إلهام صحافي متأخر من احتجاجات لبنان والعراق

لقد فات على الصحافة قراءة كوامن الشارعين اللبناني والعراقي، وهذا لا يعني تنبّؤ وعرض سيناريوهات محتملة، وإنما عرض وقائع ومعطيات موجودة على الأرض، للأسف لم تلتقطها عين أذكى المراسلين.
المقولة التاريخية بشأن أن تكون الصحافة أول من يحضر وآخر من يغادر مواقع الحدث، لم تعد مفيدة بما يكفي

ما الذي ينبغي لنا كصحافيين استلهامه من احتجاجات لبنان والعراق؟ يبدو أننا بحاجة فعلية للتخلص من الدور التاريخي المناط بنا والذهاب أبعد لاكتشاف مساحة غاية من الأهمية متعلقة بجوهر الصحافة أيضا.

تغطية الاحتجاجات والبحث عن زاوية جديدة في نشاط المحتجين والكتابة عن توقهم وآمالهم ودموعهم وغضبهم، صارت متاحة للجميع، فالمواطن الصحافي يلتقط هذه الأفكار وصورها وينشرها من الميادين. بل صارت وسائل الاعلام تلجأ إلى المواطن الصحافي في تغطية الاحتجاجات إثر المنع الحكومي والقمع والمصادرة التي طالت المراسلين المعتمدين.

أرى أن الإلهام ينبغي أن يكمن في إعادة التفكير بقراءة أين تمضي الأمور والبحث عن معطيات واقعية تدافع عن هذه الفكرة، وليس مجرد انتظار الحدث للكتابة عنه.

لقد فات على الصحافة قراءة كوامن الشارعين اللبناني والعراقي ومساعدة الرأي العام بما يمكن أن تؤول إليه الأمور، وهذا لايعني مجرد عملية توقع أو تنبؤ وعرض سيناريوهات محتملة، وإنما عرض وقائع ومعطيات موجودة على الارض في بغداد وبيروت، للأسف لم تلتقطها عين أذكى المراسلين.

لماذا لم ير أي من الصحافيين في العراق جيل التوك توك، وانتبه إليهم بعد أن صنعوا ثورتهم، كم سيكون باهرا لو صنعنا قصة من شباب التوك توك بوصفهم الحل المقترح والمتاح عندما تغلق السلطات الطرقات أمام المركبات والمحتجين؟ نكون بذلك جسدنا الفكرة المثالية لجوهر الصحافة. لقد فاتت على أبرع الصحافيين مثل هذه القصة وما إلى ذلك من القصص التي قادت الجموع إلى ميدان الحراك.

يبدو لي أن المقولة التاريخية بشأن أن تكون الصحافة أول من يحضر وآخر من يغادر مواقع الحدث، لم تعد مفيدة بما يكفي، إن لم تصل متأخرة أو تكون غيرة جديرة بالوفاء أو قد تحدث ضررا، لأن هناك ما يسبقها اليوم في الحضور بعد أن فشلت في السباق مع الجيل الرقمي، وصار دور الصحافة متأخرا عن جيل فيسبوك وتويتر، “إنهم حاضرون دائما بينما نحن متأخرون دائما” لذلك نبقى نبحث عن التداعيات ودلالتها في محاولة لصناعة فكرة جديدة لا نوفّق فيها على الأغلب.

المقولة التاريخية بحاجة إلى أن تتغير بطريقة ألّا تكتفي الصحافة بفرض ديمقراطية حرة من تبادل المعلومات، بل يتوجب عليها أن تصنع أفكارها وتقرأ أفكار الشارع بشكل دقيق وفق معطيات حقيقية لتساعد الجمهور في الترقب ومعرفة ما ينتظرهم، وهذا ما غاب على وسائل الإعلام برمتها عندما فشلت في التوصل إلى ما نجح به جيل باهر في العراق ولبنان وهم “يصنعون وطنا”.

