اتفاق الضرورة لترامب ونتنياهو وحماس في غزة
تسير وتيرة المناقشات حول التوصل إلى هدنة في قطاع غزة تمهيدا لوقف إطلاق النار هذه المرة بصورة أفضل من سابقاتها التي كانت تتعثر فيها المفاوضات كلما اقتربت من خط النهاية وتنهار وهي على بعد أمتار قليلة من الاتفاق، لأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم تكن لديه إرادة سياسية كافية للتهدئة وعلى يقين بأن القوة أداة مناسبة ووحيدة لتحقيق السلام، ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لم يستكمل بنك أهدافه كاملا ويريد تمديد فترة بقائه في السلطة وتأخير محاسبته بتهم فساد، وكان لدى حماس أمل في التوصل إلى صيغة تمكّنها من تقليل خسائرها.
حانت اللحظة التي يقتنع فيها الرئيس ترامب بأن فكرة السلام من خلال القوة مطاطة، ويصعب تطبيقها في كل القضايا الإقليمية، وأن الإفراط فيها يؤدي إلى آثار عكسية، خاصة مع استمرار سلاح القوة فترة طويلة، كما هو حاصل في غزة، فقد اقتربت الحرب على القطاع من نهاية عامها الثاني دون أن تحقق الأهداف التي يريدها الرئيس الأميركي، والمشاهد الإنسانية المفزعة التي تتناقلها وسائل الإعلام تخصم من رصيده، وتنال من مصداقيته إذا أراد الحصول على جائزة نوبل للسلام.
بات نتنياهو على يقين أن أهدافه لن يتمكن من تحقيقها بالقوة في غزة، وثمة أدوات سياسية جيدة تساعده على الوصول إليها، وثبت أن المفاوضات هي الوسيلة الوحيدة لعودة الأسرى، والتخلص من حكم حماس لغزة يتحقق بالتسوية وليس بالسلاح، فالأخير يمنحها فرصة للبقاء، ولو فقدت غالبية معداتها، فما أشار إليه المستوى العسكري في إسرائيل من صعوبة السيطرة على القطاع والإنهاك المعنوي الذي أصاب الجنود يعزز القناعة بأهمية ضرورة الدخول في مرحلة تهدئة الآن، وهو ما تؤكد مؤشرات إسرائيلية عديدة عليه مؤخرا.
التهدئة لمدة ستين يوما مع فتح طاقة أمل لوقف طويل لإطلاق النار صيغة جيدة لمثلث ترامب – نتنياهو – حماس. فترامب يريد العودة إلى خطابه الأول عندما دخل البيت الأبيض في يناير الماضي متفاخرا باتفاق هدنة وقعته إسرائيل وحماس قبل وصوله إلى السلطة، ولا يريد أن يبتعد كثيرا عن هذه النقطة، فبعد استئناف الحرب على غزة في مارس الماضي، ومشاركته في حرب إسرائيل على إيران في يونيو الماضي، لم يعد الكثيرون يثقون بأن هدفه إحلال السلام في العالم، حتى حرب روسيا وأوكرانيا التي حظيت باهتمام كبير من جانبه لم تتحرك خطوة جدية إلى الأمام.
الصيغة المطروحة للتهدئة ضرورية من وجهة نظر ترامب، ودخول بلاده كضامن مباشر يمكنه من القبض على دفة الأمور، والإيحاء أنه يعمل من أجل السلام، فالتهدئة مفتوحة هذه المرة على فرصة لوقف الحرب مستقبلا، وبالتالي يستطيع الزعم أن القوة هي التي قادت حماس إلى الجلوس حول الطاولة، ولبراعته في المراوغة وتغيير وتبديل مواقفه سريعا لن يعدم إيجاد الذريعة التي تساعده على القول إن فكرته بدأت تطبق، ولعدم قدرته على جر إيران إلى مفاوضات جديدة عقب حربها مع إسرائيل ومشاركة الولايات المتحدة فيها مباشرة، تبدو التهدئة في غزة حاجة ماسة.
