المجتمعات العربية، فعدد النقرات العشوائية يرتبط عكسيا مع ملكة التفكير ويؤدي إلى تعطيل إمكانات الفعل. ويظهر هذا الترابط العكسي في العلاقة بين الوقت المخصص للقراءة في العالم العربي ومدة مشاهدة الهاتف أو اللوحة الالكترونية. ففي الوقت الذي تكثر فيه الكتب الالكترونية ويسهل الولوج إلى المجلات العلمية بمختلف أنواعها وتتوافر المعلومات، نجد القارئ في عالمنا العربي لا يقرأ إلا سبع دقائق سنويًا، وفق تقرير صادر عن منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة. وتضيف المنظمة أن معدل ما يقرأه الفرد في أرجاء العالم العربي سنويًا هو ربع صفحة فقط، بينما مؤسسة الفكر العربي أصدرت تقريرًا يفيد بأن متوسط قراءة الفرد الأوروبي يبلغ نحو 200 ساعة سنويًا، بينما لا يتعدى متوسط قراءة المواطن العربي 6 دقائق سنويًا.

ورغم قساوة هذه الأرقام والتشكيك فيها من حيث عدم وجود مراجع لها كما ورد في تقريرمؤشر القراءة العربي الذي أصدرته مؤسسة محمد بن راشد بتعاون مع المكتب القومي العربي وبرنامج الامم المتحدة الانمائي سنة 2016، فإننا نجد صدى لها في الاختبارات الدولية مثل الدراسة الدولية لقياس تقدم القراءة في العالم، والتي تستهدف أطفال المدارس الابتدائية الذين هم لبنة الأساس في بناء مجتمع يقرأ. ففي سنة 2021 لم تتمكن أي دولة عربية من تجاوز المعدل الدولي البالغ  500 نقطة.  فقد حصلت قطر بين 57 دولة على المرتبة 43 كأول دولة عربية، يليها على التوالي، الامارات العربية المتحدة والبحرين ثم السعودية. وتأتي عمان في المرتبة 50 في حين يحتل المغرب ومصر على التالي المرتبتين 56 و55. 

وسننهي هذا التحليل بقصة تستلزم كثيرا من التأمل. يحكي لي صديق يشتغل بأحد المطارات الدولية الغربية يقول: كنت أقوم بجولة تفقدية في المطار ليلا، وكان لدينا مجموعة من خيول السباق في المطار. وعندما كنت أمر قرب مخادع الخيول سمعت صوتا،  فتقدمت لأرى ما يقع، وإذا بي أتفاجأ بمصاحب أحد الأحصنة واضعا مصباحا رأسيا ويحمل كتابا يقرأ منه للفرس.