من الأهمية بمكان أن نعيد التفكير بالانتقاد الشديد والشعور بالازدراء والحنق على مواقع التواصل الاجتماعي، ونعيد علاقتنا كصحافيين مع فيسبوك وتويتر، لقد لقيا من الازدراء منا ما يكفي، بينما هما المصدر الحقيقي لجيل صنع حياته التي يرتضيها رافضا الخضوع لمختطفي البلدان من السياسيين والأحزاب الفاسدة.

لم تكن الصحافة منصة ثورة اللبنانيين والعراقيين، بقدر ماكان فيسبوك وتويتر، مع أن الحكومات حولت الإنترنت إلى كابوس للمراقبة والاستهداف والحجب.

مزاعمنا كصحافيين بشأن الاحتيال والأخبار المزيفة التي تضج بها وسائل التواصل الاجتماعي، تكشف عن فشل مجهرنا في تقصي الحقيقة. يكفي أن يكون الصحافي من الدقة والبراعة والتفكير النيّر ليميز صحة ما ينشر، وهنا ينتهي الحال أمام الأخبار المزيفة لتكون في سلة المهملات. هناك كم رائع من الحقائق نشره جيل مذهل على فيسبوك أعاد الأمل وينبغي أن نحتفي به ونشير إليه ونستلهم منه في صناعة محتوى صحافي متميز.

احتجاجات العراق ولبنان منحت فيسبوك وتويتر صكوك نجاح وتقدير وجعلت من ازدرائهما إشارة لا أهمية لها تقبع في الهامش، فالمتن ما تصنعه كلمات وصور وفيديوهات المحتجين في الميادين.

صحيح أن إدارة مارك زوكربيرغ تعمل وفق مصالحها كشركة تجارية وتفكر بالحكومات والدول أكثر من المستخدمين، لذلك تعمل على حماية الحكومات أكثر من إتاحة المزيد من حريات التعبير وإيصال المعلومات للمستخدمين عبر فيسبوك، لكن ذلك ساعد أيضا على إساءة استخدام سلطة الرقابة من قبل الحكومات، وشجع الحكومات على اضطهاد حرية المستخدمين والمدوّنين النشطاء.

في النهاية، ما يعنينا أكثر كصحافيين هو الإلهام الذي تأخر علينا مما دوّنه جيل تعلم كثيرا من أجهزته الرقمية الصغيرة، أكثر مما علمته مدونات ضخمة نشرتها وسائل الإعلام واحتوتها متون المطبوعات.

ينبغي لنا كصحافيين أيضا أن نعيد تعلم الدرس المكرر في علاقتنا مع الحكومات، لقد تجسد هذا الدرس بامتياز في موقف السياسيين العراقيين واللبنانيين على حد سواء ووجدنا الكلام الذي ينطقه الزعماء والوزراء في بيروت يكاد يكون نسخة طبق الأصل يتكرر في ما يعلنه سياسيّو المنطقة الخضراء في بغداد. ذلك إلهام آخر يوفّره درس الاحتجاجات للصحافيين.

فكرة ضريبة الكلام المجرد التي يدفعها السياسيون لم تعد ذات أهمية بالنسبة للرأي العام وهذا ما يفسر لنا النقمة التي اجتاحت المدن العراقية واللبنانية، وحتمت علينا مغادرة دور الناقل المطيع لكلام الحكومات، هناك أكثر من ذلك علينا كصحافيين استلهامه والعمل عليه. علينا تقويض الفكرة السائدة عن كون الصحافة مجرد وسيلة بيد السلطة القائمة تخدم مصالحها، ذلك ما يذهب إليه الكاتب سيمون كيلنر مفترضا أن العلاقة بين الحكومة والصحافة يجب أن تكون صريحة، لأن دور كل طرف منهما واضح، فالحكومة هي النخبة والصحافيون يمثلون المعارضة للسلطة القائمة. لكن ذلك لم يحدث لا في لبنان ولا في العراق عندما وضعت الحكومات الصحافيين كعدو مفترض يتواجد بين المحتجين، فصودرت وسائل إعلام وطورد مراسلون وقتل بعضهم في العراق، فيما لم يجد صحافيون لبنانيون شجعان غير تقديم استقالاتهم عندما شعروا أن كرامة الصحافة هدرت بالتلفيق وإخفاء حقيقة ما يحدث في الشارع.