اصطياد العقول النووية في إيران، في المعنى والمضمون والتداعيات
في ظل الصراع الإسرائيلي – الإيراني، اتخذت إسرائيل ما يُمكن تسميته بسياسة “قطع الرأس العلمي”، عبر استهداف واغتيال علماء نوويين إيرانيين بارزين، في محاولة لتعطيل أو إبطاء تقدم البرنامج النووي الإيراني بشكل مباشر، خاصة أن اصطياد العقول النووية في إيران والخبراء الذين يشكلون "ذاكرة" البرنامج النووي الإيراني وفق المنظور الإسرائيلي قد يؤدي إلى قلب معادلة البرنامج النووي الإيراني، وفي ظل ما يشهده الصراع الإيراني – الإسرائيلي في هذا التوقيت، فقد بات مؤكداً بأن إسرائيل انتقلت فعلاً لإستراتيجية "قطع الرأس العلمي" عبر فرق متخصصة، حيث يتم رصد العلماء وتصنيفهم حسب أهميتهم، واغتيال من يصعب تعويضهم إيرانياً بهدف تعطيل أو إبطاء التقدم النووي الإيراني بشكل مباشر.
السياسة الإسرائيلية في ظل الصراع الحالي وما بعده ستستمر، وهذا مُرجح جداً بالنظر إلى عمق الهواجس الإسرائيلية حيال إيران وبرنامجها النووي الذي يُشكل لها مظلة النفوذ الإقليمي، إذ ترى تل أبيب أن إزاحة العلماء الكبار في البرنامج النووي يخلق فراغاً مؤقتاً ويُربك القيادة العلمية للمشروع، خصوصاً أن بعضهم يمتلك خبرات لا يمكن نقلها بسرعة. لكن في المقابل، فإن إيران تملك قاعدة علمية واسعة وتستطيع تعويض خسائرها تدريجياً، ما يعني أن التأثير قد يكون مؤقتاً ويُبطئ البرنامج لكنه لا يوقفه بالكامل، وبين هذا وذاك فإن إسرائيل ستواصل استهداف العلماء النوويين في إيران طالما شعرت أن ذلك يعرقل البرنامج النووي، أما إيران ستعمل وفق إستراتيجية جديدة قوامها السريّة والتشدد حيال برنامجها النووي والعلماء الممسكين بخيوطه، وقد تسرّع تطوير قدراتها كرد فعل على السياسات الإسرائيلية، ما يُبقي الصراع مفتوحاً ويزيد من احتمالات المواجهة أو سباق التسلح في المنطقة.
إيران حتى الآن لم تتبع سياسة اغتيال العلماء الإسرائيليين بشكل مباشر، ربما بسبب صعوبة الوصول إليهم أو الحسابات السياسية، لكنها قد تلجأ لأساليب غير مباشرة مثل الهجمات السيبرانية أو استهداف مصالح إسرائيلية في الخارج كنوع من الردع أو الانتقام؛ نتيجة لذلك فإن التصعيد السيبراني أصبح سلاح إيران المفضل في ظل القدرات العسكرية والأمنية التي تمتلكها إسرائيل، وهذا في الحسابات الإيرانية أقل تكلفة وأقل خطورة من الاغتيالات المباشرة، ويمكن أن يُحقق نتائج مؤثرة مثل تعطيل منشآت أو تسريب معلومات حساسة دون ترك بصمات واضحة، وبطبيعة الحال فإن الهجمات السيبرانية بين إيران وإسرائيل أصلاً في تصاعد مستمر، وكل طرف يحاول إثبات قدرته على إرباك الآخر من خلف الشاشات.
إن اصطياد العقول النووية هي إستراتيجية وضعتها إسرائيل بغية تصفية العلماء الذين يمثلون الذاكرة والخبرة التراكمية للمشروع النووي، وليس فقط تدمير المنشآت أو المعدات. هي إستراتيجية تعتمد إسرائيل في تطبيقها على فرق استخباراتية متخصصة، وفي سياق التطورات الأخيرة فقد تمكنت إسرائيل من اغتيال أكثر من 9 علماء بارزين مؤخراً، بعضهم يمتلك خبرات يصعب تعويضها بسرعة.
بهذا المعنى فإن استهداف إسرائيل لعقول البرنامج النووي الإيراني يُعد تحولاً نوعياً في قواعد الاشتباك، وهو في العمق محاولة إسرائيلية ترتكز على قطع رأس البرنامج النووي الإيراني عبر القضاء على رأسماله البشري وخبراته المتراكمة، لا مجرد شلّ قدراته الفنية. النهج الإسرائيلي حيال العقل النووي الإيراني يرتقي بالصراع الإسرائيلي – الإيراني إلى مستوى جديد من التصعيد، خاصة مع التصريحات العلنية الصادرة عن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي تعهّد باستمرار العمليات حتى إزالة التهديد النووي الإيراني بالكامل، وضمن ذلك فإن إسرائيل باتت تتعامل مع العقول النووية الإيرانية باعتبارها ذات خطورة موازية للمنشآت النووية نفسها، وهذا ما يعكس رؤية تل أبيب للعلماء بوصفهم طرفاً فاعلاً ومباشراً في التقدم النووي العسكري، وتضعهم في مرمى الاستهداف.
