استنساخ صين جديدة

الصين تستخدم الحيلة لإخضاع العالم بطريقة ملتوية، وذلك بتكوين شراكات جديدة مع دول العالم الثالث الهشة اقتصاديًا وسياسيًا.
الأراضي الخصبة التي تصلح أن تصير مرتعًا فسيحًا للصين هي قارة أفريقيا
الصين أعطت لجيبوتي إعانة مالية ضخمة في هيئة قرض مُيَسَّر يتم تسديده على أقساط

إذا أردت السيطرة على فرد، يجب عليك أولًا محاصرته من كل جانب؛ حتى تنعدم فرصة وجود ملجأ آخر له سواك، وحينها، يصير بمقدورك وبكل سهولة تشكيل رغباته وفق أهوائك؛ وإخضاعه، والتحكم فيه كيفما شئت. تلك الخُطة الشريرة التي تحدث يوميًا على مستوى الأفراد قديمة كقدم الدهر، وفي كل مرة تُثْبِت نجاحها؛ لأن الشخص المتلاعب يعلم جيدًا كيفية النفاذ إلى الضحية والإيقاع بها عن طريق خداع ووهم يمس نقاط ضعفها. وللأسف، لا تتمكن الضحايا من اكتشاف ذاك الشِرك إلا بعد الوقوع في المحظور. ولو كان ذلك يحدث على مستوى الأفراد العادية التي لا تُنْصِت لصوت العقل، فمن المحزن أن نعلم أن تلك الخطة عينها تلجأ إليها دول لإخضاع واستعمار دول أخرى ماديًا وفكريًا وثقافيًا. 
وفيما يبدو أن الصين تستخدم نفس الحيلة لإخضاع العالم بطريقة ملتوية، وذلك بتكوين شراكات جديدة مع دول العالم الثالث الهشة اقتصاديًا وسياسيًا، تحت غطاء تطوير تلك الدول ومساعدتها على النهوض اقتصاديًا حتى تستقطب موارد دخل جديدة تحسن من حالتها الاقتصادية. ومن ثمَّ، يعم الخير والرخاء على الجميع. ومن هذا المنطلق كانت مبادرة "الحزام والطريق" التي أطلقتها الصين، والتي هي بالأساس الغرض منها الاستيلاء على دول الحزام، وتطويق الدول الصناعية الكبرى ومحاصرتها اقتصاديًا، وجغرافيًا. 
ومن الأراضي الخصبة التي تصلح أن تصير مرتعًا فسيحًا للصين هي قارة أفريقيا. من الناحية الجغرافية، تعد أفريقيا قلب العالم القديم والحديث؛ فهي ذات موقع متميز يطل تقريبًا على جميع المنافذ المائية العالمية التي تربط العالم بعضه ببعض. ففي شمال أفريقيا، يوجد واحدًا من أهم المعابر الملاحية العالمية، وهو قناة السويس التي تربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، مع العلم أن من خلال البحر المتوسط يمكن النفاذ إلى المحيط الأطلسي، ومن خلال البحر الأحمر يمكن النفاذ للمحيط الهندي. وبالوصول إلى جنوب البحر الأحمر، يوجد واحد من أهم البوابات الاستراتيجية التي من جراء إغلاقها يمكن إعاقة الحركة التجارية والحربية العالمية، وتلك البوابة هي مضيق باب المندب الذي تتسابق دول العالم على السيطرة عليه؛ لأهميته الجيوسياسية. لكن فيما يبدو أن الصين قد سبقت كل هؤلاء بإغراء دولة جيبوتي بتطوير موانيها – والتي بالطبع تشتمل على مضيق باب المندب – في ظل مشروع "الحزام والطريق"، أو طريق الحرير القديم للصين. 
