كردستان والعراق لوحة متكررة من الإقصاء والصراع على الوجود
الخلاف بين إقليم كردستان والحكومات العراقية المتعاقبة لم يكن يوماً خلافاً عابراً أو وليد أزمة مؤقتة، بل هو امتداد تاريخي لبنية تأسيسية مختلّة للدولة العراقية الحديثة، فمنذ نشأتها بعد الحرب العالمية الأولى، لم تكن هذه الدولة انعكاساً لإرادة مكوناتها، وإنما وُلدت من رحم التفاهمات الاستعمارية التي رتّبت حدود المنطقة بناءً على مصالحها، لا على الحقائق الديمغرافية والثقافية.
تجسّد ذلك في قرار عصبة الأمم عام 1925 بضم ولاية الموصل ذات الغالبية الكردية إلى العراق، دون العودة إلى سكانها. ومع أن معاهدة سيفر عام 1920 كانت قد نصّت على إمكانية إقامة كيان كردي مستقل، إلا أن تلك البنود طُمست سريعاً في معاهدة لوزان، لتُدفن معها آمال الكرد في تقرير مصيرهم. وهكذا، تأسست الدولة العراقية على قاعدة من الإنكار والإقصاء، حيث جرى تجاهل الوجود القومي للكرد، وتُركوا خارج منظومة الحكم، لا شركاء في بنائها.
ومع قيام النظام الجمهوري عام 1958، برزت فرصة جديدة لتصحيح هذا الخلل البنيوي، حيث أقرّ الدستور المؤقت أن "العرب والكرد شريكان في هذا الوطن". وتمخّض عن ذلك اتفاق 11 آذار 1970، الذي نص على منح الحكم الذاتي لكردستان، غير أن ما بدا بوادر شراكة، تحوّل لاحقاً إلى خيبة أمل كبرى، إذ تراجعت الحكومة المركزية عن التزاماتها وشرعت في تنفيذ سياسات التعريب وفرض السلطة بالقوة.
بلغ هذا النهج ذروته في أواخر الثمانينات، عندما شنّ نظام صدام حسين حملة الأنفال ضد الكرد بين فبراير وسبتمبر 1988، والتي قُتل فيها ما لا يقل عن 100000 مدني كردي، ودُمرت أكثر من 2000 قرية، وتم استخدام الأسلحة الكيماوية ضد السكان، أبرزها في مدينة حلبجة حيث قُتل ما بين 3200 إلى 5000 شخص في ساعات قليلة. وقد صنّفت هيومن رايتس ووتش هذه الحملة في تقريرها "Genocide in Iraq" عام 1993 كجريمة إبادة جماعية، وأكّد هذا التوصيف لاحقاً حكم المحكمة الجنائية العراقية العليا عام 2010.
وعقب سقوط النظام في 2003، وُلد أمل جديد بإقامة دولة عراقية اتحادية عادلة، وكان للكرد دور محوري في صياغة الدستور العراقي لعام 2005 الذي نصّ في مادته الأولى على أن العراق "دولة اتحادية"، وفي مادته 117 على الاعتراف بإقليم كردستان ككيان دستوري، فيما نصت المادة 140 على خارطة طريق لمعالجة المناطق المتنازع عليها تشمل "التطبيع، التعداد، والاستفتاء" قبل نهاية عام 2007، لكن هذا الالتزام الدستوري بقي معطلاً حتى اليوم، رغم صدور أحكام قضائية تؤكد ضرورة تنفيذه.
وفي الوقت الذي كان فيه الإقليم يواجه تنظيم داعش ويستقبل أكثر من مليوني نازح من محافظات عراقية أخرى، قررت الحكومة المركزية عام 2014 قطع موازنة كردستان بالكامل. لم يكن ذلك خلافاً مالياً بحتاً، بل سياسة عقابية استخدمت فيها بغداد موارد الدولة للضغط على مواطني الإقليم، رغم أن قوات البيشمركة كانت في الخطوط الأمامية لحماية وحدة العراق بأسره.
استمرت هذه السياسات بعد عام 2019، رغم توقيع اتفاقيات بين أربيل وبغداد مثل اتفاق نيسان 2023 الذي نظّم ملف النفط والرواتب، إلا أن الحكومة الاتحادية لم تلتزم ببنوده، وواصلت تعطيل دفع الرواتب عبر استخدام التبريرات القانونية، متجاهلة أن ذلك يشكّل خرقاً واضحاً للدستور ولمبدأ المساواة في المواطنة.
لقد نصّ قانون الموازنة العامة لعام 2023 في مادته 13 على آليات واضحة لتسوية المستحقات، لكن لم تُنفذ، واستمر الضغط المالي على الإقليم كأداة سياسية.
ما يجري اليوم ليس خلافاً على حسابات أو أرقام، بل أزمة بنيوية تتعلق بطبيعة العلاقة بين المركز والأقاليم، بين دولة ما زالت ترى نفسها مركزية تقرر وحدها من يُحسب شريكاً ومن يُعاقَب، وبين مكوّن يطالب باعتراف وجودي ودستوري صريح.
الإقصاء لم يعد قصفاً أو أنفالاً، بل تجويعاً منهجياً وتعطيلاً للدستور، بأساليب تتجدد، لكن بروح قديمة لا تختلف كثيراً عن عقلية التسلط في القرن الماضي.
إن الكرد، رغم اختلافاتهم السياسية والفكرية، يتفقون على جوهرٍ واحد: أن لهم وجوداً وهوية قومية وتاريخية وجغرافية ودستورية لا يمكن التنكر لها. لا خلافاتهم الداخلية، ولا تعددية انتماءاتهم العقائدية، ينبغي أن تُستخدم كذريعة لحرمانهم من حقوقهم الأساسية. وما لم تُراجع بغداد تصورها للعقد الوطني، وتكفّ عن استخدام الأدوات الاقتصادية كوسائل إخضاع، فإن الدولة العراقية ستبقى تدور في حلقة مفرغة، عنوانها الإقصاء وتكرار الفشل.
الحل لا يكمن في مناورات قانونية، بل في اعتراف حقيقي بشراكة الكرد، كشعب له مكانته ومساهمته وتضحياته، فالدولة التي تُقصي جزءاً من مكوناتها لا تبني استقراراً، بل تنتج مزيداً من الأزمات، ولو بعد حين.