إيشيغورو يتقافز بأفكاره جيئة وذهابا في الزمن
عندما أصدر الروائي الياباني البريطاني الحائز على جائزةَ نوبل للأدب كازو إيشيغورو روايته الأولى "منظر شاحب للتلال" في عام ض 1982، قالت صحيفة التايمز إنها إنجاز كبير، وإن رشاقة اللغة المكتوبة بها تعكس ذكاء الكاتب وحِدة ذهنه. بينما قالت صحيفة الأوبزرفر إنها رواية يابانية ذكية، وقد حصَلَت تلك الرواية على جائزة "وينفرد هولتباي". وعندما صدَرَت روايته الثانية "فنان من العالم الطليق" في 1986، احتفَلَت الصحافة الأدبية بظهور واحد من أساتذة الكتابة الإنجليزية المعاصرة. كما حصَلَت الرواية على جائزة "ويتبرد"، ووصلت إلى القائمة المختصرة لجائزة بوكر في العام نفسه.
أما روايته الثالثة "بقايا اليوم" 1989، فقد حصَلَت على جائزة بوكر وتُرجمَت إلى لغات عدة، وكانت من أكثر الكتب مبيعًا على مدى خمس سنوات كما حُوِلت إلى فيلم ناجح من بطولة انتوني هوبكنز وإيما طومسون حصل على 8 جوائز أوسكار. أمَّا روايته الرابعة "الذي لا عزاء له"، 1995، فحصَلت على جائزة "شلتنهام".
تحمل رواية "بقايا اليوم" التي ترجمها وقدم لها طلعت الشايب وصدرت أخيرا طبعتها الثانية عن مؤسسة هنداوي تداخلا وتقاطعا بين الذاكرة الفردية والتاريخ الوطني من خلال عقل رئيس خدم إنكليزي نموذجي "ستيفنس" الذي يعتقد أنه خدم الإنسانية، لا لشيء إلا لأنه سخَّر كل كفاءته وخبرته المهنية لخدمة رجل عظيم "اللورد دارلنجتون". حيث يرى إيشيغورو أن التاريخ وذاكرة الفرد عُرضة للانتقاء والكبح والمراجعة بشكل دائم "الذاكرة بالنسبة للفرد، هي بالضبط كالتاريخ بالنسبة للدولة. نحن الآن في عام 1956، وقصر "دارلنجتون" أو "دار لنجتون هول" يستأجره الآن رجل أعمال أميركي. وعندما يبدأ "ستيفنس" رحلته بالسيارة (سيارة المالك الجديد) إلى الريف الغربي، فإنه يبدأ في الوقت نفسه رحلة مُعذبة في الذاكرة. هنا سيكتشف ما يجعله يضع كل شيء موضع المساءلة؛ عظمة اللورد الذي خدمه بإخلاص، وكذلك معنى حياته التي عاشها في عزلة عن كل شيءٍ مُهمٍّ باستثناء وظيفته. أمَّا فكرة الرحلة ذاتها فهي بنيَّة ذكية اتخذها إيشيغورو ليقول لنا إن البطل كلما كان يبتعد عن قصر دارلنجتون، إنما كان يقترب من فهم حياته التي قضاها هناك. ولكن تفاصيل الرحلة تكشف للقارئ أشياء أكثر عمقًا من تلك التي تتكشف ﻟ "ستيفنس". رئيس الخدم يعتقد، مثلًا، أنه يقوم بتلك الرحلة لأسباب مِهْنية، أو لكي يقنع مُدبرةَ شئون القصر السابقة "مس كنتون" بالعودة للعمل في "دارلنجتون هول".