السياسة الإسرائيلية حيال اغتيال العلماء النوويين في إيران تحمل بُعدين؛ الأول تكتيكي من خلال تعطيل المسار التنفيذي بالاستهداف المباشر للخبرات، والثاني هو بُعد رمزي ينطوي على رسالة واضحة بشأن جدّية إسرائيل في تعطيل المسار النووي الإيراني وفرض كلفة بشرية مرتفعة على مواصلة هذا الطريق، لكن في مقابل ذلك فإن السياق العام للنهج الإسرائيلي أظهر قدرة إيران على استيعاب الضربات وتجاوز آثارها عبر إعادة توزيع الخبرات وتدريب أجيال جديدة، ورغم ما حققته إسرائيل من نجاحات تكتيكية في ضربات استهدفت العقول المفكّرة للبرنامج النووي، فإن سيناريو الانتصار الكامل لا يزال محل تشكيك، خاصة أن الكثيرين يرون بأن تحييد الكوادر العلمية قد يُبطئ البرنامج النووي الإيراني لأشهر وربما لسنوات، لكنه لا يُلغي البنية التحتية المعرفية التي تتيح لإيران إعادة إنتاج خبراتها، بل إن مثل هذا الضغط، بحسب بعض التقديرات، قد يدفع طهران إلى تسريع خطواتها نحو التخصيب العالي في منشآت مثل فوردو ونطنز.
أهداف إسرائيل العميقة من سياسة تصيد العقول النووية الإيرانية يُمكن إيجازها بالآتي:
أولاً، إبطاء أو تعطيل البرنامج النووي الإيراني: الهدف المعلن والمباشر هو منع إيران من تطوير سلاح نووي أو صواريخ متقدمة عبر ضرب “العقول” التي تدير وتطور هذه المشاريع، حيث يصعب تعويض الخبرات الفريدة بسرعة، ما يخلق فجوة معرفية ويؤخر التقدم التقني.
ثانياً، زعزعة استقرار النظام الإيراني: إسرائيل ترى أن استهداف رموز القوة العلمية والتقنية يربك النظام ويضعف هيبته داخلياً وخارجياً، خاصة إذا ترافق مع ضربات ضد منشآت حساسة.
ثالثاً، الردع النفسي: إرسال رسالة واضحة لكل من يعمل في البرنامج النووي الإيراني بأنهم أهداف محتملة، ما قد يدفع بعضهم للابتعاد أو حتى الهجرة، ويزيد من تكلفة الانخراط في هذه المشاريع.
رابعاً، الحفاظ على التفوق التقني والعسكري: منع إيران من الوصول إلى تقنيات متقدمة، تضمن إسرائيل استمرار تفوقها النوعي في المنطقة.
الخلاصة أن محددات الإستراتيجية الإسرائيلية في هذا السياق ترتكز على استهداف العقول النووية كأداة فعالة لإبطاء المشروع الإيراني، لكنها تدرك أن التأثير لن يكون دائماً، ورغم ذلك ترى إسرائيل أن استهداف العلماء النوويين الإيرانيين هو "ضربة في القلب" للبرنامج النووي الإيراني لأن هؤلاء العلماء يمثلون الذاكرة والخبرة المتراكمة التي يصعب تعويضها بسرعة، خاصة أن إسرائيل تعتبر أن استبدال المعدات أو القادة العسكريين أسهل بكثير من تعويض العلماء، ولهذا تركز عملياتها على "العقول" وليس فقط البنية التحتية؛ في جانب موازٍ فإن الأهداف الإسرائيلية تتجاوز مجرد تعطيل البرنامج النووي؛ فهي تسعى أيضاً إلى زعزعة استقرار النظام الإيراني، وإحداث أثر نفسي وردع واسع بين العلماء، ودفع بعضهم للابتعاد أو حتى الهجرة خوفاً من الاستهداف، كما تهدف إسرائيل للحفاظ على تفوقها التقني والعسكري في المنطقة، ومنع إيران من تطوير أسلحة متقدمة أو صواريخ بالستية تهدد أمنها.
عمليات استهداف العقل النووي الإيراني تؤدي فعلاً إلى إرباك وتأخير بعض المشاريع النووية، لكن إيران لا تزال تملك قاعدة علمية واسعة وقدرة على تعويض الخسائر تدريجياً، ما يجعل التأثير قصيرا أو متوسط الأمد فقط. في المقابل فإن سياسة "قصف العقول" تخلق حالة من عدم الاستقرار والقلق داخل إيران، لكنها أيضاً تدفع النظام الإيراني لتشديد إجراءاته الأمنية وربما تسريع بعض مشاريع التسلح كرد فعل. الصراع بذلك يتحول من مجرد مواجهة عسكرية إلى سباق استخباراتي وتقني طويل الأمد، مع احتمالية تصعيد غير متوقع في أي لحظة.