'إنسان يحترق' ليضيء درب الكفاح ضد الطاقة النووية

الكاتب والصحفي الألماني من أصل كرواتي نيكول ليوبيتش يعيد في روايته اكتشاف الناشط في مجال البيئة وأحد دعاة حمايتها هارتموت غروندلر من وجهة نظر صبي عايشه وتعايش معه في منزله.

أضرم الناشط في مجال البيئة وأحد دعاة حمايتها هارتموت غروندلر النار في نفسه في هامبورغ عام 1977 احتجاجًا على سياسة المستشار الألماني هيلموت شميدت الخاصة بسياسة الطاقة النووية. وقتئذ لم يأبه الكثيرون لفعله، وقد وصف هيلموت الرجل بأنه "شخص ضال حسن النية". لقد كان الاحتراق آخر أشكال الاحتجاج لديه وأكثرها تطرفاً.

يعيد الكاتب والصحفي الألماني من أصل كرواتي نيكول ليوبيتش في روايته "إنسان يحترق" التي ترجمها د.صلاح هلال، وصدرت أخيرا عن دار صفصافة، اكتشاف حياة غروندلر من وجهة نظر الصبي هانو كيلستربيرغ البالغ من العمر عشر سنوات، حيث عاش الناشط بين عامي 1975 و1977 في منزل عائلته بـ "توبنغن"، حيث فتنت الأم بصموده ونضاله في الدفاع عن قضيته، وظل الأب كرجل ليبرالي على مسافة.

تنطلق أحداث الرواية من عام 2011. الراوي هانو الآن في منتصف الأربعينيات من عمره، ووالدته في السبعينيات من عمرها، الوالد توفى في حادث سيارة عندما كان هانو في العاشرة من عمره. بعد حرق هارتموت لنفسه بوقت قصير، لم يكن هانو وأمه متباعدين بشكل واضح. لكن الآن ليس لدى هانو علاقة حميمة مع والدته، بعد أن تأكد أنها أسلمت حياتها وحياته لقضية غروندلر، حيث كرست نفسها بالكامل لها بعد وفاة غروندلر.

كرّس غروندلر حياته لمعارضة سياسة الطاقة النووية. كتب كتيبات ومنشورات وأسس مجموعات عمل. ذهب مباشرة إلى هيلموت شميدت وأرسل له رسائل اتهامية طويلة دعا فيها إلى تغيير المسار في السياسة والنهج فيما يخص محطات الطاقة الجديدة. لكن جهوده ذهبت دون أن يلاحظها أحد إلى حد كبير. كان هناك نقص في الدعم الإعلامي العام لإثارة المواطنين. اضطر غروندلر إلى اللجوء إلى أشكال احتجاجية عنيفة ليجعل صوته مسموعاً.

قلب غروندلر حياة الصبي هانو - التي كانت مريحة في ما مضى - رأسًا على عقب. في حين كان والد هانو يرفض ذلك الرجل القابع في الطابق السفلي ويعبر عن ذلك بابتسامة عنيدة، كانت الأم تنجذب بشكل متزايد إلى صراع المناضل من أجل عالم أفضل وإلى التزامه الصارم بالحقيقة، وما ينظمه من مظاهرات سلمية ضد الطاقة النووية. ومن ثم لم يمض وقت طويل قبل أن تصبح مساعدة، حيث ساعدته في كتابة المنشورات ورافقته في الاحتجاجات التي نظمها وأراد بها إثارة ضمائر المواطنين الألمان المطمئنين.

أيضا من تلك اللحظة ارتبطت حياة هانو ارتباطًا وثيقًا بحركة المقاومة ضد الطاقة النووية؛ وأصبح ينفق المال لمساعدة هارتموت على مواصلة كفاحه ويوزع المنشورات جنبًا إلى جنب مع والدته، وكان متواجدًا عندما قام غروندلر بتقييد نفسه بالسلاسل في "كاتدرائية كولونيا" ليعبر بذلك عن موقفه السياسي، كما كان معه أيضًا عندما بدأ إضرابًا آخر عن الطعام.