ولإحداث هذا التطوير، أعطت الصين لجيبوتي إعانة مالية ضخمة في هيئة قرض مُيَسَّر يتم تسديده على أقساط سنوية. لكن الشرط الجزائي الذي فرضته الصين في عقد الشراكة هو أنه في حالة عدم إلتزام أي دولة في تسديد الأقساط، يخول ذلك الصين الاستحواذ على مواني الدولة تحت غطاء حق الانتفاع بالميناء لفترة 99 سنة، ولقد حدث ذلك بالفعل بالنسبة لدولة سريلانكا. وبالطبع، في حالة عدم مقدرة دولة جيبوتي الفقيرة التي تنضح بالفساد على تسديد أقساط مديونيتها، لسوف تستحوذ الصين على مضيق باب المندب ذي الأهمية الحيوية الجيواستراتيجية. 
أضف إلى ذلك، شيَّدت الصين بالفعل قاعدة عسكرية بحرية على أراضي جيبوتي بتكلفة 600 مليون دولار؛ أي أنه صار لدى الصين القدرة على الهجوم وقصف أي سفينة تشعر أنها تهدد مصالحها. 
ولقد سبقت الصين الولايات المتحدة وجميع الدول الأخرى في الاستثمار في أفريقيا السوداء؛ لما وجدته فيها من سوق ملائم لاستيعاب تطلعاتها الاستعمارية، ورغبتها في زعامة العالم. مؤخرًا، تنبهت الولايات المتحدة لخطة الصين، وصارت على يقين أن ردع طموح الصين يحتم النفاذ لأفريقيا والاستحواذ عليها من خلال زيادة حجم الاستثمارات الأميركية، وتقديم المزيد من برامج المساعدة، وقبل أي شئ محاولة محو الصورة السيِّئة التي خلفتها السياسة الخارجية لترامب في أفريقيا، وخاصة وأنه كان يسِمَها بلقب: "حفرة القاذورات".

والصين عندما وطأت أفريقيا وجدت فيها الأمل الجديد لتحقيق إمبراطورية تضاعف من مكاسبها، وتستنسخ فيها ما مرت به من تجارب بداية من حقبة سبعينيات القرن العشرين. فلقد كونت الصين شراكات تجارية مع العديد من الدول لاستيراد المواد الخام، لوجودها بوفرة في المناجم الأفريقية، وبأسعار أقل من الأسعار العالمية. ويذكر أن غينيا صارت ثاني أكبر مصدر عالمي لمادة البوكسيت، وبذلك تحتل المرتبة التالية لأستراليا في تصدير ذاك الخام. ومع عقد شراكة مع الصين، فُتِحَت لغينيا آمال عريضة. ومن من هذا المنطلق، لا تشعر بغضاضة كبرى عند بيع خام الحديد للصين بسعر متدنٍ يصل لـ 90 دولار للطن الواحد، بعد أن تراجعت أسعاره، مخافة تراجع الطلب الصيني على خام الحديد.
وتجربة الصين مع غينيا وجيبوتي ما هما إلا نموذجين لحالات كثيرة؛ فالنفوذ الصيني في قلب دول القارة السمراء متزايد وكذلك استحواذها على المواد الخام للقارة، وكل ذلك متزامنًا مع الزيادة في حجم الاستثمارات. 
ويذكر أن في سبعينيات القرن الماضي بعد سن قوانين جديدة لرفع القيود على الحركة التجارية مع الدول الآسيوية، وكذلك على الاستثمار في تلك الدول، هرولت دول الغرب لآسيا للاستفادة من الأيدي العاملة الرخيصة والسوق الكبير الذي بكل سهولة يستعب حجم الإنتاج الضخم. وحاولت الولايات المتحدة أن تقتنص أكبر قدر من الاستفادة من القوانين التنظيمية الجديدة، ومن ثمَّ، ركَّزت استثماراتها في الصين. وحاليًا، بعد أن تبدلت أحوال الصين وصارت واحدة من الدول العظمى، وجدت أنها في رحلته المضنية تلك قد فقدت الكثير من ميزاتها التنافسية التي كانت تميِّزها عن باقي دول العالم أجمع. ولهذا، توجَّهت للقارة السمراء التي لا تزال خصبة على كل الصُّعّد.
