ابن رشد والاغتراب الأبدي

رواية 'ابن رشد كاتب الشيطان' للكاتب الفرنسي جييلر سينويه تؤكدُ أنَّ موازنة الفيلسوف بين مبادئه العقلية وعقيدة العامة تفادياً لأي اصطدام أمر دونه خرط القتاد، وأراء تعتبر أن أفكاره لم تخترق البيئة الثقافية العربية ولم تجد متنفساً في الفضاء الديني.
مسيرة الفلاسفة لا تخلو من المواقف التراجيدية المرهقة
المشتركُ بين جميع الفلاسفة بقطع النظر عن تباين المشارب الفكرية مكابدة الصراعات
الرواية مُستقاة من سيرة الفيلسوف الفكرية والحياتية
جوهر الخلاف بين ابن رشد والغزالي، أنَّ الأول يؤمن بالتأويل، فيما الثاني يكتفي بالوقوف عند ظاهر النص

يهدفُ النشاط الفلسفي إلى انتشال العقل من الركود، وصناعة القيم الفكرية الجديدة ويضعُ المسلمات أمام المساءلة النقدية، ضمن مشروعه القائم على منظومة معرفية صادمة للتيار السائد. عليه فإنَّ علاقة أصحاب المشاريع الفلسفية مع الواقع الغارق في التقليد يسودها التوترُ والصراع، لأنَّ الفليسوف هو كائن وجد من أجل المستقبل، على حد تعبير نيتشه. إلى هذا يصبحُ الفليسوف مغترباً عن زمنه، ويكابدُ وحيداً في حربه الضروس مع العقليات المُثقلة بالوهم، ويعتقدُ مؤلف "غسق الأوثان" بأنَّ الفيلسوف هو كائن تراجيدي وما يسبغُ مصداقية على رأي نيتشه هو عدم تلبية الفيلسوف لمطالب اجتماعية أيا كانت أشكالها، حسب ما يذهب إلى ذلك نيقولاي برديائف، والتأويل الأقرب لهذا الكلام يفيدُ بأنَّ الفليسوف لا يحقنُ الرأس بالأوهام والمقولات المخدرة، وفي ذلك يتقاطع مع النزعة العلمية الكاشفة لهشاشة المعارف المتدجلة.
إذن فإن المراد من المسعى الفلسفي ليس اكتساب الحشود الشعبوية، بقدر الاشتغال على تثوير المفاهيم والصعود بالعقل من ركام الأوهام نحو فضيلة الاستقلال في التفكير، والخروج من الأنساق المكرسة لسلطة الأوصياء. طبعاً تتطلبُ هذه العملية تكلفةً باهظة، لدرجة قد تستنفد الطاقات كلها. ألم يكن نيتشه محقاً في قوله إنَّ الهدف بعيد جدا، وحتى لو وصله المرء فسيصلُ مستنزفاً كل قواه. لذلك لا تخلو مسيرة الفلاسفة من المواقف التراجيدية المرهقة. غير أنَّ ذلك لا يثني هؤلاء عن المضي قدماً في درب المعرفة الملغم. وما يهمُ الفيلسوف الحقيقي هو إكمال مشروعه، ولا استغراب من أن يتقدمَ أحياناً على مسرح التاريخ، مُقَنَّعاً كما فعل ذلك رينيه ديكارت، وآثر أن لا يفتحَ جبهات متعددة. بدوره هرب أرسطو تحت جنح الليل وفوَّت على خصومه ارتكاب جريمة أخرى ضد الفلسفة بعد إعدام سقراط. كذلك ابن رشد لم تعجبه مخالطة الأمراء، لكن الواقعَ أرغمه على مداراتهم، تجنباً لكيد الحاشية، إذن لن يختارَ كل فيلسوف إمساك الثور من قرنيه على طريقة سقراط ونيتشه.
محنة
المشتركُ بين جميع الفلاسفة بقطع النظر عن تباين المشارب الفكرية والاتجاهات المعبرة عن رؤيتهم للحياة، هو مكابدة الصراعات المضنية والمعاناة الجسيمة، فكان أفلاطون ضمن حاشية بلاط الطاغية ديونيسيوس في صقلية، إذ أثار بآرائه الفلسفية والأخلاقية غضب الأخير، وعاقب تلميذ سقراط بعرضه في سوق النخاسة، إلى أنْ نجا بأعجوبة من العبودية. وهذا ما يُحيل إلى استبصار نيتشه بشأن الحقيقة التي تريدها الدولة، فبرأي فيلسوف المطرقة لا تهتمُ الدولة إلا بالحقيقة التي تنفعها، لذا فإنَّ الهدوء بين الحاكم والفيلسوف مؤقت ونسبي.
الأمر الذي يتجلى في مسيرة حياة فيلسوف قرطبة ابن رشد إذ ما تضمه رواية "ابن رشد كاتب الشيطان" للكاتب الفرنسي جييلر سينويه، يؤكدُ أنَّ موازنة الفيلسوف بين مبادئه العقلية وعقيدة العامة، تفادياً لأي اصطدام، أمر دونه خرط القتاد، حتى لو كانت له حظوة لدى السلطان.وهذا ليس كلُ ما يسردهُ سينويه في سياق منجزه الروائي، بل يرصدُ الروافد المعرفية في تكوين ابن رشد الفكري، ناهيك من مراسلاته مع ابن ميمون وسجالاته مع الأشاعرة والغزالي. 