وانسحاب الأم من دورها كأم وزوجة زاد الهوة بينها وبين والد هانو، وقد زاد من سرعة انفصالهما التام قرار غروندلر النهائي واليائس بإضرام النار في نفسه في مدينة "هامبورغ". وفي خضم الأحداث انتقل هانو ووالدته إلى "برلين"، حيث واصلت الأم كفاح غروندلر باعتبارها الوصي على تركته. تدير هداياه التذكارية، وتقوم بأرشفة كل ملاحظة كتبها، وتوبخ وسائل الإعلام التي لا تخبر عنه وعن دوره صارخة أنه هو وحده من يعلم أن "العالم الخالي من الأسلحة النووية فقط هو الذي يمكن أن يكون عالماً جيداً".

وبعد سنوات قليلة من موت والدته وفي أثناء تنظيف شقتها أدرك هانو مدى طغيان وتطرف غروندلر المتشدد على حياته الخاصة.

لقد كانت شخصية هارتموت طاغية فيما والدة هانو عاجزة عن كبح جماح إفتتانها به، ربما كانت تريد تحرير نفسها من البيئة الأسرية المحافظة، لكنها في النهاية ـ للأسف ـ كرست حياتها وحياة ابنها لرجل آخر، فيما هذا الرجل نفسه ظل بعيدًا مهموما بقضيته وما ستخلفه سياسات التوسع في الطاقة النووية من خراب مستقبلي للبيئة.

يذكر أن نيكول ليوبيتش، من مواليد 1971 في زغرب/ كرواتيا، نشأ في السويد واليونان وروسيا وألمانيا. درس العلوم السياسية في بريمن وحصل على تدريب في مدرسة هامري نانن للصحافة في هامبورغ. يعمل صحفيًّا مستقلًّا وكاتبًا. حصل على العديد من الجوائز منها: جائزة أدلبرت فون- شاميسو، جائزة تشجيعية، جائزة فير. دي للأدب برلين براندنبورج، جائزة تيودور فولف، جائزة هانزيل ميت.

مقتطف من الرواية

في الأسابيع التي أعقبت فوكوشيما كان لدى أمي رغبة قوية في التحدث معي عن هارتموت. أدركتُ اليوم أنها كانت ترغب بذلك في قول كلمة الوداع، ولكن بطريقة تختلف عما أظهرت. لم تقل وداعًا لهارتموت، كما كنت أتمنى، ولكن للحياة. ولم أدرك ذلك إلا لاحقًا. كانت تعرف: أن الطريقة الوحيدة لتقريب هارتموت إلى نفسي هي إعطائي أملًا في أنّها بذلك ستتخلص منه دفعة واحدة وإلى الأبد.

ظننت أنه بعد أن جاء ذكره في العديد من الصحف فإنَّ والدتي ستكون قد وصلت بذلك إلى هدفها، أو أنها ستصبح على الأقل قادرة على إقناع نفسها بأنها قد وصلت إلى هدفها. اعتقدتُ في أنها تريد محادثتي عن هارتموت كي تُخرج كل ما بداخلها، وتتحرر منه وتكرس نفسها لحياة جديدة بعيدًا عن هارتموت. كان ذلك هو السبب الوحيد الذي دفعني للموافقة. ولكن في نهاية الأمر -وقد أدهشني أنني لم أفهم ذلك على الفور- أرادت فقط أن تتأكد من أنني على استعداد جيد لتحمُّل الإرث الذي ستتركه لي.

الآن أصبحتُ أجلس هناك مع كل الملفات والذكريات، كان بإمكاني محاولة تحرير نفسي منها، لكنني لم أتمكن حتى من التخلص من الوثائق. لا أعرف كيف يمكن التخلص من الذكريات، وبالتأكيد ليس بعد أن جعلتني أمي الوريث الوحيد لـذكريات هارتموت. محاولة كتابة كل شيء هي محاولة لترك كل شيء ورائي وفي الوقت نفسه الوفاء بالالتزام الذي فرضته أمي عليَّ دون أن تسألني؛ حتى لو تبين أن القصة مختلفة عما كانت تعتقد أمي وأنها ستصاب بخيبة أمل لأن قصتي عن هارتموت لن تُصبح قصة بطولية.