يقول الشايب في مقدمته "من خلال عمليات الفلاش باك، واعترافات ستيفنس الساذجة، سرعان ما يدرك القارئ أن الأمر شخصي جدًّا: ستيفنس كان يحبُّ مس كنتون، ولكنه تركها تتزوج رجلًا آخر، وهو الآن يريد أن يستعيد بعضًا من الزمن المفقود، أن يُصحِّح خطأ الماضي. والأهم من قصة الحبِّ المقنعة هذه ـ وعلى صلة بها أيضًا ـ هناك قضية قصر دارلنجتون ورأي ستيفنس في نفسه؛ ذلك الرأي الذي يستند فيه إلى اعتقاده بعظمة "اللورد" وسعيه لخدمة الإنسانية. القارئ يكتشف أنه يتأخر في الاعتراف بالخطأ. كان "اللورد" مجرَّد "عسكري شطرنج" في يد النازي، كان غبيًّا ربما، ضالًّا لا شك، ولكنه لم يكُن أبدًا ذلك الرجل العظيم الذي خدع ستيفنس نفسه به. هذه الاعترافات تتم من خلال بنية محبوكة، حيث تتنقل رحلة ستيفنس بين السفر والتذكر والتفكير في المهنة ومعنى الكرامة، وحاضر دارلنجتون البائس، ونفوذ اللورد في العشرينيات، وتوترات وقلق الثلاثينيات قبل الحرب.
ويرى أن "ستيفنس في هذه الرواية، يعكس أفكار وتأملات إيشيغورو الخاصة، وعدم وضوح الرؤية لديه، والتمادي في السَّير في الاتجاه الخطأ. وشخصيته مرسومة بعناية فائقة تُبرز مزايا وعيوب الطبيعة المتحفظة. فهو شخص رزين، محترف، يحاول أن يحافظ على النظام والانضباط ومستوى الخدمة الممتاز في قصر مخدومه. هذه الجهود كلها تفيض على حياته الشخصية، وتطغى عليها مُخلفةً رجلًا غامضًا بقلبٍ أجوف. والكاتب يُقدِّم لنا في الرواية أيضًا رجل سياسة أمريكيًّا، وهو "مستر فراداي"، ويرسم شخصيته بمعالم واضحة لكي يظهر التناقض بين الثقافتين. هذا الدبلوماسي، المالك الجديد للقصر، يأتي بعد صاحبه الإنجليزي الذي لطخ وجه إنجلترا بالعار بتأييده للنازي. لكن «ستيفنس» مخلص للمالك الجديد أيضًا بالرغم من أنهما على طرفَي نقيض.
ويؤكد الشايب أن كل تركيز ستيفنس منصب على أداء وظيفته، القضايا الجادة والخطيرة لا تشغله، يحيط حياته بنظام صارم لكي يسير كل شيء في القصر على ما يُرام. والحقيقة أنه قد رهن حياته وهويَّته لشخصٍ آخر، ووضع نفسه في فخِّ ما يراه ضمانًا لأداء دَوره في العمل والحياة. وفي نهاية الرواية، يصل ستيفنس إلى درجة من ترويض النفس، درجة من الخمود في تفكيره عن "دارلنجتون هول" وعن نفسه. مصدر كبريائه هو نفسه مصدر شعوره بالعار. كان على استعداد لأن يلمع في أوج عظمة "دارلنجتون هول"، والآن لا بد أن يتحمل نصيبه من العار.
إن رواية "بقايا اليوم" مثل كل الأعمال الإبداعية الكبرى، عمل عضوي متماسك، متكامل الأجزاء؛ كل مشهد وكل شخصية تضيف إلى الصورة الكلية وتُبرزها، وأسلوب الكاتب المُحكَم يناسب موضوعه تمامًا، كما هو مناسب لشخصية الراوي الذي يسافر بسهولة بين المراحل الزمنية المختلفة. وباستدعائه الساحر للفكاهة والسخرية، يبدو إيشيغورو سيدًا في استخدام أدواته. تلك كلها عناصر تجمَّعَت في الرواية لكي ترسم صورةً نفسيةً وثقافيةً واضحةَ المعالم تُعبِّر عن فكرة إيشيغورو الدائمة؛ الفن وخداع الذاكرة.