كما لا تغيبُ التركيبة الشخصية لحياته الأسرية والعاطفية من برنامج هذه الرواية المُستقاة مادتها من سيرة الفيلسوف الفكرية والحياتية.
 تتفتحُ حركة السرد بتحديد تاريخ الكتابة والمكان الذي عاش فيه ابن رشد أيامه الأخيرة مراكش، ومن ثمَّ يكشفُ الغطاء عن تأملات المتكلم وخلجاته، لافتاً إلى أنَّه جاء مثل الماء ويحاكي الريح في رحيله، إذ يتابعُ الراوي حركة النجوم التي تؤشرُ إلى خلفية الليل والنهار، ويتذكرُ زمن الولادة والموقع الذي بصرُ فيه النور، مستعيداً في هذا المقام ما حققه القائدُ البربري من عبور المضيق الفاصل بين المغرب والغرب بأربعة قرون، قبل مولده، والأهمُ من ذلك هو اعترافُ المتكلمُ بالضمير الأول، بأنَّه يكتبُ السيرة لولده جهاد، الوحيد الذي بقي على قيد الحياة من أبنائه وهذا يكونُ بمثابة تحضير لمعلومات تتواردُ لاحقاً عن أسرة ابن رشد.
قمة
لا يتجاهلُ المؤلفُ الإشارة إلى اللقاء الشهير بين ابن عربي وابن رشد وما يقولهُ الأخير بشأن صاحب "فصوص الحكم" ونبوغه، ومناقبه ومن المعلوم أنَّ ابن عربي كان صبياً حين عبّر ابن رشدُ عن شوقه لرؤيته. على أي حالٍ يسترسلُ الفيلسوف في مونولوجه، كاشفاً عن الأمل الذي يراودهُ بأن يكملَ مذكراته ويتكفلُ ابنه بإيصالها إلى ابن عربي، ويمانعُ احتفاظ جهاد بالكتاب الذي سطرَ فيه حياته أياً كان الثمن. 
ومن الواضح أنَّ استحضار مؤلف "الفتوحات المكية" يكونُ مناسبة لتلميح إلى خصوصية المسلك الصوفي، الذي يتحدُ فيه العقل والمعرفة والمحبة. إلى ذلك يتمُ ترويس السرد بمقطع شعري، يعبرُ عن التجربة الروحية المتسامحة لابن عربي مع إيراد ما يقولهُ ابن رشد عن النص، متوقعاً أنَّه سيثيرُ غضب الناس على صاحبه.
 ويضيفُ أنَّ كلامُ ذلك القطب الصوفي المليء بالمحبة، وطد عزمه على أن يتعهد بالمخطوط إليه، ولا ينقطعُ تيار السرد منتقلاً إلى مفصلٍ آخر قبل الإبانة عن فكرة ابن رشد، وهي تقومُ على الإيمان بأن الكون وخالق الكون يمثلانِ واحداً، ومن الطبيعي أن يتجاور أرسطو اسم شارحه، لأنَّ ابن رشد اعتبر المعلم الأول مصدراً لعلومه، يُذكرُ أنَّ بموازاة رواية سيرة ابن رشد تتابعُ الحلقات السردية الراصدة لانتشار أفكار ابن رشد في أوروبا، إبان العصور الموسطى، وكان توما الأكويني قد أراد نقض نظرية ابن رشد عن العقل الواحد، الذي ما أن يموت الإنسان حتى يفقد اتصاله به، لأنَّ القدرة على التفكير تتوقف.
 والغريبُ في الأمر أن دانتي وضع كلاً من ابن رشد وناقله إلى اللاتينية مايكل سوت، في الجحيم في صف سقراط وأبقراط وابن سينا. يتمددُ كلام الراوي خارج الشكل السيري، مُتتبعاً مواصفات الحاضنة المكانية ومعالمها الثقافية، لعلَّ من أبرزها وجود سبعين مكتبةً، وشاعت مقولة على الألسنة، أن عالماً إذا مات في إشبيلية وأريد بيعُ كتبه حُمِلَتْ إلى قرطبة. عدا عن كل ذلك فكانت المدينة بيئةً لعدد من أعلام الفكر والأدب منهم، سينيكا وابن حزم وابن ميمون الذي مدَّ حبل الود بينه وبين ابن رشد.
شغف
ويبدو من خلال الحوار الذي يدور بين ابن رشد ووالده، أنَّ الفلسفة كانت مصدراً للأرق وإثارة الريبة، لكن ذلك لم يمنع ابن رشد من الانخراط في هذا المجال. وكان موت أخته مريم دافعاً لانهمامه على الطب، وكان يدرسُ عند ابن طفيل ويضيفُ في غرناطة مزيداً من المعارف إلى زاده المعرفي، كما لفتت نظره مرونة العلماء في رؤيتهم للمفاهيم الفقهية والدينية، إذ يخبرهُ صاحب "حي بن يقظان" بأنَّه يشفي غليله بالخمر قبل أن يحلّ أجله. 