وحقيقة أن أمي لم تعد على قيد الحياة تجعلني أكتب بحرية أكبر، لأنني لست مضطرًّا إلى القلق بشأن وجهة نظرها وإيمانها غير المشروط بالحقيقة، وكأن هناك حقيقة واحدة فقط في ما يتعلق بهارتموت، في حين أني أثق أكثر في ذكرياتي وخيالي؛ فإمكانية أن يكون ما قيل مُطابقًا لما أتذكره كانت تكفيني لاعتبارها حقيقة.

هارتموت كان محقًّا، يجب أن نقر بذلك؛ فقد توقع الكارثة. فبعد ثلاث وثلاثين سنة من قيامه بإضرام النار في نفسه، بل ثلاث وثلاثين سنة وثلث السنة تحديدًا - بحسب ما نبهتني أمي- اهتزت الأرض في اليابان وتسببت في كارثة.

ثلاث وثلاثون سنة وثلث السنة؛ كان هذا أكثر من مجرد توقع، إذ كان العدد ثلاثة ذا مدلول إلهي. لا يسع المرء إلا أن يفكر في الثالوث المقدس! لا يمكن أن يكون ذلك مجرد مصادفة. فقد كان لدى هارتموت، إن لم يكن موهبة إلهية، فعلى الأقل هبة نبوية. فقد كانت والدتي تعتقد ذلك طوال حياتها، وربما كانت الوحيدة صاحبة ذلك الاعتقاد، لكن كارثة فوكوشيما في مارس 2011 أكدت رأيها.

من يظن أن أمي عندما علمت بما حدث في اليابان أسندت ظهرها إلى كرسيها زاهية بانتصارها ومستمتعة به في صمت، وربما زينت شعورها بالانتصار بابتسامة متواضعة، أستطيع أن أقول بكل ثقة عمن يظن مثل ذلك في أمي: "إنه لم يقابل أمي أبدًا".

فعندما زرتها بعد بضعة أيام من وقوع الكارثة النووية الكبيرة كانت تنتظرني على عتبة باب شقتها. ولأنها كانت في السابعة والسبعين من عمرها، ولم تكن تقوى على الوقوف على قدميها، كانت مستندة إلى إطار الباب بيد واحدة، وقبل أن أحتضنها عند التحية قالت وهي تبدو منتصرة وكأنها قد ربحت: "كان يعرف ذلك! هارتموت عرف ذلك!" وبطبيعة الحال، لم يكن عليها أن تذكر ذلك فقد كانت هي الوحيدة التي صدقت في هارتموت ورأت فيه أكثر من شخص مُتسكع.

ربما كانت محقة في تقييمها ولكن لا يمكنني فقط أن أنسى ما مررنا به طيلة تلك السنوات التي قضيناها في العيش من أجل هارتموت، حيث كان هارتموت مقياسًا لكل الأشياء. وحقيقة أنني الآن الشخص الذي عليه الكتابة عن حياته وتفسيرها يُعد شيئًا مثل سخرية القدر أو ببساطة ميزة الميلاد المتأخر.

في ذلك اليوم سلمت على أمي كما كنت أفعل في كل مرة. ربتُّ على كتفيها بخفة، ووضعت خدي على خدها وقلت: "لقد أحضرت الكعك، دون بيض ولا زبد ولا حليب، بالطريقة التي تحبينها”. هذه الكعكة كانت تسمى كعكة "زيبرا" أو "الحمار الوحشي"، وكانت مئة في المئة نباتية -حسب ما أكدت لي البائعة- التي كانت شابة ذات ضفائر مجدولة. كنت أقاوم دافعًا بداخلي لأشرح لها أن الكعكة لم تكن لي، وإنما لأمي التي تبلغ من العمر 71 عامًا، والتي أرادت أن تحتفل بمناسبة يوم الكارثة العالمي، وطلبت مني أن أحضر كعكة.