ويلفت الشايب إن أكثر ما يضايق كازو إيشيغورو هو الاهتمام به لكونه كاتبا يابانيا، وفي ذلك يقول: "إن استخدامي الدقيق والمُحدد للغة ليس خاصيةً يابانية، فقد كانت "جين أوستن" و"هنري جيمس" تستخدمان الأسلوب نفسه بنجاح كبير، وأنا بطبيعتي أكره الإسهاب والتطويل والتضخيم كما في مسرح الكابوكي وأفلام "كيروساوا" الملحمية. إنها أعمال يابانية حتى العَظم، وبعيدة عن الاقتصاد. وبالرغم من أن المؤسسة الثقافية الإنكليزية تعتبر إيشيغورو كاتبًا غير بريطاني، إلا أنه على خلاف الكتاب الآخرين المهاجرين من الهند وبقية دول القارة الآسيوية؛ لا يجد لزامًا عليه أن يعكس اهتمامات التجمع الياباني في لندن، أو أن يُعبِّر عن قضاياه أو يخاطبه في أعماله. يقول "لا أعتقد أنني أشارك الكُتَّاب الآسيويين في بريطانيا هموم الهويَّة، وأذكر أنني عندما جئتُ إلى هنا كنتُ أنا الطفل الياباني الوحيد في المنطقة، ولم يكُن هناك مَن يسألني من أيِّ مجتمع أنت. وأنا حتى الآن لا أشعر بروابط مع المجتمع الياباني الذي يعيش هنا، فهو مجتمع عابر، يتكون من مجموعة من رجال الأعمال في شركات متعدِّدة الجنسية، يرسلون أبناءهم إلى مدارس يابانية ويأكلون في مطاعم يابانية، وأنا لا أفهم ثقافتهم، ولا أتكلم نفس اللغة، ولا أعيش حياتي بنفس أسلوبهم، ليس هناك ما يربطني بهم سوى أصلي، وأعيش هنا كما يعيش أي روائي إنجليزي، وليس هناك أي ضغوط سياسية تجعلني أفكر أن أكون متحدثا رسميا باسم مجتمع أو جمهور معين..".
ويبين الشايب إن إيشيغورو يكتب بأسلوب شديد الاقتصاد، لا يُقدِّم إلا التفاصيل الضرورية، بل إنه كثيرًا ما يقول شيئًا، وهو يعني شيئًا آخر. كتاباته خليط من الاستعارات المنفصلة والتلميحات والتشبيهات والتداخلات الغامضة بين الشخصيات. وهو كاتب مدهش في تقديم شخصيات ثانوية تحيط بأبطاله فتُبرزهم عن طريق العلاقة التي تربطهم معًا. كاتب يتقافز بأفكاره جيئةً وذهابًا في الزمن، ويستخدم الذكريات وتداعياتها وردود الفعل ليصوِّر الظروف التي تُجسِّد شخصياته. يخدعنا في كثير من الأحيان ويتركنا مرتبكين بسبب نقص في القَصِّ أو عدم وضوح، ولكنه يعتبر ذلك استراتيجيةً في كتاباته، فالمعلومات الشحيحة يريد بها أن يجعلنا نشحذ الذهن والخيال في أمور البشر. يضعنا في عالم ضبابي وملتبس لكي نستخلص صفاتنا الخاصة من الحكاية. لا يصف لنا بدقة أو تحديد ذلك المشهد الذي نهُمُّ بتصوُّره، لذلك يُشبِّهه بعض النقاد ﺑ «كافكا» عندما يستخدم أساليب مُعقَّدة تُشبِه الحلم وهو يصف شخصياته. وهو تِكنيك يجبر القارئ على المزيد من إعمال الخيال وشَخْصَنة القصة والاشتراك في كتابتها، إن جاز التعبير. يقول إيشيغورو "عندما يخرج الكاتب عن التقليدي والواقعي في الكتابة، يكون لزامًا عليه أن يبتكر، أن يخلق عالمًا جديدًا، وأن يلتزم به؛ هنا يصبح للفوضى وللمنطق الداخلي الخاص هدف". حتى عناوين أعمال إيشيغورو توحي بالتردُّد والحيرة وعدم اليقين، وبالواقعية الخشنة التي تصدم القارئ بعد الانتهاء من العمل، فيدرك أهمية العنوان ومغزاه.