جدير بالذكر أنَّ ابن طفيل قد بزَّ بطليموس في معرفته بعلم الفلك، والحال هذه لا يقفزُ الساردُ على دور ابن زهر في تفتحِ عقليته العلمية، ضف إلى ذلك فإنَّ الملمح الفكري للرواية يكون أوضحَ عندما يستعيدُ ابن رشد جذور اختلافه مع الغزالي، إذ يناقشُ معتقداته بشأن حدوث العالم بفعل إرادة قديمة، مشيراً إلى رده بكتاب "تهافت التهافت" على ما ألفه غريمه بعنوان "تهافت الفلاسفة" وفي هذا الإطار يتبينُ رفض ابن رشد لتبعية العقل للنقل، كما يظهرُ إعجابه أكثر بفلسفة أرسطو.

ترصدُ الروافد المعرفية في تكوين ابن رشد الفكري
ترصدُ الروافد المعرفية في تكوين ابن رشد الفكري

 ويكمنُ جوهر الخلاف بين ابن رشد والغزالي، أنَّ الأول يؤمن بضرورة التأويل، فيما الثاني يكتفي بالوقوف عند ظاهر النص. كما ناقش صاحب "فصل المقال" الأشعرية حول مبدأ السببية وصفوة ما يتوصلُ إليه المتلقي، من خلال هذا الجدل أنَّ ابن رشد يوافقُ معلمه أرسطو تماماً في الانتصار للعقل واستقلال الإرادة البشرية.
تضايف قصصي
لا تنكفئ الرواية على حياة ابن رشد ومعاركه الفكرية واقتدائه بالفلاسفة في تواضع ملبسه، على الرغم من منزلته الاجتماعية، كونه وارثاً لأسرة القضاة، بل يتضايف هذا المنجز الروائي سلسلة من القصص، إضافة إلى تضمين الأحداث التي شهدتها تلك المرحلة التاريخية، حيثُ دانت مقاليد الحكم إلى الموحَّدين، وكان ابن تومرت بمثابة الزعيم الروحي لهذه الجماعة. أكثر من ذلك تنضمُ قصة لبنى وهي امرأة تاجرة، ويستهوها اقتناء الكتب النفيسة إلى الحزام السردي، إذ ينصحُ ابن طفيل تلميذه بزيارة مكتبتها، وما أنْ يلتقي ابن رشد بتلك المرأة حتى تبدأُ الأخيرة باختبار ذكائه، وتسأله عن الدين والفكر والقضاء والقدر والآيات التي تؤيده والأخرى التي تخالفه، ويتوافقُ اكتشاف الفتى لمصادر فلسفية مهمة منها كتاب "النفس" لأرسطو، مع التذاذه بالحب، ومعرفته بالمكون الجسدي وما يشدُ الانتباه هو المنطلق الفكري في شخصية لبنى، إذ تمثلُ صوتاً أنثوياً يجمعُ بين غواية اللذة وقيمة معرفية فياضة. وذلك تلاحظه في حوارها مع ابن رشد وعدم موافقتها على فكرة التقيُد، وتحولها إلى حرثِ يأتيها الرجلُ أنى شاء.
 بالطبع هذا الصوت يخدمُ هوية النص فنياً فبالتالي يكون المجال وارداً للتقابل بين تشكيلة الشخصيات، وما يؤكدُ تأثير لبنى في حياة ابن رشد هو سعادته لمقولاتها مثل "على المرء أن يطلبَ الموت ليدرك أن الحياة تستحق العيش" أو "لا بقاء للشقاء أو السعادة، إنهما قطعتان صغيرتان من الحياة تغدوان وتروحان" مع أنَّ ابن رشد نجح في تفادي أمزجة الحكام المتقلبة، بل خطب ود واحترام بعضهم، لكن وهو على مرمى أيام من رحلته الأخيرة، يدبُ الخلاف بينه وبين المنصور الموحَّدي، وينتهي الأمر بإحراق كتب فيلسوف قرطبة، الذي كان في فهمه للفضيلة أقرب إلى كانط ورواد التنوير، ولم يستسغْ مبدأ المقايضة لعمل الخير أو الإحجام عن الرذيلة خوفاً من العقاب، واعتقد أنَّ الحقيقة إذا كانت صادمة ومزعجة فذلك ليس من خطأ الحقيقة، كما أنَّ العلم برأي ابن رشد يفتحُ الأبواب بوجه أسئلة جديدة وغياب السؤال يؤدي إلى انحطاط الروح.
 يرى علي مبروك أن أفكار ابن رشد لم تخترق البيئة الثقافية العربية، ولم تجد متنفساً في الفضاء الديني، وعندما نقلَ رفاته من مراكش إلى قرطبة لحقت به أفكاره، وما يؤكدُ حقيقة هذا الأمر أنَّ مؤلف هذه الرواية من جنسية فرنسية.