القصة التي سأحكيها عن هارتموت مختلفة عن التي كانت أمي لتحكيها. فقد كانت قصتانا ستتشابهان في البداية فقط، فكلتاهما كانت ستبدأ بالموت، كما لو كان الموت قبل كل شيء هو الذي أعطى لحياة هارتموت معنى. كما أنها كانت ستحكي عن هيلموت شميدت الذي كان آنذاك مستشارًا اتحاديًّا لألمانيا، والذي كان يرى أن أشخاصًا مثل هارتموت "صعاليك خُضرًا"، وقد هددهم بالفعل قبل انعقاد المؤتمر الحاسم للحزب في نوفمبر 1977 من معارضة قرار الأغلبية ومن الوقوف ضد الطاقة النووية. لكننا لم نتفق حول الدور الذي لعبه هيلموت شميدت في هذه القصة. فقد كانت والدتي مقتنعة بأن عناده هو الذي دفع هارتموت إلى الموت، وأنه كان مسؤولًا جزئيًّا عن ذلك.

أما أنا فكنت أرى فيه رجلًا رجعيًّا لا يتناسب عمله مع تصوراته العامة، وهو سياسي شعر هارتموت تجاهه -ببساطة- باليأس. وقد قاومت والدتي هذا الرأي بشدة. فبالنسبة لها لم يكن ما قام به هارتموت عملًا يائسًا. وأصرت على أن هارتموت التزم بمبادئ رودولف باهرو المنشق عن جمهورية ألمانيا الديمقراطية، واعتمد على التأثيرات طويلة المدى لأي فكرة متوغلة في صميم المشكلة. وأنه كان يتعامل مع الأمور بإخلاص مطلق وبكل شرف وإصرار. لقد ألقى ليس فقط عقله ولكن أيضًا وجوده كمواطن في كفة الميزان. من يظن فيه اليأس لا يعرف كيف كان هارتموت حقًّا، ويحوِّل فعله إلى النقيض: ويعده ضعفًا بشريًّا. من الصعب تقييم حجم تصرفه.

لقد كان عملًا شجاعًا ونتاج الإصرار والحب. وهكذا جعلت من هارتموت يسوع الثاني؛ لأنه حسب قول يسوع: "لا أحد لديه حب أعظم من الذي قدم حياته للأصدقاء". وهكذا كان هارتموت: "لقد بذل حياته من أجلنا جميعًا". حتى ذلك أيضًا أصبحت أراه بصورة مختلفة بعد فترة زمنية تقارب الـ34 عامًا. ففي قصتي نحن الذين قدمنا حياتنا من أجل هارتموت. لقد ضحى بنفسه أقل مما ضحى بنا، فنحن كنا قريبين منه، سواء شئنا أم أبينا.

لطالما كان الأمر كذلك؛ فكل من أحكي له قصتي لا بدّ أن يتكون لديه الانطباع بأن أمي لم تكن كاملة العقل. استنتاج يكاد يكون لا مفر منه، لكن لم يجرؤ أحد على التعبير عن هذا بوضوح، على الأقل ليس في وجودي. فبدلًا عن ذلك كان الناس يبحثون عن الكلمات التي تصف استنتاجهم بأفضل طريقة غير جارحة مثل: "هذا يبدو مأساويًّا"؛ وهذه عبارة غالبًا ما كنت أسمعها. أو كانوا يسألون: كيف كان الأمر بالنسبة لي وأنا أعيش مع مثل هذه الأم. أو يسألون عن والدي. حتى إن أحدهم اندفع ذات مرة وسأل ما إذا كانت والدتي قد خضعت للعلاج من قبل، وحتى لا أسيئ فهم ما قاله أضاف: "ليس من قِبل أي طبيب، ولكن مع... كما تعلم”. إحدى معارفي كانت مقتنعة بأن والدتي قد فعلت كل ذلك بدافع الحب، بدافع الحب لهارتموت، حب لم تكن تعيشه علنًا وربما لم تجرؤ على الاعتراف به حتى أمام نفسها. فقلت: يمكن في الأساس تفسير سلوكها كنوع من إجراءات التخطي. وعندها نظرت إليّ تلك السيدة واستوعبت معنى ما قالته لي للتو، وكانت متعاطفة بما فيه الكفاية حتى إنها تخلت عن استكمال شرح نظريتها.

ماذا عليَّ أن أقول عن كل ذلك؟ لم يفاجئني أي من ردود الفعل تلك، لأن كل هذه الأفكار قد شغلتني بالفعل. أنا الآن في الرابعة والأربعين من عمري -يمكن القول- رجل ناضج. وقد خضعت بضرورة الحال للعلاج، كان في البداية في صورة جلسات أسبوعية.