احتجاجات فرنسا ومصير الليبرالية الجديدة

ضع اليسار واليمين والنقابات والأحزاب جانبا وأنظر إلى مطالب الطبقة الوسطى الفرنسية لتقدير عمق الأزمة.

عندما طالب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في احتفالية القرن لانتهاء الحرب العالمية الثانية بإنشاء جيش أوروبي موحد، ثارت ثائرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، معتبرا هذا التصريح استفزازا للمنظومة التي تقودها الولايات المتحدة، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. وبصرف النظر عن خلفيات هذا الربط، ثمة أزمة حقيقية تسود النظم السياسية وتضعها أمام تحديات توجب الإجابة عنها. ومن بينها طبيعة النظم التي سادت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية وإعادة تظهير الليبرالية الجديدة كايدولوجيا قادرة على استيعاب واحتواء المشاكل الاجتماعية الاقتصادية السائدة.

وفرنسا التي اعتبرت مهد هذه النظرية أواخر العقد الأربعين من القرن الماضي، اتسمت بميزة البحث الدائم عن الرفاهية الاجتماعية في ظل نظام ليبرالي حر حاول التميّز به عن نظم أخرى، وبدا في الكثير من جوانبه نظاما موجها يراعي حقوق ومطالب فئات الطبقة الوسطى التي تشكل ثمانين بالمئة من مجتمعه. إلا أن السياسات التي اعتمدت في مختلف الحقبات الرئاسية أدت إلى ضمور ميِّزة الرفاه الاجتماعي لصالح سيطرة الشركات الكبرى وترسيخ قوانينها وضوابط حماية مصالحها، الأمر الذي أدى بديمومة الصحوات النقابية والحزبية في مواجهة تلك الظاهرة، والتي عُبِر عنها في العديد من المحطات الكبرى، ومن بينها الاحتجاجات في عهود الرؤساء ديغول وميتران وشيراك وصولا إلى ماكرون.

إلا أن ما جرى مؤخرا ينذر بصور مختلفة للواقع الفرنسي والذي امتد لساحات أخرى كبلجيكا وايطاليا وغيرها من ساحات مرشحة لاحقا، وبدت الأمور وكأنها تنفلت من عقالها لتنتقل من حالة المطالب الاجتماعية إلى مستويات سياسية وصولا إلى الدعوة لاستقالة الرئيس وانتخابات مبكرة وغيرها، وكأنها على طريقة الربيع العربي مؤخرا. ومن الصعب التعمية على هذا المشهد الذي نزل فيه أكثر من خمسة وسبعين إلف متظاهر خارج إطار الأحزاب والنقابات وهي ظاهرة ملفتة وذات دلالات لافتة ووسط أعمال شغب واسعة، أدت إلى تراجع الرئيس ماكرون وتقديمه تنازلات اعتبرت مدخلا لتسوية مؤقتة بالتأكيد ستنفجر لاحقا بعد ستة أشهر وفقا لجدولة المطالب التي قدمت.

في أي حال، إن تجميد الضرائب والرسوم على مستلزمات الطاقة أو الغائها ليس الحل، وهو بطبيعة الحال تأجيل للمشكل الكبير المتعلق بالسياسات الاقتصادية الفرنسية التي تعتبر مقياسا وازنا للبيئة الاجتماعية الاقتصادية الأوروبية. فهل ستظل الليبرالية الجديدة معتنقا ومجال تسويق للسياسات الفرنسية وغيرها في وجه الطبقات الوسطى التي بدأت بالضمور في مختلف الدول الأوروبية، ليحل مكانها طبقتا الغنى الفاحش والفقر المدقع الذي يتبلور يوما بعد يوما وبخاصة في أحزمة الفقر في العديد من العواصم الأوروبية.

فسياسات رفع الضرائب والرسوم والإحجام والتراجع عن دعم السلع الأساسية، وسياسات التخصيص، وتخلي الدولة عن دورها الراعي المفترض، إضافة إلى تمكين الشركات العابرة للحدود من اخذ دور الدول والأنظمة في فرض السياسات، جميعها مظاهر أدت وستؤدي إلى كشف مثالب وثغر الليبرالية الجديدة التي ظهرت كبديل رقيق للرأسمالية الفجة. والسؤال الذي يطرح حاليا، هل أن ما جرى في شوارع باريس هو تعبير عن واقع اجتماعي مرفوض؟ أم أن تظهير التبرم والتذمر الاجتماعي وراءه خلفيات أخرى؟

من الصعب إنكار أو استبعاد الجوانب الاجتماعية من الاحتجاجات مما يستدعي التساؤل فعلا عن قدرة الليبرالية الجديدة في احتواء المشاكل الاقتصادية الاجتماعية،أم أن ثمة خلفيات تحرك هذه الاحتجاجات؟ وكما هناك صعوبات وازنة ومقنعة لعدم استبعاد الفرضية الأولى، هناك مؤشرات لصحة الفرضية الثانية، وهي تأجيج الوضع الاجتماعي السياسي الداخلي في فرنسا وحتى بعض الدول الأوروبية الأخرى، في محاولة لإبقاء تلك الدول تحت سيطرة السياسات الأميركية. وهذا ما جعل الرئيس الأميركي يرد بعنف على الرئيس ماكرون حول الجيش الأوروبي الموحد. وما يعزز بعض جوانب هذه الفرضية حجم أصحاب السترات الصفراء وما تحقق عبرهم من مطالب، في غياب قيادة واضحة ومعروفة لهم، فهل يرسم لفرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى ما رسم للعرب في ربيعهم المفترض؟ الإجابة على ذلك يستلزم بعض الوقائع والوقت.