وبمقارنة الصين بأفريقيا، نجد أن كبرى ميزات الصين التنافسية في الماضي كانت العمالة الرخيصة والمواد الخام. لكن تلك الميزات بدأت بالفعل في التآكل، وخاصة فيما يتعلق بالعمالة الصينية؛ فلم تعد عمالة رخيصة غير متطلبة لأنه ازدادت معدلات أجورهم واشتراطاتهم الصحية والبيئية لمكان العمل، لدرجة تقريبًا تضاهي متطلبات العمال في دول العالم الأول. أضف إلى ذلك، حياة الرفاهية التي أدمنها الشعب الصيني صارت تفرض عليه نمط حياة مختلف وتطلعات وظيفية مختلفة، فاستهدف المواطن الوظائف المرموقة، وبدأت الرغبة في قبول أي وظيفة في التناقص. في حين أن سكان القارة الأفريقية الذين يعانون من الفقر المدقع، تتشابه حالتهم بما كانت الصين عليه قبل فتح باب الاستثمار الأجنبي؛ يوجد بأفريقيا أضخم أسواق العمالة حجمًا وأرخصها أجرًا. أضف إلى ذلك، يتوافر بالقارة السمراء جميع المواد الخام اللازمة لقيام جميع أنواع الصناعات مهما كانت، بما في ذلك صناعات المستقبل المتخصصة بالروبوتات وعالم الفضاء، الذي بدأت الصين تغزوه بشدة.
وأما الخطر الحقيقي القادم هو ما كشف عنه تقرير الأمم المتحدة، والذي أعرب أنه بحلول عام 2100 لسوف يتراجع تعداد سكان العشر دول الأكبر حجمًا من حيث الكتلة السكانية، والتي كانت الصين على رأسهم، مما يعني أن الصين بسبب محاولة سكانها الحفاظ على مستويات الرفاهية التي وصلوا إليها، والسبيل لذلك تحديد النسل، وعدم الإقبال على الزواج، كما هو الحال في دول الغرب المتقدم. ولسوف يترتب على ذلك نتائج عكسية تضر بالمجتمع الصيني، ومن أهمها إصابة الدولة بالشيخوخة لتناقص عدد الشباب وزيادة عدد المسنين المُعَمِّرين، مما يعني أن الصين سوف تفقد أكبر قدر من الفئات العمرية الصالحة لسوق العمل. 
أضف لذلك، سوف تفقد الصين لقبها كواحدة من أكبر الأسواق الاستهلاكية في العالم، ومن ثمَّ، لن يجد المستثمر فيها السوق الرائجة لتصريف منتجاته. على النقيض، بحلول عام 2100، لسوف تكون أفريقيا أكبر المناطق من حيث النمو السكاني، ولسوف يؤدي ذلك إلى تحويلها لمنطقة جاذبة للاستثمارات. ومن هذا المنطلق، سارعت الصين بحفر مكانة مميزة وتنافسية لها بأفريقيا، سبقت بذلك كبرى دول العالم.
وبالنظر لماضي الصين الذي كان متخلفًا عن ركب مسارات التقدم والتكنولوجيا، يلاحظ أن المستثمر الأجنبي، وخاصة المستثمرين الأميركيين، قد قاموا بنقل جميع تكنولوجياتهم للصين دون إخفاء شيء، وقاموا بتدريب العمالة من الصفر حتى وصلوا لأعلى مراتب التفوق والتميز، سواء أكان ذلك من الناحية الفنية أو التكنولوجية أو الإدارية. وعلى هذا، قامت الصين ببناء حضارة متِينة البنيان أوصلتها لأن يتولد لديها القدرة على منافسة أكبر دولة عظمى بالعالم والتي قامت بتعليمها جميع خباياها وأسرارها، وبالطبع تلك الدولة هي الولايات المتحدة. والتساؤل هنا الذي يطرح نفسه، في عملية استنساخ أفريقيا لتكون صينا جديدة، هل ستقوم الصين بكشف جميع خباياها للأفارقة، أم ستتنبه لما زُلَّت فيه قدم الولايات المتحدة عندما هرولت للصين؟