الأزمات الوجودية المتشابكة مع رواية "النوم في حقل الكرز"

خطاب رواية أزهر جرجيس يقومُ على فكرة فحواها أنَّ العراق لم يعد مكاناً مناسباً للحياة ولا للموت في زمن التناحر والإقتتال والتسطح.
معالجة الإشكاليات الحضارية والثقافية إلى جانب محورية المفاهيم الوجودية هي ما يتميزُ به الإشتغال الروائي
التأمل الروائي ينهضُ على التساؤل والإفتراض

معالجة الإشكاليات الحضارية والثقافية إلى جانب محورية المفاهيم الوجودية هي ما يتميزُ به الإشتغال الروائي إذ يتحولُ العملُ الأدبي إلى فضاء تتجاورُ ضمنهُ الآراءُ والفرضيات بشأن الهواجس الإنسانية من الموت والحياة والغربة والهوية، هذا إضافة إلى مناقشة الأزمات المباغتة التي تفرضُ بدورها أسئلة جديدة. 
أدرك الكاتب العراقي أزهر جرجيس خصوصية العالم الروائي وانفتاحه على شتى المواضيع لذا تمكن من تمرير أسئلة متشعبة من خلال نصه الروائي المعنون بـ "النوم في حقل الكرز" الذي وصل إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر حيثُ يضع المتلقي أمام واقع مثخن بإحتمالات مرعبة. وما يضاعف من القيمة الأدبية لهذا النص هو عنصر اللغة المشحونة بإيحاءات بصرية، إضافة إلى المستوى الجمالي لهذا الجانب فإنَّ الإنفعالات النفسية يتمُ التعبيرُ عنها عبر الفنون البيانية وذلك ما يشدُ المتلقي إلى أجواء الرواية وسردها المنساب على إيقاع الأزمات التي تلاحق شخصياتها وتستشفُ مما يضمهُ العملُ بأنَّ الرغبة هي الدافع وراء حركة الشخصية الأساسية "سعيد" ما يسمعهُ من أحد السواح حول نرويج وشحة الرجال فيه مع وفرة اللمذات الحسية يداعب خياله متوقعاً بأنَّ هذا البلد يعوض خساراته المتراكمة وبذلك يتحقق حلم الوطن البديل غير أنَّ الإنتماء لمكان المنشأ يتجددُ نتيجة عدة عوامل منها الحربُ على العراق، ومُتابعة سعيد لوقائعها هذا فضلاً عن الكوابيس التي تداهمه إذ يتخيلُ وجود والده سائلاً إياه عن قبره. وهو لا يعرفُ شكل ناصر مردان الذي راح ضحية لسياسة متوحشة وما سمعهُ على لسان الآخرين عبارة عن معلومات مُتضاربة فثمة من يقولُ بأنهُ مات تحت التعذيب كما وصله خبر مقتله وإطعام جسده للكلاب، وأبلغ سعيد أيضاً بأنَّ والده قد قتل، ومن ثمَّ رمي  في نهر دجلة الكتوم. 
هذا التفصيل بشأنَّ مصير ناصر عدنان يوحي بمحورية قصته في مسار الرواية إذ لا يغاردُ طيف الوالد مخيال سعيد، ما يعني أنَّ هذا الموضوع يشكلُ عقدة بالنسبة للابن الذي يهمهُ البحث عن الحلقة المفقودة وسد الفراغ في براوز ينتظرُ الصورة.

رواية "النوم في حقل الكرز" تتضايفُ عدة قصصٍ بدءاً بحيثيات العلاقة التي تبدأُ من خلال الشبكة العنكبوتية بين سعيد والصحافية العراقية عبير