لم يعد أمام نتنياهو (الضلع الثاني في المثلث) فسحة من الوقت للمزيد من المناورات التي استخدمها في مرات سابقة ومكنته من الإحجام عن دخول اتفاق جديد مع حماس قبل مواجهة إيران، فالحرب كانت في خلفية كل ما قامت به إسرائيل في غزة ولبنان وسوريا، وربما هي السبب الرئيسي وراء الهجمة الشرسة عليهم، حيث أراد نتنياهو تقويض أذرعها قبل أن يلتفت إليها ويتعامل معها عسكريا بشكل مباشر، وبعد أن هدأت جبهة إيران وحققت إسرائيل مكسبا إستراتيجيا فائقا، ويمكن أن تشتعل مرة أخرى، بدأ التفكير في تهدئة جديدة على جبهة غزة، وفقا لصيغة تمكن نتنياهو من توفيق أوضاعه في مصفوفة تناقضات تحيط بحكومته اليمينية.
قبل الشروع في إبداء مرونة للتجاوب مع صفقة غزة، قام نتنياهو بخطوات يمكن الاستشفاف منها أنه لم يتنازل عن أهدافه، حيث تم الإعلان عمّا يفيد بضم الضفة الغربية إلى إسرائيل من أجل إرضاء اليمين المتشدد، وصمّم على أن يكون الوصول إلى وقف إطلاق النار عبر تهدئة، كي يحتفظ بحق الدخول والخروج واستئناف الحرب في أيّ لحظة، على طريقته مع لبنان، والتشبث بعدم رؤية "حماسستان" في غزة، في إشارة تؤكد رفضه تماما لوجود إمارة إسلامية في القطاع، بكلام آخر يتعهد لمواطني إسرائيل باتخاذ كل الإجراءات التي تحول دون تكرار عملية طوفان الأقصى.
يدرك رئيس حكومة إسرائيل أنه استنفد الوقت لامتصاص غضب أهالي الأسرى، ولم تعد لديه رفاهية للتسويف في ملف محاكمته، فلجأ إلى ترامب لمنحه صكا يعفيه من المحاكمة، وربما يجد الرئيس الأميركي صيغة تطوي هذه الصفحة، وتجاوز عقباتها القانونية، بما يقنع نتنياهو بالمضي في عملية التهدئة ثم وقف إطلاق النار، واستهلاك الوقت في عملية الترتيبات التالية لهذه الخطوة، وما يكتنفها من تعقيدات سياسية وأمنية.
قد تستغرق الخطوة سنوات من أخذ ورد حول تجفيف منابع حماس بالأدوات السياسية، وشكل الحكم في غزة، ودور السلطة الفلسطينية في القطاع، والدول التي يمكن أن تتشكل منها قوة دولية، وسيكون الوضع مريحا لإسرائيل في هذه المسألة، لأنها تجيد التعامل مع طقوسها، والدخول في تفاصيل دقيقة تمكنها من التعامل بأريحية كبيرة، بينما حماس، والجانب الفلسطيني برمته، يواجهان مأزقا حادا بسبب غياب الرؤية والتفاهمات، واستعداد شريحة كبيرة من الفلسطينيين للتجاوب وسط حالة إنسانية مأساوية لا يوجد أفق لتجاوزها مؤقتا سوى التهدئة، ما يوفر وضعا مريحا لنتنياهو ومن يخلفه، ويجعل من التوقيع على اتفاق بشأن غزة حاليا عملية ضرورية.
وصلت حماس إلى مستوى إنهاك لا يمكنها من فرض شروط وتعلم أن ورقة الأسرى الوحيدة التي تملكها الحركة، إذا فقدتها، فقدت كل شيء، وعليها أن تستثمرها في تخفيض سقف مطالب نتنياهو، ولا تراهن على ضغوط داخلية أو خارجية عليه، فالفترة الماضية أثبتت أن هذا الرهان خاسر، وكلما زاد الوقت تصاعدت خسائر الفلسطينيين، والتهدئة طريق وحيد لإنقاذ ما تبقى لحماس، وفتح مجال لوقف إطلاق النار، وعلى الفلسطينيين والعرب الاستفادة من دروس المرحلة الماضية، كي لا يتم إعدام القضية الأم، فظهور صراعات موازية يساعد إسرائيل على تهميشها.
من الواضح أن حماس ليس لها مستقبل إداري بقطاع غزة في هذه المرحلة، وهي قبلت ذلك سابقا وتقبله حاليا، وعليها التفكير في مصير الخفيف من سلاحها، والذي تصر إسرائيل على التخلص منه، وعلى الحركة أن تظهر قدرة حقيقية على التفاهم مع القوى الفلسطينية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بالوسائل السياسية، واستغلال اتفاق الضرورة المنتظر وضخ دماء جديدة في القضية الفلسطينية.