موطن الإحلام
تُورَث المأساة في ظل النظام الإستبدادي حيثُ يخسرُ فيه الإنسانُ مقومات كينونته ويصلُ التوحش لحدٍ تُحرمُ الضحية من حق أن يكونَ لها أثر يؤشر إليه بعد تصفيتها جسدياً الأمر الذي يزيدُ من قتامة الواقع وعبثية المصير. وقد لا ينجحُ من يكونُ مثقلاً بهذا الإرث الثقيل في إيجاد الحلول لأزماته الوجودية، لذا فإن بلاد الثلج التي يأمل سعيد أن تصبح وطناً بديلاً وأرض أحلامه لا تنتهي فيها هواجسه إذ يبدأُ هناك فصل آخر من المعاناة، وما ينمُ عن شدة التأزم هو تحديد الرقم بديلا عن الاسم للشخصيات المهاجرة، ومن هنا ينفتحُ قوس السرد لمناقشة الأصالة والحضارة وما تعنيه الهوية والجذور. يعلنُ سعيد بأنَّ الأمر لم يعد مهماً طالما يوجدُ أمل بأن يحظى بسرير دافيء في مكان آمن على حد قوله. 
وما يجدرُ بالذكر في هذا السياق هو الوقائع الموشومة بالمفارقات؛ فحياة سعيد على نقيض مع معنى اسمه إذ ليس له نصيب من السعادة، كما أنَّ المدينة التي ولد فيها وسميت بدار السلام لا تتوقف فيها رحى الحرب. لذلك تسرب الخوفُ إلى تكوينه الشخصي. كما أن التاريخ أسبغه ألقاباً عديدة "ابن الرافدين، حفيد جلجامش، ابن خالة حمورابي"، وما أورثه كل ذلك سوى الخيبات والإنكسارات. 
عطفاً على ما سبق ذكره يلمحُ الراوي المتكلم بضمير الأول إلى حشد من الهاربين من ميليشيا دينية تنكل بالمارقين والمنكوبين من الحروب الضارية والجوع والقهر، وبذلك يمررُ جرجيس أسئلة ضمنية عن مفاهيم فكرية وثقافية، ومن الواضح أنَّ "النوم في حقل الكرز" تتقاطع على هذا المستوى مع ما يسمى بروايات الأطروحة دون أن تخسر خصائصها الأدبية.
الأطروحة المضادة
ينهضُ التأمل الروائي على التساؤل والإفتراض حسب تعبير ميلان كونديرا، ضفر أزهر جرجيس نصه الروائي بأسئلة إشكالية كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك ويفترضُ رؤية مغايرة للتواصل مع الآخر ومن المعلوم المغامرات العاطفية تمثلُ في الرواية العربية غزوا رمزياً لبلاد الغرب حيثُ يثأر الرجل بفحولته للشعوب المقهورة وذلك يتجسدُ بالوضوح في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" لكن الكاتب العراقي أزهر جرجيس في "النوم في حقل الكرز" خالف هذا النسق المهمين في مرويات المنفي إذ يصبحُ التواصل الجسدي بين بطله سعيد والأستاذة النرويجية تونا وجها للقاء الحضاري، كما أن إعجاب العشيقة النرويجية بقصيدة "أنشودة المطر" يؤشر إلى دور الثقافة في تضييق الشرخ القائم بين الهويات المختلفة. 
مؤدى هذه المعطيات هو إمكانية تشكيل فكرة جديدة مطبوعة بنزعة انسانية للعلاقات العاطفية والإنفتاح الحضاري، ولا تأتي الإشارة إلى قصيدة السياب إعتباطاً بل يعبرُ المؤلف من خلالها عن حنين شخصيته الروائية لإرثها الثقافي والحضاري والإعجاب الشديد بالبعد الجمالي في عالم السياب الإبداعي. 

Literary criticism
كن عراقيا لتكون حزيناً

ويشيرُ صاحب "صانع الحلوى" في تضاعيف عمله إلى الملمحة الجدارية لجواد والمرادُ من الدفع بهذه الرموز الثقافية إلى واجهة المتن الروائي هو بناء صورة مختلفة للمكان الطارد لأبنائه، كأن أزهر جرجيس أراد بذلك ترميم المعلم الحضاري لبلده.
ملمحُ أخر من الرواية يتناولُ ظاهرة التدين المزيف بعد انتهاء عهد الديكتاتورية إذ يبدو أنَّ الواقع قد زاد رثاثة وبؤساً إثر موجة مظاهر التدين السطحي وبينما سعيد يذهبُ إلى بيت خاله سماحة السيد إبراهيم فإذا به تقع عيناه على ما هو مكتوب على جدار إحدى المدارس "عمامة وسبع طويات وأربع محابس قبل السقوط بيوم زيتوني لابس" ويتفاجأُ بتحول خاله من بعثى متشدد إلى رجل الدين يتبع الأحزاب الدينية. 
يشار إلى أن النفس الساخر يتصاعد في المقاطع التي ترصد مظاهر بغداد بعد 2003 وينقلُ الراوي ما يصاحب الأزمات الحياتية من الأجواء المشبعة بالقتامة والملفت في هذا المفصل من الرواية هو تخيل الراوي لإنهيار نصب الحرية إذ يهمهُ إنقاذ الجندي لأنَّ الجندي إذا سقط تتهاوى الأوطان. هنا ينسل صوت المؤلف وراء قناع الراوي وعليه فإنَّ السردَ يتخذُ منحى تقريرياً وتتواردُ في فضائه المفردات المؤشرة إلى البعد الجغرافي لمدينة بغداد التى كان يسودها الوئام بين مكوناتها الإجتماعية قبل غزو التدين السطحي لمناخها السياسي والثقافي على الرغم من مراوحة بندول السرد بين عدة أمكنة لكن بغداد تكتسبُ موقعاً أساسياً كونها مُنطلقاً لحركة السرد.
حكاية الإطار 
تتضايفُ رواية "النوم في حقل الكرز" عدة قصصٍ بدءاً بحيثيات العلاقة التي تبدأُ من خلال الشبكة العنكبوتية بين سعيد والصحافية العراقية عبير حيثُ يتعرفُ على الأخيرة بعدما يتابع التقرير الذي نشرته عن مقبرة مُكتشفة مروراً بقصة سلام الذي يستقر به المقامُ في إستراليا وصولاً إلى قصة الحب التي تنشأُ بين سعيد وتونا ولا تكللُ إلا بالحزن، لذا يقولُ الراوي "كن عراقيا لتكون حزيناً" في معارضة لعبارة درويش كن عراقيا لتكن شاعراً.
وما يصبحُ حكاية الإطار للرواية هو بحثُ سعيد عن أثر أبيه، ولا تنتهي عودته إلى بلده إلا بصورة يلتقطها لعظام ناصر مردان ومُضاعفة الحزن بعد مقتل عبير. قبل أن يتحقق حلم اللقاء تتفاعلُ الرواية مع الأسطورة وذلك يتجلى في رغبة سعيد بدفنه إلى جانب قبر جاكوب تحت شجرة الكرز لتحل روحه في أغضانها. 
يقومُ خطاب الرواية على فكرة فحواها أنَّ العراق لم يعد مكاناً مناسباً للحياة ولا للموت في زمن التناحر والإقتتال والتسطح.